منبرُنا

أبو بريص يتبرع بذَنَبه

 

عاد أبو بريص* إلى جحره مقطوع الذَنَب، يلُوح برأسه ذات اليمين و الشمال، بادرته زوجته أم بريص السليطة اللسان بالتقريع و التوبيخ، قالت و هي تلَوّح بذَنَبها المرقش:

أين كنت يا أسود الوجه، يا مقطوش الذيل؟ و أين طعام الأولاد الذي وعدتنا به عند خروجك من الجحر؟
دسّ أبو بريص جسده في الفراش، قال و هو يغطي جسمه بقشرة بصل:
ارحميني من لسانك يا امرأة، أما يكفيني لسان الأفعى التي هاجمتني على غفلة و كادت أن تلتهمني في غمضة عين؟

و ما الذي أخذك إلى وكر الأفعى؟ ألم تنتبه إلى قشور بيوضها فتحاذر الاقتراب من وكرها؟
بلى، أحاذر دوماً الاقتراب من قشور البيض، لكنها طلعت “حية” من تحت التبن** و أنا حسبتها دودة.
اقتربتْ أم بريص من فراش زوجها و غطّتْ رأسه قائلة:

دائماً ما تضع نفسك في مواقف أكبر منك، مرة تتصيد عقرب، و مرة سرطان، و مرة أفعى و مرة ثعبان، حتى العنكبوت السام قضيت عليه و جعلت من زوجته “الأرملة السوداء”.

لا أضع نفسي إلا مكانها، أنا أبو بريص على سنّ السيف و الرمح سليل الأبطال، جدي التمساح الذي لا يقطع ذيله أي سلاح، فزعم البشر أنهم يستطيعون قطعه بشفرة “ناسيت” و هذا طبعاً هراء.

و جدتي “أم عامر” الضبعة*** التي قلعت شجرة الرمان بذيلها، بينما عجزت عن ذلك بقية الحيوانات، فخسرت ذيولها عندما تجرأت و حاولت فعل ذلك.

هذا صحيح لا جدال فيه، أنت بطل مغوار لا يعرف الخوف، لكن ما كل مرة تسلم الجرة يا أبو العيال!
أخرج أبو بريص رأسه من تحت قشرة البصلة، نظر في وجه زوجته بغضب قائلاً:

و هل هُزمتُ في معركة قط؟ و هل سقط ذيلي من الخوف أم من القتال؟ كل الذي خسرته هو ذَنَب قابل للنمو من جديد، المهم أني حافظت على رأسي، الذيل ولا الرأس يا امرأة.

الله يسلم رأسك و يحفظك يا سبع الفلا، هيا نَم الآن، سأذهب أنا للبحث عن بعض الغذاء للأولاد.
(تصبح على خير) .
قالتها و هي تغطيه من رأسه إلى منبت الذيل المبتور، و انصرفت تتدبر أمر الغداء.


خرج أبو بريص من جحره بعد أن نبتَ له ذيل جديد، سمع صوت ضوضاء و هرج و ثغاء و نباح و نهيق و خوار في الجوار، زحف نحو الزريبة بين الأعشاب الجافة بدون صوت، كان خائفاً من الأفعى أن تنقضَّ عليه مرة ثانية، لكنْ سلم من أذاها بفضل حذره و تعليمات حرمه أم بريص، تسلل إلى داخل الزريبة و تسلق الجدار حتى وصل للسقف و تعلق به، كانت الحيوانات تتداول قصة سيدها “حمّور” الذي وقع في كمين غادر نصبه له الأعداء و فقد ذيله، يتحدثون عن متبرع شجاع يفدي حمّور بذيله، لكنهم كلهم يتظاهرون بالكرم و الشجاعة و الولاء و لا يريدون التضحية بذيولهم أو أظلافهم أو بشعرة من قفا الخنزير على قولة المثل.
قال الخنزير الحكيم:

يا إخوتي الحيوانات ذوات الأذيال، تعلمون أنني أفدي سيدنا حمّور بأبي و أمي، فهل أضنّ عليه بذيلي؟
ردت الحيوانات بصوت واحد:

لا، لا تضنّ عليه برأسك و لا قلبك، فلماذا إذن تعتذر عن تقديم ذيلك؟ أوضح لنا يا حكيم.
ابتسم الخنزير ابتسامة صفراء، أظهر ذيله النجس و قال:

انظروا ذيلي الممرغ في القذارة و الوحل، هل يليق بسيدي حمّور الطاهر الشريف؟
لا، لا يليق، حسناً فعلت.

قالت الحيوانات و أشاحت ببصرها عن الخنزير إلى غيره من الشجعان.
نبح الكلب طالباً التحدث، أعطاه الخنزير رئيس الجلسة الميكروفون، و قال:
انصتوا له يا رفاق، هيا تفضل بالنباح أيها الكلب المحترم.

قال الكلب نابحاً في الجمهور بصوت جهور:
قيل في سلالتي ذَنَب الكلب أعوج، وضعوه في القالب لمدة أربعين يوماً و طبعه الأعوج غالب! فهل يليق الاعوجاج بسيرة سيدنا المستقيمة؟ لهذا السبب أعتذر عن التبرع بذيلي الأعوج لسيدنا حمّور.
لا، لا يليق به ذلك، أحسنت صنعاً يا رفيق، اعتذارك مقبول.

هكذا ردت الحيوانات و نظرت إلى العنزة رئيسة نادي الفضيلة، ناولها الخنزير الميكروفون، و قال لها:
تفضلي يا أختي، دورك في الحديث الآن.
أمسكت العنزة بالميكروفون و قالت بحياء:

إخوتي العقلاء، ذَنَبي قصير لا يكش ذباب و لا يستر عورة، ماذا اعتراكم حتى تطلبوا مني التبرع به لسيدنا حمّور؟ هل تظنونني بخيلة أو خائفة، ها؟ هيا قولوا ماع، ما علي و ما لي، ردوا علي الآن…
قالت العنزة ذلك و قد بلغ الحنق أشده في نفسها، تفاعلت مشاعر الغضب مع تقلصات الأمعاء، فأصدرتْ ضرطة اهتز لصوتها سقف الزريبة و المعالف و طاولة الخوار، خارت البقرة و الثور الكبير و خارت قوى كل الحيوانات، حتى أبو بريص المعلق في السقف ارتعبَ و خاف، انقطع ذيله تلقائياً و سقط على طاولة الخوار يزحف و يتلوّى، شاهدته كل الحيوانات و شاهدت صاحبه الشجاع الكريم أبا بريص، صفقوا له بحرارة طويلاً ثم قالوا معاً:

أحسنت أيها البطل، لن نجد أفضل من ذيلك الحي المتحرك يصلح بديلاً لذيل الحمار، سيفرح به مولانا حمّور كثيراً و يمنحك وسم “الشجاعة و الأَقدام و الحوافز” الذي ما وَسَمَ به أي انسان أو حيوان!.
نزل أبو بريص من السقف إلى طاولة الخوار، وقف في منتصفها محركاً رأسه باتجاه الوجوه السعيدة، حدّق فيها ملياً ثم قال:

يا سادتي يسعدني و يشرفني أن أخدم مولاي حمّور، كل حيوان يتمنى أن يكون ذيلاً للحمار، بل حَدوة في حافره الكريم، فهل يقبل مني سيدي حمّور العظيم هذه التضحية و أنا حيوان تافه حقير؟
لِم لا يا أخي، سيقبل بالتأكيد.

أجابت الحيوانات على الفور بصوت واحد، و انبرى الخنزير الحكيم ببقية الكلام بعد أن أمسك بالذيل المتحرك المقطوع:

لِم لا أيها الحيوان الشهم؟ ألم يكن أصلك تمساحاً صلباً أو تنيناً يقذف اللهب؟ لربما يكبر هذا الذَنَب الصغير و يطول إذا ما تعهدناه بعد زرعه في عقب سيدنا حمّور بالرعاية و الاهتمام!
هل تتراجع عن تضحيتك التافهة و ترجع ذيلك الحقير إلى مكانه؟

قال الخنزير الجملة الأخيرة و مدَّ يده نحو المتبرع أبي بريص، و فتح كفّه القابضة على الذيل المبتور.
رجع أبو بريص خطوتين للخلف، اعتدل في وقفته وسط طاولة الخوار، رفع رأسه بشموخ و قال:
كلّا و خسأ، و لا تراجع و لا ترجيع، فليكن ما تشاؤون يا رفاقي، ذيلي و حراشفي و زوجتي و أولادي “بريص و برصاء و برّوص” كلهم فداء للسلطان حمّور.

لكنْ دخيلكم أخبروني، ماذا حدث – منذ قليل – عندما انقطع ذيلي و سقط من السقف، هل وقع زلزال أم حدثَ انفجار؟.


جهاد الدين رمضان

في فيينا ٢٦ حزيران/يونيو ٢٠٢٠
*أبو بريص: سحلية صغيرة تشبه التمساح تعيش في البيوت و البرية، معروفة أيضاً باسم الوزغ و البرص، تتميز بانقطاع ذَنَبها حين تعرضها للخطر و شعورها بالخوف، فيتحرك الذيل المقطوع لتشتيت انتباه المفترس و نجاة صاحبه، كما ينمو لها ذيل جديد في غضون عشرة أيام أو أكثر. يقال أنها تهرب من قشور البيض فلا تقرب من مكان وجودها إذ تحسبها قشور بيض الأفعى إذا خَلَتْ من الرائحة.
شعرة من قفا الخنزير مكسب: مثل شعبي يطلق على الكسب ممن لا يعطيه إذ يندر وجود الشعر في قفا الخنزير.

**مثل شعبي سوري يطلق على الخبيث شديد الدهاء الذي يتظاهر بالبساطة و الغباء، فيقال فلان مثل الحية تحت التبن.

***الأرملة السوداء: أنثى العنكبوت الأسود السام، ربما صارت أرملة بسبب افتراس أبو بريص لزوجها.
شفرة ناسيت: ماركة شفرات للحلاقة مشهورة، مرسوم عليها تمساح مقطوع الذيل بالشفرة.
أم عامر: اسم الضبعة التي قلعت شجرة الرمان من جذورها بذيلها المتين، حكاية شعبية سورية كانت تحكيها لنا أمي و الجدات.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى