منبرُنا

النوم جَفاني يا أسمراني

 

تقول العرب رُبّ ضارة نافعة، و قد انتفعت من مداواة أسناني لمدة عامين بحب المطالعة، كنت في الصف الثالث الابتدائي عندما بدأت مسلسل حكمة الأسنان عند حكيم لا يمتلك من الحكمة قيراطاً واحداً ولا نصف قيراط ، أخذتني أمي إليه بعد تزكية ليست في محلها من قريبها “أسامة ” لرخص أجوره رغم أن عيادته تقع في منتصف مركز المدينة، و هذا الموقع و ضرورة رشوتي للقبول بعلاج أسناني، رضخت أمي لطلبي بأن تشتري لي مجلة أطفال واحدة في الأسبوع، و بفضل طول مدة العلاج – الذي لم يزد عن حفر السن المتسوس و حشوه بطبقة كلس رخوة – توطدت هوايتي في القراءة و تعدت مجلات الأطفال، و بمعدل زيارة واحدة أو اثنتين في الأسبوع إلى عيادة “دكتور أسامة” كما اسمته أمي ، تكونت أول مكتبة خاصة بي، و للأسف انتهت الزيارات الاسبوعية إلى مركز المدينة بصحبة أمي – و لا أسف على الجزء المتعلق بتطبيب الأسنان خلال تلك الزيارات – بعد عامين من الصبر على علاج “دكتور أسامة” الفاشل لأسناني، مما اجبرني على الإعتماد على نفسي في تأمين مصادر مطالعاتي، و في حي السكري الفقير جنوبي حلب حيث كنا نقيم، لا يوجد مكتبة لبيع المجلات الدورية، مثل مجلة “أسامة” و “ميكي ماوس” و “سمير” و ” تان تان ” و “سوبر مان”…

كنت أعتمد على بعض الرفاق الذين لهم طريق إلى مركز المدينة في شراء ما أريد من مجلات، و قلما يفي صاحب المكتبة الذي كنت أتعامل معه بوعده في تأمينها وقت صدورها، إلى أن قيض لي الله أبن ” السمان ذو اللحية الشقراء ” صاحب المحل الكبير في آخر خط الباص، أبن السمان (البقال) هذا كان يحب قراءة مجلة أسامة على الخصوص، و يقتنيها في كل أسبوع بدون علم أبيه ، و بالصدفة اكتشف ذلك عندما دخلت المحل لشراء حاجة ما، إذ رأيت بين يديه العدد الجديد من مجلة أسامة في ذات يوم صدوره، اندهشت و قلت له :
– كيف استطعت تأمين المجلة في يوم صدورها، و أنا انتظر أيام و أيام بعد صدورها لأشتريها؟!.
ابتسم “أحمد” و هذا اسمه، و أجاب :

– يا حباب، أنا كل يوم أنزل إلى “البلد” لأتسوق للمحل، و في طريقي إلى ” السويقة ” اشتري المجلة من أحد أكشاك بيع الجرائد و المجلات. *

– نيالك يا أحمد، أنا لا أستطيع النزول إلى البلد في كل يوم، و في كتير أعداد راحت علي و ما غضرت اشتريها.

– لاه يا جهاد ، كنت قل لي فأشتريها لك.

– ما كنت بعرف إنك من متابعي المجلة، على كل حال اشتريها لي غداً من فضلك.
أخرجت ربع ليرة من جيب قميصي و ناولته إياها على سبيل توكيد الطلب. ردها أحمد لي بكرم أخلاقه قائلاً :

– طول بالك، أنا عندي فكرة حلوة و مفيدة لي و لك، ما رأيك أن تأتيني غداً و ابيعك المجلة بعد أن أقرأها بأربع “فرنكات” فقط ؟ **

– ليش انت ما تحتفظ فيها لنفسك في العادة ؟

– ايش بدي اعمل فيها بعد ما أقرأها غير ابيعها ورق صرّ لجاري “أبو حربوق” ؟ و ليش أخسر حقها كله عالفاضي ؟ ببيعك ياها بمخسر فرنك واحد أعتبره أجرة قراءتها، و انت في كل الأحوال بدك تنتظر لبكرا حتى توصلك لو اشتريتها لك ، تعال بكرا و خذها مني بكون خلصت قراءتها. فما رأيك في هذا الحل العادل ؟

– كتير حلو و موافق عليه، بس أرجوك ما تدعكها و توسخها.
و هكذا أبرمنا العقد بكلمة شرف مني و منه، و مضت الأيام يخلف بوعده و يفي، مرات يتأخر علي، و مرات استلم المجلة و كأنها خاضت حرب البسوس، و مرات تفوح منها رائحة المكدوس و زيت الزيتون ، و مرات ينساها في البيت.

و لحل هذه العقدة الصغيرة على واحد حربوق مثل أحمد، قال لي بذكاء و حنكة التجار بأنه لا يستطيع ترك المحل ليذهب إلى منزله في غياب أبيه عن المحل ، و لا حتى في حضوره لأنه يخفي سر اقتنائها عن أبيه ، لذلك اقترح علي بأن أذهب أنا بنفسي إلى منزلهم لإحضارها، بينما يكون هو قد أوصى أخاه الأكبر منه “محمود” بأن يعطيني إياها، و كل ما علي أن أتلو عليه كلمة سر متفق عليها بينهما، فيسلمني إياها بدون جدال.

مشت الخطة بسلام بعد قبولي بها على سبيل الارغام، كان يختار كلمات سر من وحي ما يقرأه في المجلة أو ما يشاهده في التلفاز، كان يقول لي اذهب الى أخي محمود، و قل له أحمد يسلم عليك و يقول لك اعطني مجلة أسامة بأمارة كذا و كذا، و إذا نسيت كلمة السر فلن يعطيك إياها، و كلمة السر تكون غالباً عنوان قصة أو فيلم مثلاً : ( جزيرة الكنز) أو (عملية فدائية في فلسطين) أو ( غرام في اسطنبول) و هكذا حسب الوحي و الحال.
في أحد الأيام لا أعرف ماذا جرى لأحمد حتى اختار كلمة سر غريبة و خارج السياق المألوف، أطرق ساهماً و كأنه يحدثني من السماء، قال لي متنهداً :

– اذهب و قل لأخي محمد بأني أسلم عليه و مشتاق إليه بأمارة البارحة جفاني النوم يا أسمر.

– نعم؟ شو قلت؟ ما سمعتك مليح.

– روح و قل لأخي محمود مثل ما قلت لك : (البارحة جفاني النوم يا اسمراني) هي كلمة السر يا غشيم .

– طيب متل ما بدك، الله يعطيك العافية و يشفيك .

ذهبت إلى بيت الشيخ “أبو محمود” البقال و أنا أهجس بهذه الجملة الغريبة التي اختارها أحمد كلمة سر مشترك بيننا نحن الثلاثة، كنت أفضل بأن استلم المجلة منه و بيده في المحل و لو بعد حين، لكن أحمد كثير المشاغل و النسيان، و الحصول على مجلتي المفضلة في أقرب وقت يقتضي مني الاذعان لشروط العقد المعدلة حسب ضرورات مشاغل أحمد الكثيرة، أخذت حسبي الله و توكلت عليه، و مضيت في مهمة استلام و تسليم المجلة إلى آخرها، وصلت البيت و طرقت الباب، بعد قليل خرج الشيخ “أبو محمود” السمان بنفسه و لحيته المصبوغة حديثاً بالحناء ، قال لي بنزق قبل أن أرمي عليه السلام :

– أحمد ما هو هون بتلاقيه في الدكان.

– السلام عليكم عمي ابو محمود، من شوي كنت مع أحمد في الدكان، بدي احكي مع ابنك الكبير محمود.

– و عليكم السلام ، محمود كمان ما هو في البيت، خير ايش بدك منه؟
هنا تعلثمت في الكلام و حرت ماذا أقول له، أعاد الشيخ السؤال بإلحاح، شعرت بأنني أخضع للتحقيق تحت تأثير التنويم المغناطيسي من شرر عينيه، و أيقنت بأن لا مفر لي من قول الحقيقة، فالشيخ لا يعرف بوجود الصفقة السرية بيني و بين ابنه أحمد، و لا بكلمة السر المتداولة بيننا مع ابنه محمود، سلمت أمري لله و قلت له مستسلماً لا أبغي إلا السلام :

– بدي مجلة أسامة، أحمد تركها في البيت، و قال لي قل لمحمود ( البارحة جفاني النوم يا أسمر) و هو يعطيك إياها.

ما إن سمعني الشيخ حتى دخل إلى البيت دون أن ينبس ببنت شفة، تاركاً باب الدار و باب التساؤلات مفتوحاً على كل الاحتمالات. خرج بعد لحظات و جذبني من ثيابي إلى الداخل و انهال علي بالضرب بعصاته التي احضرها من المنزل بدل المجلة، شتمني و شتم أحمد، و قال بينما يضربني :

– بدي اخليك تنام طب يا سرسري يا بوشت ***، أنا بعمر أبوك و دقني بطولك و جاي تقول لي جفاني النوم يا أسمر؟ و الله لأخلي جلدك يصير أسود يا عكروت ، شو شايفني بنت الجيران و لا قالولك عني حبّاب ولاد ؟!.
لا أعرف كيف تخلصت من بين يديه، لكن أعلم بأنني لم اتخلص من آثار تلك الذكرى الأليمة إلى يومي هذا، و كلما اشتكى أحدهم بقوله (البارحة جفاني النوم). اتحسس اطرافي و مفاصلي و اتوجع بصمت .


 

*البلد : مركز المدينة، تعبير شائع في لهجة حلب. السويقة : سوق لبيع البضائع و السلع و مستلزمات محلات السمانة و البقالة، يقع في محلة سويقة حاتم قرب الجامع الأموي الكبير.
**الربع ليرة قطعة نقدية معدنية تساوي ٢٥ قرش سوري، و الفرنك يساوي خمسة قروش، و الفرنك و الفرنكان قطعتان من النقد المعدني بلونين الأصفر و الفضي .
***سرسري اي قليل الأدب الذي يتحرش بالبنات و يرتكب الموبقات، و بوشت أيضاً شتيمة تعني قليل الذمة و الوجدان، و عكروت اي ازعر و قليل الحياء، و الحربوق : الشاطر الذكي الذي يعرف خلاصه و أين مصلحته، و “أبو حربوق” لقب لبائع متجول كان ينادي على مأكولاته : تعال و دوق من عمك أبو حربوق، كان يبيع لفافات الفلافل و حلوى البسبوسة على عربة صغيرة أمام دكان الشيخ ، هذه العبارات الشعبية تكاد تنقرض من لهجة حلب.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى