الدراسات الثقافية

تجسير الثقافات والوسائط

يجري التمييز عادة بين أصناف الثقافات وأنواعها لأسباب منهجية وتحليلية أحيانا، وأحيانا أخرى للمفاضلة بينها، وإبراز قيمة بعضها في مقارنتها بالبعض الآخر، وعلى حسابها. من الشائع في الدراسات الاجتماعية والإنسانية، وحتى قبل ظهورها، التفريق بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، منذ أن برزت الثقافة العالمة، سواء مع استعمال الكتابة أو توظيف الطباعة.


فهذه الثقافة تنبني على معرفة علمية معترف بقيمتها لدى المجتمع الثقافي والعلمي. أما الأخرى فهي ثقافة عامة تعتمد الشفاهة، أو الأدوات الطبيعية، وهي ملك مشاع بين الناس الذين يتداولونها بينهم في حياتهم اليومية، وفي المناسبات الخاصة.


لكن ظهور الوسائط الجماهيرية مع تكنولوجيا السمعي ـ البصري أدى إلى ظهور الثقافة الجماهيرية التي تتوجه إلى كل الجماهير، بغض النظر عن مستواهم الثقافي أو الاجتماعي، ما داموا يستعملون هذه الوسائط. ومنذ نهاية القرن الماضي، وبداية الألفية الجديدة، ومع التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل، بات من الممكن الحديث عن الثقافة الرقمية، التي توظف فيها الوسائط المتفاعلة.


ولما انتشرت هذه الوسائط على نطاق واسع، وصارت جزءا من حياة الأفراد والجماعات، بغض النظر عن علاقتهم بأي نمط ثقافي، صار بالإمكان استيعاب كل أشكال الثقافات، شفاهية كانت أو طباعية أو جماهيرية أو رقمية.


نعاين أن تطور الثقافات وتميز بعضها عن بعض مرتبط ارتباطا وثيقا بالوسائط التي توظفها. وكلما ظهر وسيط جديد أدى إلى بروز ثقافة جديدة. وفي بداية ظهور أي ثقافة جديدة نجدها تشرع في تشكيل قيم جديدة، وتعمل على بلورة أفكار مغايرة.


إنها تتأسس على اتخاذ موقف سلبي من سابقتها، ويحدث بسبب ذلك نوع من الفجوة بين القديم والجديد. ومع الزمن يتم تخطي التفاوت الحاصل بينهما، إذ يبرز بجلاء أثر الثقافة السابقة في اللاحقة، إذ لولاها لما كان لها وجود، كما يحدث أن تنبني الثقافة الجديدة على ما راكمته الثقافة القديمة، ومن خلال ذلك تشرع في اكتساب خصوصيتها، وهي تسعى إلى تجاوز ما تحقق في زمن سابق.


إن تطور الوسائط لا يعني زوال الوسائط العتيقة نهائيا. فما زال الإنسان شفاهيا، وستظل الكتابة والطباعة موجودتين. صحيح قد تتطور بعض الوسائط وتلغي غيرها مثل ما وقع مع أدوات التسجيل الصوتي والتصويري، لكن توظيف الصوت والصورة سيظلان قائمين قيام الكتابة والطباعة.


ومعنى ذلك أن الثقافات المختلفة ستظل تتجاور ويؤدي كل منها دوره في الحياة العامة والخاصة، وإن كانت بعض أشكال الثقافات تفرض نفسها وتحتل مكانة متميزة بالقياس إلى بعضها الآخر. لكن طغيان ثقافة معينة لا يعني زوال الثقافة الأخرى إلا إذا كان ذلك مقصودا، وفي ظل شروط خاصة.


لا يمكن أن تتطور ثقافة على حساب ثقافة أخرى، كما لا يمكن لأي وسيط أن يلغي غيره، ولا أن يتطور علم من العلوم، بدون أن يكون له دور في تطور العلوم الأخرى.


حسب تفاوت المجتمعات في التطور الثقافي والاجتماعي يمكننا معاينة متى تهيمن ثقافة على غيرها، من خلال مضمونها أو وسيطها. فالثقافة الجماهيرية والرقمية تلعبان في عصرنا الحالي دورا كبيرا في الحياة العامة. وهما معا يمكن أن تضطلعا بهذا الدور، إما في سبيل التثقيف أو التجهيل.

كما أن الثقافة العالمة يمكن أن تزدهر في المجتمعات المتطورة وتضمحل لفائدة الثقافة الجماهيرية أو الرقمية في المجتمعات المتخلفة.


ويمكن لصور العلاقات بين الثقافات والوسائط أن تتعدد وتقدم لنا احتمالات لا حصر لها، وهي كلها حسب الكيفية التي تمارس بواسطتها تعطينا صورة أمينة عن الواقع الثقافي والاجتماعي والحضاري لشعب من الشعوب.


إن صورة المجتمعات المتقدمة تبين لنا نوعا من التوازي في التعاطي مع أشكال الثقافات ووسائطها. وفي حال المجتمع العربي نجد أن تهميش الثقافتين العالمة والشعبية لم يؤد إلا إلى الانشغال بالثقافتين الجماهيرية والرقمية، ولا يمكن لذلك أن يكون بهدف التثقيف، ولكن بغية الترفيه، ولذلك نجد هيمنة ثقافة الاستهلاك الرياضي والفني.


وأغلب ما يتعلق بهذا الاستهلاك يتم من خلال ما يستورد من الخارج. إننا كما نستهلك الوسائط الجديدة التي تنتج خارج فضائنا العربي نستهلك منتجات ثقافة الآخر التي تتحقق من خلال الوسائط التي ابتدعها.

يتخذ العرب مواقف سلبية من الثقافة الشعبية ومن التراث بصفة عامة بدعوى عدم صلاتهما بالعصر، ويبدو لنا ذلك بجلاء في أشكال ممارستهم للثقافة العالمة، خاصة في جوانبها المتعلقة بالاجتماعيات والإنسانيات.


وبما أن هذه العلوم لم تتأسس على أرضية صلبة، نجد الأمر نفسه في التعامل مع الثقافة العالمة في جوانبها العلمية والتقنية، التي وإن ادعينا الاهتمام بها في معاهدنا وجامعاتنا نجدها لا تقل تخلفا عن العلوم الاجتماعية والإنسانية.


لا يمكن أن تتطور ثقافة على حساب ثقافة أخرى، كما لا يمكن لأي وسيط أن يلغي غيره، ولا أن يتطور علم من العلوم، بدون أن يكون له دور في تطور العلوم الأخرى. يعني ذلك أن هناك تفاعلا عميقا بين الثقافات والوسائط، وأن المفاضلة بينها جميعا لا يدل إلا على قصر النظر.

من بين نقائص واقعنا الثقافي وإكراهاته التي تحول دون تطوره ليكون في مستوى ما يمكن أن تقدمه الوسائط في علاقتها بالثقافات، يكمن في إقامة الجسور بينها، إنه التجهيل.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى