المُدن العربيّة ودَورُها في الحوار الحضاريّ
عبر تاريخٍ موغلٍ في القِدَم، شكَّل طريق الحرير إحدى أبرز قنوات التواصُل التجاريّ والتفاعُل الثقافيّ بين الصين وباقي الشعوب الآسيويّة.
وقام الرحّالة والتجّار وكَتَبَة المذكّرات بدَورٍ بارزٍ في تفعيل الحوار الإيجابيّ الذي عزَّز الانسجام بين الحضارات الآسيويّة والتواصُل مع باقي الحضارات الإنسانيّة. لكنّ هذه المقالة تركِّز بصورة مكثّفة جدّاً على أهميّة المُدن العربيّة في قيادة ثلاث محطّات رئيسة من الحوار التفاعليّ بين الحضارات الآسيويّة والأوروبيّة.
تحت عنوان: “من صور إلى صور ومن لبنان إلى عُمان” نشرَ مَوقِعٌ عُماني على الإنترنت بتاريخ 9 حزيران (يونيو) 2009 تقريراً مهمّاً تضمَّن تلخيصاً مكثَّفاً لرؤية مؤرّخين عُمانيّين لعلاقة صور العُمانيّة بصور اللّبنانيّة ودَورهما البارز في التفاعل الاقتصادي والثقافي بين الحضارات الآسيويّة على طريق الحرير. وصفَ المَوقِع صور العُمانيّة بأنّها “مدينة عملاقة ذات تاريخٍ عريق يوم كانت عُمان تُعرف باسم مجان.
وهي إحدى المُدن التي استوطنها الفينيقيّون في الخليج منذ 7000 سنة قبل الميلاد وكانت معروفة جدّاً على شواطىء الخليج العربي وجنوب أفريقيا، وشبه القارّة الهنديّة، وفي أرجاء آسيا. واشتهرت صور بصناعة السفن البحريّة، والصيد البحري، ووُصفت بدرّة الساحل الشرقي لسلطنة عُمان”.
- المرحلة الأولى: عبر طريق الحرير التاريخيّ بشقَّيه البحريّ والبريّ
في شرقي البحر المتوسّط أقام الفينيقيّون مُدن جبيل وصور وصيدا وأوغاريت وكانت لهم علاقات تجاريّة وثقافيّة مع مصر منذ الألف الثالث قبل الميلاد؛ ثمّ أصبحت صور الوريثة الشرعيّة لمدينة جبيل فحملت منها اللّغة الأبجديّة، وأَطلقت الصباغ الأرجواني، وصناعة الزجاج الملوَّن، وفنون المِلاحة البحريّة إلى جميع مناطق حوض البحر الأبيض المتوسّط.
وأقامت مُدناً مهمّة أبرزها قرطاجة، ومستوطنات كثيرة على السواحل الشماليّة للقارّة الأفريقيّة، وعلى السواحل الجنوبيّة للقارّة الأوروبيّة. وبقيت مدينة صور لقرونٍ عدّة سيّدة التجارة والتفاعل الثقافي بين الشعوب الآسيويّة، والأفريقيّة، والأوروبيّة عبر المتوسّط إلى أن دمَّر الإسكندر المقدوني الكبير صور البحريّة بعدما رفضت الخضوع له.
استمرّت قرطاجة لفترة زمنيّة طويلة مدينةً مُزدهرة جدّاً، فنافَست روما على مختلف الصعد؛ ثمّ تجرّأَ ملكها هانيبعل على مُحارَبة روما في عقر دارها وانتصرَ عليها في معركة “كان” الشهيرة لكنّه هُزم لاحقاً في معركة “زاما”. فأطلق الرومان صرخة الانتقام “لتدمير قرطاجة”. فدُمِّرت فعلاً بصورة همجيّة وأصبحت أطلالاً لأنّها تجرّأت على مُحارَبة روما الأوروبيّة.
لقد قامت المُدن الفينيقيّة على سواحل البحر الأبيض المتوسّط بدَورٍ رائدٍ في التبادُل التجاري، والتفاعُل بين الثقافات الآسيويّة والأفريقيّة إلى أن دمَّرتها القوى الزاحفة من شمالي أوروبا إلى البحر المتوسّط، فانتهى الحوار الحضاري بين الشعوب الآسيويّة والأوروبيّة بصورة مأسويّة.
- المرحلة الثانية: تفعيل الحوار الثقافيّ في دمشق وبناء بَيت الحِكمة في بغداد
بُنيت الركائز الأولى للحُكم الإسلامي في مكّة والمدينة والكوفة زمن الخلفاء الراشدين الذي استمرّ لفترة قصيرة؛ ثمّ تولّى الأمويّون السلطة، فانتقل مَركز الحُكم إلى دمشق، وتحوَّلت الخلافة إلى مِلكٍ وراثيّ. أصبحت دمشق عاصمة السياسة، ومَركز الحُكم، ومُلتقى العُلماء، وقاعدة التبادُلات التجاريّة، ومُنطلقاً للفتوحات العسكريّة شرقاً وغرباً.
فوصلَ حُكم الأمويّين إلى الهند، وبلاد السند، وآسيا الوسطى، والصين شرقاً، وإلى شمالي أفريقيا على البحر الأبيض المتوسّط والأندلس في إسبانيا الأوروبيّة غرباً. وتمّ تعريب الدواوين، ونشْر الحضارتَين العربيّة والإسلاميّة في الصين، والهند، وبلاد فارس، وفي الغرب الأوروبي عبر الأندلس وشمالي أفريقيا.
انتقلَ مَركز الخلافة بعد ذلك إلى بغداد إبّان حُكم العبّاسيّين. وبلغت الحضارة العربيّة عصرها الذهبي، اقتصاديّاً وثقافيّاً، في عهد الخليفة هارون الرشيد وابنه الخليفة المأمون. فازدهرت تجارة بغداد بصورة غير مسبوقة، وامتلأت خزائنها بالذهب، وباتت قوافلها تجوب مُختلف مَناطق العالَم. وأقام هارون الرشيد علاقات تجاريّة واسعة مع الشرق الآسيوي عبر الهند والصين والغرب الأوروبي في عهد الإمبراطور شارلمان.
وخاطبَ الغَيمة الماطِرة العابرة بقوله: “إذهبي وامطري أنّى شئتِ فإنّ غلالك ستعود إلّي”. وبعد وفاته في مدينة الرقّة في بادية الشام، روى بعض المؤرّخين أنّ سبعة عشر جملاً خرجت منها إلى بغداد محمَّلة بالذهب والسلع الثمينة.
بنى الخليفة المأمون “بَيت الحكمة” في بغداد الذي شكَّل حاضنة دافئة للإبداع الثقافي في مختلف حقول المعرفة كالفلك، والطبّ، والرياضيّات، والعلوم المتطوّرة، والفلسفة، والأدب، والتاريخ، وغيرها. وقيل إنّ الخليفة المأمون كان يدفع مكافأة عن الكِتاب الجيّد، سواء أكان مؤلَّفاً أم مُترجَماً، مقدار ثقله ذهباً. فانتعشت في أيّامه حركة التأليف، والمُناظرات الثقافيّة، والفلسفة العقلانيّة. وازدهرت حركة الترجمة من الفارسيّة واليونانيّة ولغاتٍ أخرى إلى السريانيّة ومنها إلى العربيّة.
وتَرجَم السريان وغيرهم بعض كنوز الثقافات الصينيّة، والهنديّة، والفارسيّة، واليونانيّة، والعربيّة إلى لغاتٍ عدّة، ومنها انتقلت إلى لغاتٍ أوروبيّة. وأَطلق “بَيت الحكمة” حركةَ تفاعُلٍ ثقافيّ وحضاريّ كبيرة جدّاً لا تجد مثيلاً لها في تاريخ العلاقات الثقافيّة بيين الشعوب الآسيويّة والأوروبيّة.
- المرحلة الثالثة: الأندلس رائدة التفعيل الثقافيّ بين الحضارات الآسيويّة والأوروبيّة
تراجَع دَور بغداد بسبب الصراع على السلطة بين العرب والفُرس والأتراك وجنسيّات أخرى؛ ثم تتالَت غزوات التتار والمغول وغيرهم على المنطقة العربيّة، فأَضعفَت مَوقع العرب السياسي والاقتصادي والثقافي، بحيث خضعَت الشعوب العربيّة لقيادات غير عربيّة من قوميّات مُختلفة.
وسرعان ما برزَ مَركزٌ حضاري عربي آخر داخل أوروبا بعدما انتقلت شعلة الثقافة العربيّة الدمشقيّة إلى الأندلس في إسبانيا. فقامت بدَورٍ فاعلٍ في التفاعُل الحضاري بين الشعوب الآسيويّة والأفريقيّة والأوروبيّة. ووصل الحوار الثقافي بين تلك الحضارات إلى أعلى مَراتبه.
أَسهمت المُدن الأندلسيّة في تعريف الغرب مباشرة بالثقافات الآسيويّة والأفريقيّة المنقولة من لغاتها الأصليّة إلى اللّغة العربيّة ومنها إلى لغاتٍ أوروبيّة. واستوطنَ الغربُ أفضلَ ما في الثقافات الآسيويّة من علومٍ متطوّرة، وفلسفة، وآداب، وفنون، وشهدت أوروبا نهضة عِلميّة وثقافيّة تركت بصماتها فاعِلة في الثقافات الكَونيّة المُعاصِرة.
- تجاهُل الغرب الثقافات الآسيويّة ودَور المُدن العربيّة في نقلها للغرب
استفادَ الأوروبيّون كثيراً من كنوز الثقافات الآسيويّة وطوّروها بأساليب عِلميّة حديثة. وأَنصف المؤرِّخ الفرنسي غوستاف لوبون العرب في كِتابه “حضارة العرب”، وامتدحَ المؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي دَور الحضارات الآسيويّة في مجموعته الرائدة عن تاريخ الحضارات التي خصّها بمُجلّد عن الحضارة الفينيقيّة ودَورها الرائد في التفاعُل الحضاري بين آسيا وأوروبا.
لكنّ عدداً كبيراً من المؤرّخين الأوروبيّين الذين دوَّنوا ذلك التفاعُل لم يعترفوا بأهميّة الثقافات الآسيويّة بل روَّجوا لمركزيّة الثقافة الأوروبيّة الحديثة ودَورها الرائد بعد أن تجاوزت جميع الثقافات التي سبقتها. بيد أنّهم شدّدوا على دَور الحضارة اليونانيّة بصفتها القاعدة الصلبة لنهضة أوروبا الحديثة.
فاعتبروها منطلقاً لحضارة أوروبا بصفتها الوريثة الأرقى بين الحضارات القديمة. وصنَّفوا الثقافة الأوروبيّة بأنّها وريثة الحضارة اليونانيّة والفاعِل الأساس في الحضارة الكونيّة المُعاصِرة بوصفها الأكثر تطوّراً في مجال العلوم العصريّة والتكنولوجيا المتطوّرة.
نخلص إلى القول إنّ مؤرّخي الثقافة الأوروبيّة الحديثة تجاهلوا دَور الصين، والهند، والفرس والعرب، والفراعنة، وبلاد ما بين النهرَين، في تطوُّر الحضارات الإنسانيّة. وأغفلوا ذكر المُدن العربيّة في نشر الثقافات الآسيويّة بين الشعوب التي كانت تتفاعل اقتصاديّاً وثقافيّاً عبر طريق الحرير التاريخي، ثمّ نقلوها عبر الأندلس إلى الشعوب الأوروبيّة.
وبعد أن فرضت الولايات المتّحدة سيطرتها على العالَم بالقوّة العسكريّة، تبنَّت مقولات “نهاية التاريخ”، و “صدام الحضارات”، و “الفوضى الخلّاقة” التي تهدِّد الاستقرار والعَيش المُشترَك في كثير من الدول، وبخاصّة الآسيويّة والأفريقيّة منها.
ختاماً، تمتلك الحضارات الآسيويّة عناصر القوّة الذاتيّة في الاستجابة للردّ الحضاري الضامن الأساسي للتعايش بين الشعوب والحضارات. لذلك يدعو المثقّفون الآسيويّون إلى قيام عَولَمةٍ أكثر إنسانيّة من العَولمة الاستهلاكيّة التي عمل الغرب على فرْضها بالقوّة فقادت إلى حركة تغريب ثقافي أساءت إلى شعوبٍ كبيرة ذات حضارات إنسانيّة مُعترَف بها عالَميّاً.
وأسهمت الأبحاث العِلميّة المعمَّقة برعاية منظّمة اليونسكو في لفت الانتباه إلى أنّ الحضارات الآسيويّة قادرة على مُواكَبة تبدّلات عصر العَولَمة كما أثبتت تجربة اليابان والصين والهند.
وهناك اعترافٌ دولي بأنّ الحضارات الآسيويّة كَتبت فصلاً رائعاً في تاريخ الإنسانيّة. ومن أولى واجبات المثقّفين التنويريّين اليوم ابتكار طُرق جديدة لتطوير القوى المُنتِجة للحضارة الكونيّة ومعها ركائز التقدّم الحضاري، وتحقيق إنجازاتٍ تنمويّة تتجاوز القارّة الآسيويّة لتُصبح مَكاسبَ إنسانيّة للعالَم بأسره.
ففي عالَمٍ تتعايش فيه حضارات وثقافات متعدّدة الأشكال والتجلّيات، تمتلك كلّ حضارة فيه قيَماً روحيّة لشعب معيّن، يُمكن للشعب احترام حضارته ونقْلها من جيلٍ إلى جيل. كما أنّ قوى التغيير الجذري في عصر العَولمة مُطالَبة باحترام القيَم الحضاريّة والإنسانيّة الجامِعة والقادرة على الحدّ من سلبيّات ثقافة العَولَمة الاستهلاكيّة. و
من حقّ شعوب القوميّات والدول الصغيرة أن تُمارِس العيش الكريم، وأن تُحترَم خصوصيّاتها الثقافيّة والحضاريّة. فاحترام الآخر، والعيش معه بحريّة، والتفاعُل المُتبادَل بين الثقافات والحضارات يُعزِّز جسور الصداقة بين الشعوب، ويصون السلام في العالَم.
وتمشي الشعوب الآسيويّة بخطىً ثابتة لبناء القرن الآسيوي على المستوى الكَوني، حتّى ولو تطلَّب ذلك مُواجَهةً قاسية مع النزعة العسكريّة الغربيّة المتجدّدة، والتي تستخفّ بالقيَم الحضاريّة وتهدِّد مُستقبل البشريّة بأسرها.
د. مسعود ضاهر / مؤرّخ وكاتب من لبنان