رواية «وزارة السعادة القصوى»: سيناريو سرد المسكوت عنه في المجتمع الهندي
الكتاب: “وزارة السعادة القصوى”
المؤلف: أروندهاتي روي
المترجم: أحمد شافعي
الناشر: الكتب خان
عدد الصفحات: 607 صفحة
تاريخ النشر: 1 يناير 2019
اللغة: العربية
تعتبر رواية “وزارة السعادة القصوى”، 2017 ، للكاتبة الهندية الشهيرة أرونداتي روي، والتي تعد من بين الكتّاب الهنود غير المغتربين الأعلى مبيعًا، بمثابة ملحمة روائية كثيفة ومشحونة ومتعددة الخطوط، وطبع منها 50 ألف نسخة، ونقلها إلى العربية أحمد شافعي، تتناول السنوات الصعبة التي مرّت بها الهند،
والتاريخ المُعقد لبلد من أكثر بلاد العالم تنوُّعًا وصخبًا، وتقدم بانوراما ممتدة في المكان والزمان، لتاريخ المجتمع الهندي الرازح تحت ثقل الفوضى والطبقية والعنف الطائفي، وتمزج التوثيق السياسي بالتخييل الأدبي، عبر تتبُّع حيوات ومصائر طيف واسع من الشخصيات شديدة الواقعية والغرابة في نفس الوقت.
- ومن محيط الرواية وأجوائها
فيما كانت الهند تستعد للصعود إلى مصاف القوى العظمى، ولد في دلهي القديمة طفل رآه أهله ذكرًا وأصر أنه امرأة، فسمى نفسه “أنجم” وعاش في وسط المخنثين المعروفين بالهيجرات الذي احتضنته حضارة الهند على مدار القرون، هنالك عرفت أنجم الرقص والغناء والمتعة والألم والشقاء، إلى أن أطل التعصب بوجهه القبيح فلم يبق لأنجم ملاذ إلا المقابر.
في الوقت نفسه، تولد امرأة أخرى اسمها “تِلو” ضحية للنظام الطبقي الغاشم، وتعيش لتشهد قسوة الهند الدموية في كشمير، يقع في غرامها المناضل وضابط المخابرات والصحفي العميل، فتهرب من كل ذلك فلا تجد هي الأخرى إلا المقابر. امرأتان، أو امرأة وشبه امرأة، وطوفان من الشخصيات التي لفظتها المدينة أو لفظت هي المدينة، فلاذت جميعًا بالمكان الوحيد الصالح للحياة وتلمُّس أسباب السعادة: المقابر.
بعد عشرين عامًا من روايتها “إله الأشياء الصغيرة”، الفائزة بجائزة البوكر العالمية لعام 1997، تعود أروندهاتي روي بعمل روائي فذ يؤكد معرفتها العميقة بالواقع السياسي والاجتماعي للهند خلال العقود الماضية، نُشرت “وزارة السعادة القصوى” في عام 2017، وحازت ترشيحًا على القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية في نفس العام.
تلمح روي إلى أن نصوص القصة الرئيسية في “وزارة السعادة القصوى” تنبع من عواقب التقسيم عام 1947، بين بين الهند وباكستان وما نتج عنه من مقتل نحو مليون شخص عندما تألب الجيران على بعضهم البعض، وعششت الكراهية في كل بيوتهم.
- مرايا جوهرية عن سياسة روي المكشوفة
تلك هي قصة «وزارة السعادة القصوى»، التي تشكل فعليًا، كرنفالاً صاخبًا مضحكًا ومستخفًا، وهادفًا أيضًا، وإن الموكب الاستعراضي اللامتناهي من غرابة الأطوار قد يكون منهكًا أحيانًا، لكن سياسة روي المتبَّعة في الشمولية غير التمييزية ليست مجرد خيار تمهيدي، بل إنها تعبير أدبي عن التضامن، وثيقة جوهرية تعبّر عن سياسة روي وكتابها.
وتشرّح روي في الرواية، طبيعة الحياة من خلال نظرة الشخصيتين الأساسيتين، أنجوم: المرأة المنبوذة المجسدة لمعنى المأساة.. المعتصمة بمقبرة دلهي ملاذًا، وتيلو: المهندس المتمرس العاشق. وتتشابك فصول الرواية في سرد قصصي ساحر يتماهى بتعقيداته وواقع السقوط الناجم عن الانفصال الدموي، وتقحم أبطالها في موضوعات القومية والانقسام، بكل ما ينطوي عليه ذلك من فظاعات ومجازر.
وتصطحب روي القارئ في متاهة عابقة بالفوضى والحياة عبر رحلة تشبه شوارع دلهي الحديثة. وفي حين يمكن تصنيف حكايتي أنجوم وتيلو، ضمن إطار قصتي عشق منفصلتين لشخصين تعيشان على هامش المجتمع، فإنهما يخدمان هدفًا أكبر يسلّط الضوء على العيوب الصارخة للأنظمة في الهند وسواها، وتقفز الروائية في مسعاها لأن «تصبح كل شيء» بخطوات جبارة، وتبدو واثقة من قدرة القارئ على ملء الثغرات واللحاق بها. وتتطلب «وزارة السعادة القصوى» لذلك درجة معينة من التركيز والتأمل المتوازيين، كما أن الرواية غنية بالملفات والمذكرات والتقارير والحكايات والسرديات.
إنها الرواية التي كان يؤمل من روي كتابتها، فهي ساخرة لكن متعاطفة، إن كانت (إله الأشياء الصغيرة) رواية عن البيت، عن عائلةٍ بقلبٍ مكسور، فإن (وزارة السعادة القصوى) ستبدأ بعد انهيار السقف في ذلك البيت، وبعد تشظّي ذاك القلب مُزقًا تناثرت في الوديان وشوارع المدينة التي شردتها الحرب.
ليس الأمر متعلقًا بالمذابح فقط، ولا بالتعذيب، ولا بالاختفاء، ولا بالمقابر الجماعية، وليس الأمر متعلقًا بالضحايا ومضطهِديهم، فثمة قصصٌ أكثر ترويعًا تحدث في كشمير، ولا تُعتبَر بالضرورة انتهاكًا لحقوق الإنسان، وبالنسبة للكاتب تُعتبَر كشمير مادةً غنيةً بالعبر الإنسانية، نجد فيها القوة والعجز، الخيانة والوفاء، الحب، الفكاهة، الإيمان..
وتأخذنا الرواية إلى مجتمع الهيجرا (المتحولين جنسيًا) في دلهي القديمة، وإلى قصة حب على خلفية تمرد في كشمير، وتسلط فيها روي على مسائل عهدت إثارتها، مثل الحركة القومية الهندوسية وأعمال العنف الطبقية، وهي على صورة سراديب المدن الهندية المترامية الأطراف.
- السيرة والمسيرة للكاتبة الهندية أروندهاتي روي
أروندهاتي روي هي كاتبة وروائية وناشطة سياسية هندية، ولدت في عام 1959 في شيلونغ، وهي بلدة صغيرة في شمال شرق الهند، من أم مسيحية سورية من عائلة أرستقراطية استقرت منذ زمن في ولاية كيرالا، وأب هندوسي يدير مزرعة للشاي. ولكنه لم يكتفِ بشرب الشاي، إذ غرق في معاقرة الخمر ولم يفق حتى بعد وقوع الطلاق من زوجته.
درست روي في كلية الهندسة المعمارية، وعاشت معظم وقتها في أحياء نيو دلهي الفقيرة، وبعد تخرجها من الكلية، أقامت لفترة من الوقت في ولاية “غوا” الهندية، حيث كانت تصنع الكعك وتبيعه على الشاطئ ، وعملت روي في الثلاثينيات من عمرها في كتابة الأفلام، وساعدها في ذلك زواجها بواحد من صناع السينما الهندية.
وظلت تمارس أعمالاً متفرقة قليلة الأهمية مثل تدريبات الإيروبيك، حتى عكفت ولمدة خمس سنوات، على كتابة روايتها الأولى “إله الأشياء الصغيرة” التي صدرت عام 1997، وهي شبه سيرة ذاتية لها، وقد نالت شهرة عالمية.
بدأت مشوارها الإبداعي ككاتبة للسيناريو، قبل أن تنشر روايتها الأولى “إله الأشياء الصغيرة”، والتي فازت بجائزة البوكر العالمية، وبإصدار روي روايتها الأولى تلك، انفتح العالم الضيق من حولها، وبيعت منها أكثر من ثمانية ملايين نسخة، وترجمت إلى 42 لغة حول العالم..
فكانت روي أول هندية غير مغتربة تنال جائزة البوكر البريطانية، فأصبحت في مدة قصيرة أشهر كاتبة في شبه القارة الهندية، والنموذج الأكثر تأثيرًا للكاتب أو الروائي الذي يسعى إلى المزج بين التوثيق السياسيّ من جهة، والأدب المُتخيّل من جهةٍ أخرى.
- شظايا من أعمالها الإبداعية
أعقبت روي روايتها بعدد من الكتب غير السردية – نحو 18 كتابًا – مثلت تعليقًا ثقافيًا وأدبيًا متميزًا على الشأن السياسي الهندي والعالمي، منها: “نهاية الخيال” 1998، “ثمن العيش” 1999، “حديث الحرب” 2003، و”الرأسمالية: قصة مرعبة” 2014،في عام 2005 رفضت روي جائزة الإبداع الهندية وأعادتها اعتراضًا منها على الجرائم المروّعة التي يرتكبها الجناح اليميني للحكومة في الهند، والمذابح الجماعية التي تلوّث أيدي الحكومة بالدماء، ولها مقالة تدين فيها التجارب النووية الهندية،
- على هامش الترجمة
كانت ترجمة الرواية، بالنسبة إلى شافعي المترجم للرواية، حافلة بالمصاعب. يقول: “استعنت عليها بالصبر والبحث مثلما استعنت عليها بأهل الخبرة ومنهم صديقي المترجم عن الأردية هاني السعيد. فالرواية مليئة بالكلمات والعبارات والجمل والأبيات الشعرية المكتوبة بالأردية، وليس بالإنجليزية لغة الرواية ولغة الكتابة لدى أروندهاتي روي، فضلاً عن أنواع من الثياب والأطعمة والموسيقى مما تختص به شبه القارة الهندية دون غيرها”.
وكان من أصعب ما واجه شافعي في الترجمة عنوان الرواية نفسه؛ فكلمة “Ministry” لها معنيان أساسيان، أحدهما يشير إلى الوزارة كما نعرفها، وأحدهما يشير إلى منصب الكاهن minister أو وظيفته في الكنيسة، لم تسعفه قريحته بكلمة في العربية تجمع المعنيين، أو حتى تجمع معنيين، دنيوي كالوزارة وديني كالكهانة، ربما كلمة “مملكة” كانت لتفي بهذا المعنى؟ الأمر الذي رجح له ترجمة العنوان إلى وزارة السعادة القصوى.
هو أن نضال شخصيات الرواية جميعًا من أجل السعادة – ويكاد معنى السعادة في الرواية يقتصر على العيش في سلام، بلا تدخل من أحد في شؤون أحد- ساقها إلى الصدام مع مؤسسات المجتمع الراسخة وأهمها الدولة، فكان الحل الذي وصلت إليه شخصيات الرواية، أو سيقت إليه، هو أن تعتزل هذا المجتمع بمؤسساته،
وتقيم في المقبرة ما يشبه مؤسسة صغيرة هدفها حماية اختلاف أفرادها، وحماية حياتهم البسيطة التي رغم بساطتها بل وتفاهتها فإنها تبدو مزعجة لمؤسسات كبرى لا تطمئن إلى الاختلاف وتكرهه وتحاربه وتقسو عليه.
بدت لي الرواية دعوة للخروج على المؤسسة، على الدولة، دعوة إلى ما يشبه العصيان المدني، بدت له حلاً أناركيا، بدا له أن استعمال كلمة “الوزارة” يضع خطًا سميكًا تحت المعنى الكبير الذي تمثله الرواية، أو أحد معانيها الأساسية على أي حال.
د. محمد منصور الهدوي – الهند