“جدار” في الرباط: حين يزدهر فنّ الشارع
في بداية العام الماضي، صنّف الموقع العالمي “آرتسي” (وهو منصة رقمية مرجعية في الفن الحديث، ويضمّ أكبر قاعدة بيانات للفن المعاصر على الإنترنت) مدينة الرباط ضمن اللائحة القصيرة للمدن الأكثر ملاءمة لممارسة فنّ الشارع في العالم، إلى جانب لوس أنجليس، بوينس أيرس، لشبونة، هونغ كونغ وميلبورن، وذلك لاعتبار هذه المدن “الناشئة” تستحق أن يشدّ إليها الرحال بعد أن صارت “تلبّي حاجيات فناني الشارع، من حيث الفرص التجارية والتعاون، وأيضاً لتواجدها في موقع جغرافي مناسب للتبادلات، يلهم الفنانين ويسمح لهم بالتحرك بشكل قانوني”.
لماذا الرباط بالتحديد؟ ربّما لأنّ المغرب عرف أشكالاً من تزيين الجدران على مدى قرون، مثل فنّ الزلّيج التقليدي والخطّ والنقوش التي تزيّن واجهات مباني العديد من المدن العتيقة، لكن الأكيد أنّ التزام الدولة بشجيع فن الشارع، من خلال مهرجان “جدار” مثلاً، كان هو السبب الرئيس والحاسم في اختيار الرباط ضمن هذه اللائحة.
قد يكفي أحياناً أن نرفع أعيننا إلى جدران المباني والعمارات للتعرّف على نبض مدينة ما ومدى مواكبتها لروح العصر. فالجدران هي كلمات المدن السرية، وحين نقرأها جيداً نستطيع أن نفهم ما الذي تريد قوله لسكّانها وزوّارها.
لنأخذ الرباط مثلاً، التي تعرف منذ أربع سنوات ظاهرة جديدة تكتسح بالتدريج الكثير من جدرانها، إذ لا يمكن لأيّ زائر لهذه المدينة، ذات الأشكال المتداخلة من العمارة الحديثة والتراث المعماري الإسلامي والكولونيالي، إلّا أن يلاحظ وجود لوحات جدارية ضخمة تزيّن العديد من الأحياء، ويعود الفضل في ذلك أساساً لمهرجان “جدار”، الّذي انطلق عام 2015 بمبادرة من جمعية “لبولفار” والمؤسسة الوطنية للمتاحف، بهدف دعم الثقافات الحضرية من خلال فن الشارع.
وقد كان الطموح المعلن لهذا المهرجان في البداية هو تفكيك الحواجز الّتي تفصل الفن عن الشارع، ذلك لأن الفن – بمفهومه الحديث- لم يعد محصوراً في المتاحف وصالات العرض فقط، وإنّما نزل هو أيضاً إلى الشارع لكي يُمارَس ويُعرض أمام أعين الجميع، كما لم تعد جدران الإسمنت أو الحجر أو الطوب مجرد فواصل هندسية في الفضاء العمومي، وإنّما صارت صفحات تكشف وجه مدينة تعيش تحوّلاً ملحوظاً في السنين الأخيرة، ولوحات تعكس مصادر إلهام الفنانين الّذين أنجزوها في الهواء الطلق.
إنّ الأصل في فن الشارع هو الاحتجاج وإعلاء صوت الجماهير، الشباب منهم على الخصوص، وهو أيضاً وسيلة للخروج عن القواعد الجاهزة والمسلّمات للصراخ بصوت عال أو التعبير عن استياء عام، كما هو حال فن الغرافيتي المشاكس الذي خرج من معطفه فنّ الشارع بمفهومه الجديد، لكن كيف يمكن تفسير أن تدخل الدولة على الخطّ لتنظيم مهرجان لمحترفي هذا الفن والسهر على توفير الشروط لهم لكي ينجزوا رسومات على جدران المدينة؟
ربما يكمن الجواب في أنّ هذا التدخل يعكس رغبة أو قناعة ما بأهمية المساهمة في ما صار يعرف رسمياً بمشروع “الرباط مدينة الأنوار” أو “عاصمة المغرب الثقافية”، وهو شعار فضفاض ما تزال ملامح تنفيذه غامضة وغير مكتملة حتى الآن، كما قد يعكس أيضاً توافقاً وتواطؤاً صريحاً بين الدولة والهيئات المنظمة لهذا المهرجان، ورغبة السلطة في دعم هذا الفن الجديد “المتمرّد” بطبعه، ليس عن طريق “تدجينه” بالضرورة وإنّما عن طريق “تنظيمه” و”أنسنته”، إن صح التعبير، كما في تجارب دول أخرى، لتصل رسالته إلى جميع فئات السكّان، صغاراً وكباراً ومن كل الطبقات، ولعلّ هذا ما يفسر نجاح مهرجان “جدار: لوحات الشارع” واستمراريته حتّى الآن، ليصل هذا العام دورته الرابعة التي انطلقت في 16 من هذا الشهر وتستمرّ إلى غاية 22 منه.
- فنانون من أربع قارّات
سيشارك في هذه الدورة حوالي 12 فناناً من أربع قارات، هم: زوير ونيليو (فرنسا)، أمايا أراثولا ومورو أوني (إسبانيا) ، ديميتريس تاكسيس (اليونان)، ساينر (بولندا)، مينا هامادا (اليابان)، ديرزو أوسالا (المكسيك) وميلو كورّيش (الأرجنتين) وديسيرتر (البيرو)، إضافة لفنانين من المغرب.
وإذا كان البعد الفني ممثّلاً فقط في عشر لوحات جدارية سينجزها هؤلاء الفنانون المعروفون وطنياً ودولياً، فإن المهرجان كالعادة سينفتح على برامج موازية للإنجاز الفني، من ضمنها استضافة ثلاثة من الفنانين المدعوين في المدرسة الوطنية للهندسة بالرباط، حيث سينظم لهم لقاء مع الطلبة بهدف كسر الحدود وربط الصلات بين الهندسة المعمارية وفن الشارع،
وتنظيم ورشة تطبيقية لصنع الطواطم، كما سيتم إشراك الفنانين الناشئين وطلبة معاهد الفنون التشكيلية، عن طريق اختيار ثمانية منهم لتعلّم قواعد فن الجداريات، من خلال إنجاز جدارية جماعية على واجهة “سوق الأمل” بالحي الشعبي يعقوب المنصور، تحت إشراف الفنان المكسيكي ديرزو أوسالا المتمرس بفن الجداريات المكسيكي ذي التأثير العالمي، هو القادم من مدينة “كانكون” جنوب المكسيك، بوابة عالم وحضارة المايا القديمة، التي يستلهما كثيراً في أعماله الجدارية.
ويعتبر أوسالا أيضاً من المدافعين المتحمّسين عن الطبيعة والحياة البحرية، وقد بدأت أعماله الفنية المتميزة والمتجددة في الانتشار على الجدران الضخمة منذ 2014، بعد أن مارس فنوناً عدّة قبل أن يكرّس نفسه أخيراً لفنّ الشارع الذي تألّق فيه من خلال استخدام ألوان مميّزة وخيال جامح ومدهش. ومعروف عن الشخصيات التي يرسمها أنها تحمل دائماً أقنعة على وجوهها، أو تقتبس بعض سماتها من حيوانات معيّنة. كما أنّه يدمج، في أغلب أعماله، رموزاً مستوحاة من الثقافة المكسيكية، الّتي تشبع بها طيلة حياته.
وسيمثّل المغرب هذا العام الفنانة غزلان أكزنّاي، المولودة في طنجة عام 1988. وهي فنانة عصامية اشتغلت أولاً في مجال الاتصالات قبل أن تؤسس مع فنان آخر استوديو إبداعياً متخصّصاً في التصميم الفني. وقد سافرت إلى برلين، مدفوعة بطموحاتها الإبداعية،
وهناك تعرفت على فنّ الشارع عند اشتغالها مع فناني ال”لوي بروس”. وتحتضن العاصمة الألمانية حالياً اثنين من أعمالها المستقاة من عالمها الفني الحضري، المميّز بطواطمه الملونة وأشكاله الهندسية المستقبلية، والّذي تتبنّاه على طول الخطّ وتنثره في كلّ سفر من أسفارها الفنّية. وهي، بالمناسبة، أنجزت ملصق هذا المهرجان.
كما يمثّل المغرب أيضاً فنان آخر شاب هو إرامو سمير، المولود في الرباط، والّذي تنتمي أعماله إلى التصوير الإنساني. وقد بدأ الرسم والتشكيل عبر وسائط مختلفة، لكن ما يجمعها أنها تعرض وجوهاً تحت سماء شديدة الواقعية، قبل أن يضيف إليها رتوشات خطّية أكثر ميلاً لمناخات التنويم المغناطيسي.
وقد دفعه إتقانه الكبير لرسم تعابير الوجه، والتجاعيد، والسحنات والسمات الهوياتية، إلى نقل أعماله إلى الجدران، وهي معروضة في كثير من المدن المغربية، لعلّ أشهرها تلك اللوحة الجدارية الضخمة في أحد الشوارع الرئيسة بمدينة الدار البيضاء.
- تفويض لاستلهام التراث
حرص منظمو هذه الدورة على التذكير بأنّهم يمنحون الفنانين تفويضاً مطلقاً في اختيار مواضيع أعمالهم الفنية التي تستلهم التراث الشعبي بالأمس واليوم. وهذا في حدّ ذاته دعوة للانفتاح على التراث المغربي وإغناء التعددية الثقافية التي يطمح لها المهرجان. وسواء استندت الأعمال إلى بورتريهات ضخمة أو أشكال هندسية تجريدية، تنهل من فن الجداريات أو من الرسم الفني الزخرفي،
فالأكيد أن هذه اللوحات الجدارية الضخمة، التي قد تندرج أو لا في سياق التراث، سوف تغذّي الخيال الجمعي للجمهور على مدى سنوات. وفي المقابل، سوف تغذّي مدينة الرباط خيال هؤلاء الفنانين لتنعكس في أعمال جديدة قد ترى النور يوماً ما على جدران مدن أخرى، تحت سماوات دول وقارات أخرى.
لقد عرف فن الشارع في المغرب انتعاشاً خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً مع حركة “نايضة” الطليعية في بداية الألفية، رغم أنه ما يزال يعاني تمزّقاً وتجاذباً كبيرين بين الرغبة في الحرية والاحتجاج والإبداع، من خلال فورة وحمّى الفن الّتي تجتاح اليافعين والشباب المغاربة، وبين شروط واقع ما تزال تعشّش فيه ثقافة محافظة وقيود سياسية وأخلاقية لا يمكن تجاهلها بسهولة.
وفي الحقيقة، لا يمكن أن نغفل أنّ الثقافة الحضرية تبقى رهينة بتحوّلات دائمة تتأثّر بما يستجدّ في الخارج وما يتيحه الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من آفاق جديدة. لكن رغم ذلك، فإنّ من شأن التعبير الفني من خلال فنّ الشارع أن يعيد تشكيل هويّة فنية مغربية بديلة منفتحة ومتعدّدة، بإمكانها أن تساهم في تفكيك تناقضات الثنائية الأزلية بين الحداثة/التقاليد في المجتمع المغربي، وذلك بدعم وتشجيع الشباب على الاستثمار في فضاءات تعبيرية خصبة وغنيّة، شرط أن تنتفي معها الوصايات الثقافية والزعامات النخبوية البائدة.