المثل الأمازيغي والتاريخ
سيتناول هذا الموضوع نموذجا من الأمثال الشعبية الأمازيعية، مع ربطها بالتاريخ المغربي.
استنطاقا للمراجع بشيء من الاجتهاد كموضوع تأسيسي، أن الأمثال هي عصارة فكر متزن لأمة من الأمم، وخزان حضارتها بلسان شعبها، ومرآة مجتمعها، يؤرخ بها الشعب تاريخه وحضارته بجوامع الكلم، يجد فيها الباحث المنصف، صورة كاملة بلسان شعبي خال من التصنع والرسميات.
وعليه فسأركز على نموذج من الأمثال الأمازيغية، وجعلها كنص تاريخي، ينبغي أن تتعاون جميعا على تحقيقه وتحليله، وكان بودي أن أستعرض عددا كثيرا من الأمثال الأمازيغية التي جمعتها، لكن منهجية التخفيف والتحليل والتعليم أرغمتني على أن أكتفي بنماذج ثلاثة:
- النموذج الأول
يتعلق بحدث تاريخي وصل إلينا عن طريق التواتر، تارة شفويا، وتارة مسجلا في مراجع التاريخ، الأمر الذي جعل مساهمتي هذه من صميم الثقافة الشعبية. ينسب هذا المثل الأمازيغي إلى الملكة الأمازيغية تْهِييّا=جميلة، والمثل بالطبع بلغة تهييا وهي اللغة الأمازيغية وهو هكذا:
ـ تدا تكلديت نون، غ غايلي شتان ميدن
ـ ذهبت مملكتكم، فيما يأكله الناس
تحليل المثل: يعبر هذا المثل عن خبر يهدد الأمة والوطن في نظر هذه الملكة. لكن هذا الإنذار مصدره الشعور الداخلي لصاحبه، فهو عبارة عن إرهاصات وتنبؤات.
من هو صاحب المثل؟ اتفقت المراجع على أنه للملكة الأمازيغية (البربرية). وهذه الملكة ورد إسمها لدى المؤرخين بعدة نعوت، منهم من سماها الداهية، وذلك لمكانتها في قومها ولمكائدها في الحروب، ويرد غالبا لدى المؤرخين الآخرين الكاهنة،
لأن العرب الفاتحين عندما ينهزمون أمامها يفسرون ذلك بالسحر لا بالشعور الوطني لدى الأمة الأمازيغية، وهناك من وصفها بمتدينة باليهودية، وأغلب المؤرخين يكتبها تِهْيَا أو دِهْيَا ما عدا الناصري الذي زاد الألف هكذا دَاهْيَا، بمعنى الداهية المعربة، ويقصدون بها إما الأمر المنكر، أو أنها ذات جودة في الرأي والحذق والمكر والاحتيال.
وفي نظري أنها تْهِييّا ومعناها جميلة، والوصف ما زال متداولا في نعوت النساء الجميلات في المغرب حتى الآن؛ وعلى كل حال فهي دهيا أو تهييا بنت… بن نَبْعَانْ بن بَارُو بن مصكرى بن أفرد بن وَصِيلا بن كْرَاوْ (عن ابن خلدون).
وقال هاني بن بكور الضريسي: “ملكت عليهم (الأمازيغ) خمسا وثلاثين سنة، وعاشت 127 سنة=مائة وسبعا وعشرين سنة، وكان قتل عقبة ابن نافع.. بإغرائها برابرة أوراس عليه” (عن ابن خلدون)، وتنتمي هذه الملكة إلى كْرَاوْ بن الدِّيدِيتْ بن كانا (عن الناصري)،
وكان لهذه الملكة بنون ثلاثة، ورثوا رئاسة قومهم، ومن المؤرخين من يذكر أولادها بصيغة الجمع، كما ورد عند الطالبي (عن صحيفة المعهد المصري سنة 1954 ص222).
كما نقرأ في فتح العرب للمغرب لعبيد الله بن صالح بن عبد الحكم: “ثم استدعت الكاهنة أولادها، ومن أولادها قْوِيدْرْ وبَاتْمِين” (عن تاريخ إفريقيا والمغرب لأبي إسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق). ومن المؤرخين من ذكر ولدين اثنين فقط وهما يفران ويزديان.
قد يلوم البعض الشعوب التي قامت في وجه الفتوحات الإسلامية، كما فعل العرب في مكة، وكما فعل الفرس، وكما فعل الأمازيغ في وطنهم –تَامَازْغَا- مع أن هذا الدفاع عن الوطن مقبول، قبل أن يفهم الناس غاية الفاتحين،
وقد أورد المؤرخ التونسي حمد صفر فقرة في هذا الباب من الأهمية بالمكان، قال: “كان سكان البلاد (الأمازيغ) لا يريدون إبدال مستعمر بمستعمر، فسواء كان المغتصب فِييِفِيّاً أو رُومَانِيّاً، أو بِزَنْطِيّاً، أو عَرَبٍيّاً.. فكلهم مغتصبون مستعمرون في نظرهم أي في نظر الأمازيغ”.
لذلك لما قتل ملك البربر (الأمازيغ) –كُسَيْلَةُ- تَوَلّتْ الداهية = تْهِييَّا الملكة الأمازيغية الدفاع عن الوطن، ومركزها في جبال أوراس. قال المؤرخ الرفيق أو ابن الرفيق عند البعض: وأقبل حسان.. وزحفت إليه الكاهنة تريده..
فالتقوا، فتقاتلوا قتالا شديدا ما سمع قط، فمعظم البلاء، وظن الناس أنه الفناء، فانهزم حسان بن النعمان، وقتلت العرب قتلا ذريعا وأسرت من أصحابه ثمانين رجلا، منهم خالد بن يزيد القيسي”. من هو خالد بن يزيد القيسي هذا؟ اضطربت الروايات حول اسم هذه الشخصية،
وقد ورد أحيانا بخالد بن يزيد، وأحيانا بيزيد بن خالد، والأول أكثر عند كل من المؤرخ ابن عبد الحكم، ص200+210، وعند المالكي ج.الأول ص51، وعند ابن الأثير ج.4، ص370، وعند النويري ص36، وعند ابن عذاري ج.الأول ص37، وعند ابن خلدون ج.6 ص109، وفي الروض المعطار، ص65.
أما نسبته فقد وردت عند ابن عبد الحكم بالعبسي بدلا من القيسي، وربما يقصد أن قبيلة عبس من قبيلة قيس.
أما المكان الذي التقى فيه الفريقان، فهو على نهر ورد أيضا بعدة أسماء منها وادي العذارى، ونهر البلاء، ووادي نايني NAYNI على بعد 30 كلم من مدينة باكاية، (راجع التفاصيل عن الطالبي عن ياقوت في معجم البلدان وبالتوالي ص130 ثم ج.5 ص339)، وننبه هنا إلى الفرق بين النهر والواد كما ورد هنا.
أورد ابن الرفيق وصفا عجيبا تبناه المؤرخون بعده، وبدون أدنى اعتراض، قال: “وأن الكاهنة قالت لخالد: “ما رأيت في الرجال أجمل منك، ولا أشجع، وأنا أريد أن أرضعك، فتكون أخا لولدي” فقال لها وكيف يكون ذلك، وقد ذهب الرضاع منك،
فقالت: “إنا جماعة البربر لنا رضاع إذا فعلناه تتوارث به، فعمدت إلى دقيق الشعير، فلتته بزيت، وجعلته على ثدييها، ودعت ولديها، وقالت لهما كلا معه على ثديي، وقالت لهم: إنكم قد صرتم إخوة”. وننبه مرة أخرى إلى سن هذه الملكة، كما نستشف من هذا الفعل قوة الدهاء، زيادة على وجود التوارث عند الأمازيغ قبل أن يصلهم الإسلام، وقبل أن تقرأ عليهم الآية “يوصيكم الله في أولادكم”.
صار خالد بن يزيد العربي إذن ولدا للكاهنة بالرضاع المصطنع، كما أنه أبقت على حياته، بل أكرمته وألحقته بالأسرة المالكة، وعاش مع الأمراء في قصر الكاهنة = الداهية=تْهِييّا، وهذا النص معروف في التاريخ بقصر لخم على بعد 18 ميلا من مدينة ملقطة،
وقد أورد صاحب الاستبصار وصفا غريبا لهذا القصر وقال: “وذكر أن الكاهنة حصرها عدوها في هذا القصر، فحفرت سربا في صخرة صماء، من هذا القصر إلى مدينة ملقطة، يمشي فيه العدد الكثير وبينهما 18 ميلا، وقصر لخم عجيب البنيان، قد بني وأحكم بحجارة طول الحجر منها 25 شبرا، وارتفاع القصر في الهواء 24 قامة..”.
في هذا القصر يعيش إذن خالد بن يزيد المتبنى من طرف الملكة الأمازيغية الداهية تهييا، ومع ذلك لم ينس أصله وفصله، ولا لوم عليه، ما دام أجنبيا، ولأن الحرب خدعة، لكن اللوم كله يقع على عدم الحذر من الأجنبي كيفما كان، وفي الحديث ما معناه=يؤتى الحذر من مأمنه، أو ما معناه.
في الوقت الذي هزمت الداهية العرب، بفضل الشعور الوطني الأمازيغي، وطردتهم من إفريقية بكاملها (تونس) إلى حدود طرابلس بليبيا، وحكمت الوطن خمس سنوات، في هذا الوقت بدأت المخابرات العربية، تبحث عن وسيلة أخرى لتخفيف النصر، وكان التجسس عن نقط الضعف لدى الداهية هذه المرة، رغم أن الإسلام قد نهى عن التجسس وحذر منه لقوله تعالى “ولا تجسسوا..”.
ولا شك أن هناك مراسلات متعددة، قد حفظ لنا التاريخ بمراسلتين، وقد يرجع سبب هذه القلة، إلى اختلاف اللغتين العربية والأمازيغية. قال ابن الرفيق: “ثم إن حسان توافت إليه فرسان العرب ورجالها، فدعا عند ذلك برجل يثق به، ورغبه ومناه، وكتب معه إلى يزيد وهو واثق بأنه لا يرجع في دين الإسلام، فلما أتى رسول حسان،
وقف بين يدي يزيد في زي سائل. فلما رآه يزيد، علم أنه رسول، وقال له: رزقك الله، تعود إلي، فلما أن خلا أخذ منه الكتاب، وقرأه وكتب في ظهره، إن البربر متفرقون.. فاطو المراحل، وجد في السير، فإن الأمر لله، وليس يسلمك..
وجعل الكتاب في خبز ملة، وجعلها زادا للرجل، فلم يغب عنهم حتى خرجت الكاهنة ناشرة شعرها، تضرب صدرها وتقول: -أرْوَاسّ يِمَاتُونْ، تْدَّا تْكْلْدِيتْ نُّونْ، غ غَايْلّي شْتّانْ مِيدّنْ- ومعناه: ويحكم ذهبت مملكتكم فيما يأكله الناس..
فلما وصل، كسر حسان الخبزة فأصاب الكتاب.. قد أفسدته النار، واحترق، فقال له حسان ارجع.. وعمد إلى قربوس سرجه، فنقر فيه، وأدخل الكتاب وسد عليه بشمع.. فرد يزيد جوابه وأعاده في قربوس سرجه ومضى، فخرجت الكاهنة ناشرة شعرها تضرب صدرها وهي تنادي:
تْدَّا تْكْلْدِيتْ نّونْ غْ كْرَا نْ تُوكَانْ وَاكَالْ، أَرْتْ تَّانِّيغْ غْ كْرْ تْكُورْمِينْ.
ومعناه ذهب ملككم في شيء من نبات الأرض، وأراه بين فرجين، وهذه الملكة الأمازيغية هي التي قالت: يكلدان ؤر أتروالن، فصار مثلا، ومعناه = الملوك لا يفرون في الحرب.
أوردت هذا النص الطويل لما فيه من معلومات مهمة تحتاج إلى نفس طويل، وبحث عميق لتحقيقها، ولكن لضيق الغلاف الزمني لهذه المداخلة، أترك لشباب كلية عين الشق استكمال ذلك إن شاء الله. ومن ذلك أن صاحب النص اسمه أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم لقب بالرقيق،
في أكثر المصادر، ما عدا عند ابن خلدون الذي سماه ابن الرقيق، وتبعه في ذلك محمد بن الحسن الوزان في وصف إفريقيا، ولم يذكر أحد ولادته، كما اختلفوا في سنة وفاته مع ترجيح سنة 425هـ/1033م. وكان كاتبا لبني زيري بن عطية لمدة تنيف عن عشرين سنة، وتولى سفارتهم إلى القاهرة، وقد وصفه ابن الرشيق بأنه أحذق الناس، ووصفه ابن خلدون بأنه من المؤرخين الذين لم يات بعدهم إلا مقلد، وله مؤلفات تسعة ناذرة، منها أنساب البربر.
وفي هذا النص وردت كلمة –رزقك الله للسائل، وهي التي ترجمها المغاربة بقولهم الله يسهل عليك، أما الأصل فمن قوله تعالى: “وأما السائل فلا تنهر”. وفيما يخص إخفاء الكتاب فقد وردت عدة روايات كلها متقاربة، الأولى ما ذكرناه سابقا، والثانية بهذه الصيغة قالت:
ـ واتاروا نو، هان ترفافانت نون تلاغ كرا نـ توكا نـ واكال ئيوتن ـ
وترجمته: يا بني هلاككم في شيء من نبات الأرض الميت، (عن فتوح بن عبد الحكم)، وفي رياض المالكي وهي تقول: يا بني قد دنا هلاككم في شيء من نبات الأرض وهو بين خشبتين = وترجمته:
واتاروا نو، هان تازد ترفافانت نون لي يلان غ كرا نـ توكا نـ واكال.
وفي رواية أخرى: تزري تكلديت نون = مضت مملكتكم، وقديما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
ونلاحظ أن النصوص تتفق كلها على دقة كهانة الكاهنة، والإشارة منها إلى موضع الخطر، سواء داخل الخبزة، أو داخل قربوس. وما دمنا في الأدب الشعب أكاد أجزم بأن وصف الشلح بالكاربوز (القربوس) تعني قصر جلوسه على الفرس، وينحني وراء القربوس حتى لا يصاب بالسهام في الحروب، عكس العربي الطويل المعرض للإصابة، وسمي بذلك تشفيا فقط.
وهكذا برر العرب شجاعة الملكة الداهية بالكهانة، وانهزامهم أمام الأمة الأمازيغية، كما برروا شجاعة الشلح (الأمازيغ) على فرسه وتجاوز سهام العرب إلى اقتحامهم، بأنه عبارة عن قربوس السرج فوق الفرس لقصره وهذا اجتهاد مني فقط.
وقد يرد هنا سؤال لماذا لم تكشف الكاهنة الجاسوس العربي وهو معها؟ ولماذا تنبأت واقتنعت بقتلها؟ بل أقنعت أبناءها بالانهزام، ذلك كله من خدع الحرب، وإقناع المجتمع الساذج، وإلا فالعجوز التي في عمرها حسب بعض المؤرخين 127 سنة، لا يمكن أن تركب الفرس وتحارب في المعركة الطاحنة التي لا تبقي ولا تدر، نعم قد تحمل ويتبرك بها في الحروب كما كانت بعض الأمم تتبرك بعظام الأنبياء في الشرق، وبالصالحين في المغرب، آخرهم سيدي محند الجزولي في عهد السعديين، وللناس فيما يعتقدون غرائب.
ويصدق هذا المثل على كل من فرط فيما عنده ماديا كان أو معنويا.
المثل الثاني يتعلق بالأوضاع الاجتماعية:
وانا يجنجم وايرني ؤر أيتوف ف ميدن.
معناه:من نجاه نبات أيرني من المجاعة لا يتأفف على الضعفاء. والمثل مشاع بين المغاربة، ونبات أيرني معروف، من فصيلة البطاطيس تأكل الخنازير جذوره، ويشاركها الإنسان في عام المجاعة، وهذا النبات منتشر في المغرب كله إلى مشارق الصحراء.
وقد أرخ المغاربة بهذا النبات، فقالوا عام أيرني، ويقصدون غالبا عام 1295هـ/1878م وكذلك عام 1345هـ/1926م. كما أرخ المغاربة بمصطلحات أخرى مثل عام –بوكليب- وبعام الصندوق، وبعام كيلو، وبعام السربيس (الصفوف لأخذ الطعام) وبعام الروز، وبعام دارا(نبات) وبعام تالكوضا (حب نبات) وبعام الغاسول (حب نبات) وبعام بوغلام=(عروق نبات).
والعجيب أن المغاربة لم ينسوا حتى الآن عام آيرني. وقد اطلعت مؤخرا على جريدة الاتحاد الاشتراكي عدد 59991 بتاريخ 5 يناير 2000 على هذا العنوان لمقال يتحدث عن المجاعات والوباء هكذا = وخبز إيرني هو الألذ، ولكي يفهم القارئ الكريم مغزى هذا المثل الأمازيغي، ينبغي له أن يستوعب تاريخ المجاعات والأوبئة في المغرب عبر تاريخه، أو على الأقل في القرون الأخيرة (في رسالة للأستاذ محمد الأمين البزاز كفاية).
هذا وقد قيلت أمثال شعبية حول مادة أيرني بالأمازيغية، منها:
ـ متاد ؤرد أيرني سـ ئيخلا جوع تامازيرت،
ـ وانا ئشان أيرني كاد ئسن أتيك نـ تمزين.
ترجمة المثل الأول: لولا نبات أيرني لخربت المجاعة البلاد.
والثاني: من أكل نبات أيرني هو وحده الذي يعرف قيمة الشعير.
وقد تحدث المؤرخون عن عام أيرني هذا وربطوه بعام الوباء، وبعام الطاعون، وأنتم تعلمون أن مصدر الطاعون هو الفيران التي تختلط بالناس عندما تستهلك ما خزنته، دون أن ننسى دور الجفاف الذي يصيب المغرب بسبب تقلبات مناخه، أضف إلى ذلك، الجراد، والحروب الأهلية، وهجوم المخزن على محصول بعض القبائل، أو ما يعبر عنه بالسيبة، وظروف الحرب العالمية، واحتكار فرنسا للمنتوجات المغربية.. وسأورد وصفا لحالة المغاربة في عام أيرني:
قال مؤرخنا سيدي محمد المختار السوسي: “يأكل الناس الجيف، وحشائش الأرض.. ويأكل الناس بعضهم بعضا.. ولا يلتفت الأحباب لأحبابهم، ولا الأولاد لآبائهم.. والمساجد كلها خاوية، ليس فيها من يؤذن، ولا من يصلي”.
ويخبر صاحب رحلة الوافد بأن الحالة كانت مزرية في آيت باعمران عام 1133هـ/1721+1722م، وفي هذا السياق ذكر صاحب المعسول أن امرأة بدينة أكلت في جهة أيت باعمران في تلك المجاعة.
ومن شدة المجاعة أيضا وقع “أن عددا من اليهود بفاس، تسارع إلى اعتناق الإسلام، أملا في الحصول على لقمة عيش”.
وفيما ذكره روزنبيرجي ROSENBERGER والتريكي “أن الناس تركوا وشأنهم، فإنهم لم يجدوا سبيلهم إلى الخلاص، إلا ببيع أنفسهم وأولادهم للإسبانيين والبرتغاليين، في أصيلة (أزيلا) وآسفي، وأزمور، وعم الطاعون جميع المغرب”.
أما دور المخزن، في إغاثة الناس، في هذه المجاعة، فقد كان في معظم الأحيان سلبيا، كما في عهد الوطاسيين، وقد يقوم المخزن أحيانا بتعميق المشكل ويهلك الحرث والنسل.
ونورد هنا شهادة الناصري كنموذج بسيط، وباختصار شديد قال: “ثم نهض السلطان المولى أحمد بن إسماعيل سنة 1141هـ/1735م، فزحف على فاس..، ونصب عليها المدافع ليلا ونهارا.. إلى أن عمها الخراب لمدة خمسة أشهر، وقلت الأقوات، وارتفعت الأسعار”.
وكانت النتيجة انهيار المجتمع، وانهيار المخزن المركزي، فانتشر اللصوص، في المدن والبادية، ويذكر البعض أن ثلثي سكان المغرب ماتوا في عام أيرني، وعجز الناس عن دفن موتاهم، وكانوا يرمونهم في الأزقة والمزبل.
أما وجهة أهل الرأي فقد كانت مختلفة، فمنهم من أرجع سبب المجاعة والوباء إلى الجفاف المتواصل، ومنهم من أرجعه إلى ما ارتكبه الناس من المعاصي، ومنهم من أرجعه إلى وروده من خارج المغرب كالتجار والحجاج، ومنهم من انتظر ظهور الإمام المهدي المنتظر، وقرابة قيام الساعة، كل ذلك وغيره دون أن يفكر المسؤولون في العلاج الطبي.
وقد أفتى الفقهاء بأن من مات بالطاعون يعد شهيدا، ومعنى ذلك تطبق عليه مواصفات الشهداء، لا يغسلون ولا يكفنون..، ومن الفقهاء من أفتى بعدم الفرار من “الدوار” الذي انتشرت فيه الكوليرا، أو الطاعون، بدعوى لا مفر من قضاء الله.
دون أن ننسى اضمحلال دور الزوايا، كل ذلك من هول الكارثة لعام أيرني، ولدينا بعض الإحصائيات تتراوح ما بين موت 50-150 مغربيا في مدينة واحدة يوميا، وهكذا ندرك الخزان التاريخي لهذا المثل الأمازيغي:
وانا ئجنجم وايرني ؤر أيتوف ف ميدن
المثل الثالث يتعلق بالجانب التاريخي الاجتماعي معا.
تاوتمت أيخلان تامدولت نـ وافا.
ومعناه: الأنثى هي التي خربت مدينة تامدولت، يضرب هذا المثل لكيد النساء، حتى لا يستخف الرجل بقدرة المرأة. والأمثال كثيرة، في هذا المعنى، يكفي عنها قوله تعالى: “إن كيدكن عظيم”، ويقابله “كل عظيم وراءه امرأة”، وكقولهم: إن التي تستطيع أن تحرك المهد بيمناها، تستطيع أن تهز العالم بيسراها، وكقول الأمازيغ:
تامغارت أيكان أركاز، ؤرد أركاز أيكان تامغارت.
ومعناه: المرأة أو الزوجة هي التي تكون الرجل، وليس الرجل هو الذي يكون المرأة. ولربط هذا المثل السائر بأصله لا بد من استنطاق ما أمكننا من المراجع ومن ذلك قصيدة شعبية أمازيغية تناولت خراب تامدولت نـ وافا، والمرجع الثاني ما سجله مؤرخ سوس المختار السوسي، وإليكم ملخص ذلك:
يحكى أن رجلا أجنبيا غنيا، يسكن في مدينة تامدولت نـ وافا، ذات السور العظيم، وذات باب واحد، وكان لذلك الرجل سبع بنات، وحدث أن ذهب يوما ليحرث حقله مبكرا، فانتظر فطوره ليصله إلى الحقل، لكن بنته الشاعرة بالأمازيغية تأخرت عنه إلى ما بعد العصر.
ولما وصلت إليه وضعت أمامه قفة مملوءة بالنخالة، فصارت تدرف الدموع، فقال لها والدها بالشعر الأمازيغي، هل أنا كلب يا بنيتي، حتى أتيتني بالنخالة؟ فأجابته شعرا، نعم يا والدي: كلب وأي كلب، يكون من ليس له إخوة يدافعون عنه كلما ظلم.
واعلم أن آل تامدولت قد ردوني لأطهي لك هذه الخبزة سبع مرات، بحيث كانوا ينتزعونها مني ظلما حتى أخفيتها في النخالة.
وفي الحين انطلق والدها يبحث عمن يناصره، ويرد له اعتبارا، فقصد أحد القادة الكبار اسمه محند ؤعلي أمنصاك، فحدث أن صادف عنده مناسبة كبيرة، وما كان هذا المظلوم إلا أن نام على وجهه، رافضا الأكل والكلام، فإذا بالقائد أمنصاك يسأل خادمه مسعودة بالشعر الأمازيغي، طالبا منها ألا يبقى أحد من وفود تلك المناسبة بدون أكل.
فردت عليه الخادم بالشعر الأمازيغي: نعم سيدي كل الناس أكلوا وشربوا، ما عدا ضيفا واحدا، نام على وجهه كمن هو مظلوم، وفي الحين قصده أمنصاك وقال له: قم ايها الغريب، وأعرب عن مطلبك، فوالله لأقضينه ولو كلفني تخريب تامدولت نـ وافا، فرفع ذلك الرجل رأسه وقال ذلك هو مطلبي، فأنا مظلوم، فقص عليه عداوة أهل تامدولت له ولبناته السبع.
فقال له أمنصاك: ارجع إلى بلادك/ وفي مثل هذا اليوم بالضبط، عليك أن ترفع علما أبيض على دارك، واكتم السر ولا تبح به لأحد، وفعلا رجع الرجل إلى بلاده وذكر الخبر لبنته وحدها.
وإليكم ما جمعته من بقايا تلك القصيدة الطويلة حتى لا يضيع:
ـ محند ؤعلي أمنصاك ئيصحا ئيس نيت ئيفاغ
ـ ؤر يسنال ئيغيد ئيوران أمور ئسنال
ـ محند وعلي أمنصاك ئيسكرف ئيميغ نان
ـ موند كولو ئيمزيلن ؤر ئغاما يان
ـ أسى يات كولو ؤزال سوويات ئيسان
ـ تاوادا سـ تمدولت تدو تسيلا تيغوردين
أما ما لخصته سابقا فهو هكذا رغم اختلال وزنه أحيانا:
قال الوالد: ـ ئيلي فاضما ئيس نكا أيدي أنش ئلوماس؟
الجواب: ـ أيدي دو كار نس ئيكاتن وار ايتماس
ـ سات تيكال أيي رورن أيت تمدولت نـ وافا تاكات
ـ ئيدا باباس ئيزوك ئيلكمن أك أمنصاك
ـ ئيكون ف ؤخموم نس ؤكين تيرمت ؤلا أوال
ـ محند ؤعلي أمنصاك ئيغرا ئيتوايات نس
ـ أكين ئيون أمسعودا أقبيل ئيس أك ئيفرح
ـ تناي اس كولو ميدن شان أك أمر يان
ـ ؤرئيكي ؤسوس ؤرئيكي أزناك نيغ ؤكان
ـ تاماتارت نـ أيت تمدولت نـ واقا فلاس
ـ ئيكون ف ؤخموم ئيس ؤكين تيرمت ؤلا أمان
ـ عند ؤعلي امنصاك أيساولن ئيناي اس
ـ أينا سـ تنيت راد اكت نف مقار ؤكان
ـ ئيكا تامدولت راستنخلو نش لمال نس
وهنا يضيع الشعر ويلخصه الحفاظ بنثر فني ألخصه فيما ياتي:
اذهب أيها الغريب إلى دارك في تادولت، وموعدنا مثل هذا اليوم في العام، وعليك أن ترفع علما أبيض على دارك ليميزها الغزاة عن غيرها، رجع الرجل إلى داره، لكنه نسي الموعد، إلا أن بنته –فاضما- تذكرت التاريخ وهي في أحواش فقالت مستفهمة والدها، بينما ظن الشعراء في أسايس (المرقص) أنها تعني شيئا من الألغاز قالت:
أبابا كضيغ ئيواضو لجومات ئيسان
كر تاكوزيت ييض ؤشن أست ئعمرن
إذ ذاك انطلق والدها فرفع علما أبيض على داره، فإذا بالغزاة يباغتون مدينة تامدولت فخربوها خرابا تاما، وما زال معظم عائلات غرب الأطلس الصغير حتى أيت باعمران يذكرون أن أصلهم من تامدولت التي خربها محند ؤعلي أمنصاك. وهناك يذكر المثل بأن سبب خرابها هو المرأة = تاوتمت أيخلان تامدولت، فكيف لا تخرب دارك إذا ظلمتها؟
وهنا أستحضر قول الشاعر:
ـ ليست نساؤكم، حُلىً وجواهرا، خوف الضياع تصان في الأحقاق
ـ كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا، فالشر في التضييق والإطلاق
تحليل المثل: تامدولت مدينة مغربية قديمة في سفح الأطلس الصغير الشرقي تنسب إلى أفا، وكلمة أفا تعني النواة مطلقا، وأغلب الظن أن هناك منظرا طبيعيا يشبه أفا = النواة لشجرة أركان، فسميت به تامدولت نـ وافا، وهذه الإضافة تفيد أن هناك أماكن أخرى تسمى بتامدولت.
أورد محقق كتاب وصف إفريقيا في الهامش قال: أفا اسم نهر من روافد درعة، سميت به مجموعة من القرى، كانت مسكونة منذ القرن السابع الهجري، وازداد عمران قرى أفا بعد خراب مدينة تامدولت الإدريسية الشهيرة القريبة منها، وأنبه أنا هنا إلى أن المراد بالنهر هو الواد لانعدام المواصفات الجغرافية للنهر.
وتقع مدينة تامدولت هذه على تابريدا = الطريق الرئيسية للقوافل التي تربط بين العواصم التجارية في المغرب وجنوب الصحراء، وتقع في ملتقى الطرق الآتية من سجلماسة شرقا، وأغمات غربا، ومنها تنطلق الطرق نحو الجنوب إما عبر نول غربا أو نحو أدغوست إلى غانة جنوبا.
ولا شك أن هذا الموقع الاستراتيجي لا يخلو من المدينة قبل الأدارسة، مع العلم أن بها معدن الفضة، ولذلك نرى المرابطين احتلوها منذ البداية، في اتجاههم نحو شمال المغرب.
أما الحسن بن محمد الوزان الفاسي قال: تتألف أفا من ثلاثة قصور صغيرة.. وكانت عامرة جدا، لكن السكان هجروها على إثر فتن أهلية…
وقال المختار السوسي: وهذه المدينة من آثار الأدارسة، بناها عبد الله بن إدريس ابن إدريس.. فيكون تأسيس المدينة حوالي 220هـ/825م، وقد ذكر البكري من أهل أواسط القرن الخامس الهجري، أن المدينة لها أربعة أبواب.. هذه إذن مدينة تامدولت أم قرى سوس حسب الروايات الشفوية، والتي كان ظلم سيدة سببا في خرابها، وإلا فموقع تامدولت واقتصادها هو السبب في تملكها، وبالتالي خرابها بسبب النزاع حولها.
أما محند ؤعلي أمنصاك فقد قال عنه المختار السوسي: محند بن علي المنصاكي البنيراني المجاطي الطاغية، قائد كبير، ينسب إليه تخريب تمدلت في ملحمة طويلة نظمت بالشلحة نظما محكما.
هذا وقد كان القاضي جهادي محند بن محمد الخلفي من آل الشيخ همو سجل بخطه هذه الملحمة من حافظها المداح لحسن الخلفي، لكن لم يبق منها إلا ما سجلته أعلاه، إلى أن يجود الزمن بالباقي.
وباختصار نلاحظ أن هذه الأمثال الشعبية المغربية المغاربية تعد خزانا كبيرا لثقافة أمتنا لغويا وحكمة وتاريخيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وحضاريا.. هذا التاريخ الشعبي انتقل إلينا عن طريق التواتر، وهو أصح الروايات، بعيدا عن التاريخ الرسمي وتدخل الأهواء.
اطلعت على كثير مما جمع من الأمثال الشعبية المغربية، وأثمن ذلك مقترحا ألا نكتفي بالجمع والترجمة الحرفية، بل أن نتخذ من الأمثال نصوصا نقوم بتحقيقها وتحليلها وربطها ببيئتها تاريخيا وجغرافيا، وأدبيا ولغويا واجتماعيا والطبونيمي.