(El Norte) كان عنوانَ الفيلم الأولِ الذي رأيتُه في المعهد الأمريكي لتعليم اللغة الإنكليزية للأجانب، فورَ وصولي لبلادِ العم سام. كان يتحدَّثُ عن الهنود (المايان) Indian Mayan الذين نجَوا من مجزرةِ الجيش الغواتيمالي وقرروا أن يبدؤوا حياةً جديدةً في أمريكا. كان من المستحيل أن تتابعَ الفيلمَ دون أن تذرفَ الدموع.
حاول الهنودُ الدخولَ إلى بلاد العم سام، عن طريق المكسيك كلاجئينَ غيرِ شرعيين، ليواجهوا الموت، المصاعب والمحاكمة. بعد انتهاء الفيلم، وضعَ لنا المدرّس مايكل نشرة الأخبار كانت النشرة عن غزو صدام للكويت لنتعلم لغة السياسة.
وقد عرف بأنني عربية، نظر إليّ وقال ممازحاً: (أنتم تتقاتلون في بلادكم ويغزو بعضُكم بعضاً ثم تستنجدون (باليانكيز) أي الأمريكان. اليانكيز كانت تلك أوَّلَ كلمةٍ تعلَّمتُها. في ذلك الوقت كان يُلّمِّحُ بأنّ الجيشَ الأمريكيَّ يتأهَّبُ لطردِ صدَّام من هناك.
كنتُ أفكِّرُ سراً بيني وبينكم بأنهم ربّما هم من دفعوه ليحتلَّ الكويت أو أعطَوهُ الضوءَ الأخضر ليفعلَ ذلك. ولكنني آثرتُ الصمتَ، لأنني كنتُ لاجئةً غريبةً لا تتقنُ الإنكليزية كثيراً. جئتُ لأبحثَ عن مكانٍ آمنٍ أستقرُّ فيه. أما الآن وبعدَ الحرب… أصبحَ السوريّون في موقفٍ لا يُحسَدونَ عليه فقد ازدادَ الوضع سوءًا.
جلسْنا في الصَّفّ، كنّا من جنسيَّاتٍ متعدِّدة من جميعِ أنحاء العالم. جلسَ أمامي رجلٌ كهلٌ من بورتوريكو سألني من أيِّ بلادٍ أتيت؟ قلت له: الميدل إيست. هتفَ على الفور بلكنةٍ إنكليزية ثقيلةٍ ومكسَّرة: أووو الميدل إيست ( too much problem) كان الله بعونكم، لديكم مشاكلُ كثيرةٌ في بلادكم. حروبٌ طاحنةٌ لا تتوقَّف.
طبعاً كانت هناك حربُ اليمن السعيد (الذي لم يعرفِ السعادة في حياتِه) وحربُ العراقِ على الكويت وحربُ لبنانَ الطائفية التي امتدَّتْ لسنواتٍ عديدة. فهم يتابعون الأخبار.
لم أتفوَّه بكلمة… ولكنني ابتسمتُ من تلك اللهجة.
في بلادِ العمِّ سام تُصهرُ الأجناسُ المختلفةُ في بوتقةٍ تسمَّى ( The melting pot) حيث تتلاحمُ الأعراقُ والأديانُ لا فرقَ بين أوربي، عربي، أو أفريقي. بورتوريكي، صيني أو صومالي. القانونُ يُطَبَّقُ على الجميع وعندَ ارتكابِ أي خطأ يذهبُ الجاني إلى المحاكمة بغضِّ النَّظرِ عن مركزِهِ أو مهنتِه.
بعد فترةٍ من الزمن… تلاحظُ أن تلك السحناتِ المختلفة تتشابهُ فهي تجتمعُ تحتَ خيمةِ الإنسانية، تعملُ ليلَ نهار… وتعرقُ من أجلِ جَنْيِ المال، والعيشِ الكريمِ الذي حُرمَتْ منه في بلادها.
أذكرُ تماماً حين سألتُ أحد المكسيكان لماذا تركتَ بلادَك فأجابَني: الذي أجنيهِ هنا في يومٍ واحدٍ لا أجنيه في بلادي حتى لو عملتُ لمدَّة شهرٍ كامل. هنا الفرصُ مفتوحةٌ للجميع.
البشرُ هنا تعارفوا، أحبُّوا… عشقوا، تناسلوا، وتخالطتْ أنسابُهم ودماؤهم: وبنوا هذه الحضارةَ العظيمة… فكان الأطبَّاءُ العرب… والهنودُ الذين يسيطرونَ على التكنولوجيا والكمبيوتر وهناك الكثيرُ من المصريَّينِ العاملين في (ناسا). والمهندسين والمكتشفين أو المخترعين إنها بلادُ العلم ولكلِّ مجتهدٍ نصيب.
إنها بلادُ الحريَّةِ تعتنقُ ما تحبُّ من الأفكار أو الأديان، ترتدي الملابسَ الفاضحة أو السَّاترة من الرأسِ إلى أخمصِ القدمين. ولا أحدَ ينظرُ لأحد. بإمكانِكَ أن تكونَ مسلما، مسيحيّاً أو حتَّى ملحدا. هنا لا توجدُ صورٌ لزعماءَ أو رؤساءَ على الجدران ولا تماثيلَ يركعُ لها الشعب ولا مخبرينَ يمشونَ خلفَك ليحصوا كم مرَّةً تتنفس!
الذي يتذوَّقُ الحرية… من الصَّعبِ أن يعودَ للسجنِ الذي كنّا نعيشُ فيه.
في بدايةِ التسعينات عندما كنتُ أقيمُ بالقرب من جامعة نيو مكسيكو أو UNM حيث تدخَّلَ الجيشُ الأمريكيُّ لتحريرِ الكويت. كنتُ أذكرُ جيداً بأن أغلبَ الشعب الأمريكي كان ضدَّ هذا التدخل. في بداية شهر أوغست خرجَ طالبٌ من الجامعة وخلعَ ثيابَه بالكامل ووقفَ في نصفِ ساحةِ الجامعة وقال جملتَه الشهيرة:
“I have nothing to hide but my government has everything to hide.”
بمعنى: (ليس لديّ ما أخفيه ولكنَّ حكومتي تخفي عنا كلَّ شيء). بعد دقائق جاءتِ الشُّرطةُ وألقتِ القبضَ عليه بتهمةِ التَّعرِّي أو المظهرِ غير اللائق والذي يسمُّونَهIndecent exposure لأن ذلك ممنوع في البلاد؛ أن تظهرَ عارياً تماماً. سألتُ نفسي لو تعرَّى أحدُهم في بلادِنا وصرخَ بنفسِ الطريقة هل سيبقى على قيدِ الحياة هو ومدينتُه؟ حتى أن الدستورَ الأمريكي يبيحُ لأيِّ شخصٍ مقيمٍ ولديه جنسيّة أمريكية، أن يحرقَ العلمَ الأمريكي مثلاً في الداونتاون ولا يستطيعُ أحدٌ القبضَ عليه.
كنت معجبةً بتلك الحريةِ التي يمتلكُها الفردُ ليعبِّرَ عن رأيه، الطالبُ يدخلُ إلى الجامعة ويحصلُ على إعانة مالية ليكملَ دراستَه وأحياناً يأخذُ منحةً دراسيةً كاملةً لو كان متفوِّقاً. وتعملُ الحكومةُ في البداية… لتأمينِ الغذاءِ الكاملِ للأمِّ الفقيرة من حليبٍ وسيريال وزبدة الفستق والعصير لتضمنَ أنها ستنجبُ طفلاً معافى وسليماً من الأمراض. كما تؤمن لها الرِّعايةَ الطبِّيَّةَ والأدويةَ اللَّازمة بما يدعونَه كلُّ الذين يعملون يجبُ أن يدفعوا ضريبةً للحكومة… لتضمنَ لهم المدارسَ الجيدةَ المجَّانية والجامعات، والحدائق، والمكتباتِ الكبيرةَ والشوارعَ النظيفة.
يبدأُ الفردُ بالعمل عندما يبلغُ السادسةَ عشرةَ من عمرِه كعملٍ جزئيٍّ في (كوفي شوب) أو مطعم ليحصلَ على مصروفه. ليتعلمَ الاعتمادَ على نفسه. وعندما يكبرُ ويتقاعدُ لا يجلسُ في البيتِ مطلقاً إما يعملُ كعملٍ جزئيّ ((part time job، أو يذهبُ ليلتحقَ بالأعمالِ التطوعية (volunteers ) حيثُ من الطبيعيِّ جدَّاً أن ترى امرأةً قد بلغتِ الثمانينَ من عمرِها لتعملَ في المستشفى لترشدَ الناسَ وتساعدَهم أو لتساعدَ كبارَ السّنِّ المرضى.
إنها منظومةٌ ساحرة، ويجبُ أن أعترفَ لكم؛ إنه كوكبٌ فريدٌ بغضِّ النظرِ عن السِّياسةِ الأمريكيةِ الجائرةِ التي يكرهها الجميع وبغضِّ النظرِ عن ملايين القتلى الذين تسبَّبتْ بإبادتهم في الحروبِ المتنوعة… ولكنْ- للأسف- شعبُها من أكثر الشعوبِ المتطورة في العالم.
بلدُ العلمِ والاختراعاتِ العديدة، النظافة، الترتيب، الجمال والسياحة. تمنحكَ العيشَ الكريم، تفتحُ أبوابَ الفرص والنجاح أمام الجميع بغضِّ النظر عن جنسياتهم، ألوانهم ودياناتهم. إنها بلادُ العم سام.
يوجدُ في كاليفورنيا وحدها ملايين العراقيين الذي يتركز معظمهم في كاليفورنيا وخاصة في مدينة (Elcajon) التي تسمى أيضاً مدينةَ الصندوق. في سان دييغو وأغلبُهم من الأثرياء أسَّسوا المحالَّ التجارية وأماكن السكن وغيرها من التجارة.
كنت أستغربُ كثيراً من وجودِ المشرَّدين وخاصةً في مدينةِ سان دييغو الدافئة التي أزورُها كل عام لزيارة عائلتي. وكنت أسألُ نفسي كيف يصبحُ الإنسان مشرداً بلا مأوى، بلا سقفٍ يحميه من حرارة الشمس وبرد الشتاء؟
إنه لمنظرٌ طبيعيٌّ في منطقة (مشن ڤالي) أن تجدَ متشرداً قربَ محطةِ الوقود مثل 711/ أو Vons يجلسُ في سيَّارتِه ومعه كلبُه ويحملُ (الآي فون) هو متشرِّدٌ من نوعٍ متطوِّرٍ قليلاً عن المتشردينَ في بلادنا. وقد وضعتِ الحكومةُ الأمريكية، وصلاتِ الكهرباءِ لشحنِ الهواتف وعلَّقتْها على كلِّ الأشجار لشحن الجوالات.
في مشروع الداونتاون الخيري كنتُ أذهبُ مع الجاليةِ المسلمة لتوزيعِ الطعام وفراشي الأسنان والمناشفِ للمتشردين والذين يدعونَهم هناك بالـ ( homeless)، كانوا يفرحونَ كثيراً عندما يروننا ويحيّوننا بتحيَّةِ: (السلام عليكم).
ولقد عرفتُ بعد فترة بأن الإنسان ينتهي بالتّشرُّد إما بسببِ تعاطي المخدرات أو يفقدُ عقلَه عندما يعودُ من الحرب وقد رأى مشاهدَ القتل والموت. و يخوضون حروباً إما لأنهم يتطوعون في الجيش لعدم متابعةِ العِلم ونيلِ الشَّهادةِ الجيدة، أو الذهابِ للقتال حباً بسفكِ الدِّماء.
كانت لجارتي الثريَّةُ التي تسكنُ بقربي ابنةٌ متشردةٌ ثم تزوَّجتْ من شخصٍ يدمنُ على الخمر والمخدرات. وعندما طلبتِ المساعدةَ من والدتِها بعد أن خضعتْ للعنفِ والضرب، رفضتِ الأمُّ مساعدتَها وطردتْها من المنزل. التفكُّكُ الأسريُّ وسيطرةُ حبِّ المادة قد توثِّرُ على المجتمع والعائلة. هي حالةٌ تتكرَّرُ في المجتمع الأمريكي الرأسمالي وشاهدتُها بأمِّ عيني. وكُتب عنها في الجرائد.
ولكنّ هذا المجتمعَ المتطوِّرَ حريصٌ جداً على أبنائه فهو يقومُ بتعليمِهم وتهيئتهِم للعملِ في سنٍّ مبكِّرة جداً. عندما مارستُ مهنةَ التَّدريسِ في (اورلاندو) كان عليَّ أن أقومَ بحضورِ ساعاتٍ معينة للمراقبة في المدارس من أجل الخبرة. دخلتُ أحدَ الصُّفوف الأمريكية لحضورِ درسٍ لطلاب الصف الثامن كان المدرِّسُ يشرحُ للطلاب كيفيةَ التصرف في مقابلة العمل ويشرحُ للتلاميذ حركاتِ الجسم بما يسمونه Body language حيث لا يُستحسَنُ أن تهزَّ يدك وقدمك وأنت تتحدّث.
وأن تصافحَ بشكلٍ جيِّد وبيدٍ مشدودة، وأن تنظر في عيني الإنسانِ الذي يتحدَّث معك. كل ذلك جعلَني مذهولةً تماماً أمام أشياءَ أسمعُ بها للمرةِ الأولى في حياتي. كنت شابّةً مقبلةً على الحياة.
الشباب والشابات من الأمريكان، أصدقاء أولادي وبناتي الذين يزوروننا باستمرار ويجلسون على موائدنا العامرة في رمضان، يحبون طعامنا كثيراً، ويحتسون معنا الشايَ والقهوةَ العربية، يقولون لنا: أنتم من أجملِ الناسِ الذين تعرفنا عليهم بحياتنا ونحن نحزنُ من أجلِ الدعايات الكاذبة التي تروِّجُ لها الميديا بأشكالِها وتشوِّهُ صورةَ العرب بأنهم متخلفون وما زالوا يركبون الجمال.
من هنا جاءت كلمة (Camel jocky). وهي كلمة يردِّدُها العنصريُّون أو red neck أحياناً وخاصةً بعد الحادي عشر من أيلول.
نجح أولادي وحصلوا على أعلى المراتب وسبقوا كل أصدقائهم الذين يدعونهم باليانكيز. وكان المدرسون يعتزون بهم كثيراً.
هند زيتوني/ سورية