منبرُنا

نمرٌ مِن وَرق

 

صادفت “أبو ياسر” في طريق رحلة لجوئي إلى أوروبا ، و اتخذته رفيق الدرب الجديد رغم معرفتي السطحية به منذ سنين ، فقد كنت أعرف عنه القليل من أيام العز في حلب، من ذلك ما علمت بأنه تبوأ مؤخراً مركزاً مهماً في البلد ذاك الزمان ، و صارت الناس تقصده في تسهيل الأمور الصعبة، و كان حوله بعض الرجال المفتولي العضلات لإبعاد المتطفلين من طريقه، و يقال عنه بأنه عصامي بنى نفسه بعضلاته و سعده الكويس ( حظه الحلو) ، و ليس لأحد من فضل عليه سوى ما تقوله اللوحة المزخرفة بخط الثلث خلف مكتبه : ” هذا من فضل ربي “.

عرفته في لقاء عمل بواسطة أحد الأصدقاء نجم عنه تعارف لطيف، ثم باعدت بيننا الأيام و رمت كلٍ منا في طريق، و شاءت الصدف أن تلتقي طرقنا مرةً أخرى في رحلة اللجوء الطويلة ، سررت بصحبته و استمتعت بقصصه طوال الطريق، و تبين لي أنني لم اكن أعرف عنه إلا شطراً بسيطاً من سيرته الحافلة بالمكارم والبطولات، ليس في حلب و العاصمة دمشق ، بل وصلت فتوحاته شطّ الأندلس في الغرب، و طرقت سيرته أبواب الدب الروسي العظيم في الشمال ، و تعطرت طرق شرق آسيا بعبق مروره الكريم في مدنها المختلفة ، و للحق قال لي أنه لم يصل إلى أبعد من السودان في الجنوب… أدهشني بمغامراته و سعة معارفه في كل البلاد، كان يجيد التحدث بعدة لغات، و يرتدي أفخم ما عنده من بذلات و كرافاتات ، حسبه كثير من الناس أحد المسؤولين الكبار المنشقين عن النظام، فأفسحوا له و أوسعوا في المكان و نحن نقف في طوابير الإنتظار، و حين وصلنا إلى مخيم طالبي اللجوء في النمسا الذي فرزونا إليه ، أخبر إدارة المخيم بوجوب إلتزامه بحمية غذائية خاصة تتطلب طعاماً مختلفاً عن طعام بقية النزلاء ، وافقه المدير عليها كونه مصاب بعدة أمراض خطيرة تستدعي المراقبة و الحذر، و تم تخصيصه بوجبات طعام تتناسب مع حالته الصحية، لما رأى الزملاء – طالبي اللجوء – ذلك التمييز في الطعام، و سمعوه يحكي مع الحرس و المدير باللغة الإنجليزية بطلاقة، أيقنوا بأنه شخص عظيم الشأن حتى هنا في الغربة القسرية، و بدأوا في التودد و التردد إليه، و صاروا يقصدونه في الترجمة و التوسط لهم في عرض مشاكلهم على السلطات المختصة.

شهرته لمعت في كل مكان يصل إليه، و شطارته في تسلق عواطف الناس و مشاعرهم أوصلته إلى مركز رفيع لدى إحدى الجمعيات الخيرية المهتمة بمساعدة اللاجئين، و بفضل مواهبه السحرية حَلَقَ للكثير من الموظفين السابقين، و تولّى مكانهم في مراتب المسؤولية، حتى صار شبه رئيس الجمعية بعدما علقتْ به صاحبة الجمعية – رئيستها الرسمية – عشقاً و هياماً ، كم هو مذهل هذا الرجل الشرقي في تسهيل و تيسير أموره، و كم هامت به تلك المرأة الأوربية التي فتحت له قلبها و جمعيتها و منزلها و سريرها، فكانت مثال الإخلاص في الود و العطاء، لدرجة أنها قبلت الذهاب في مهمة إنسانية إلى اليونان لجلب بقية أفراد أسرته العالقين على الحدود المقدونية، و بفضل معارفها و بعض الأوراق و التقارير و المال مشي الحال، و اجتمع شمله بعائلته بعد وقت قصير، و حصلوا على قرار قبول اللجوء في الحال، و بعد أن استنفد خدماتها و تسهيلاتها و عواطفها ، و استبدل بمعشرها المؤقت أجمل النساء، و كان قد جمع كمشة مهبرة من مال المتبرعين الدسمين للجمعية، و سطا على بيت لرجل قصده في الترجمة لدى مؤسسة تعنى بتأمين سكن اللاجئين، شد الرحال و شمّع الخيط ، قال لها : كش ملك.

دارت الأيام و فرقتنا مرة ثانية، هو بقي في الإقليم ( المقاطعة) الصغير، و سكنت أنا في العاصمة الكبيرة فيينا، و بمحض الصدفة إلتقيت برجل كان يعرفه و يتابع أخباره بعد افتراقه هو الآخر عنه، سألني عن أحوالي و أخباري و ما فعل بي الزمان، فأخبرته بعذابي المرير حتى حصلت على اللجوء، و كيف استطاعت زوجتي اللحاق بي بعد نصف عام من المعاناة في اليونان، و كم تعذبنا حتى استطعنا تأمين سكن في فيينا…

استنكر محدثي ما جرى معي من عذابات مقارنةً بما حصل عليه صاحبنا “أبو ياسر” من تسهيلات، ثم أخبرني بالمعلومات التي ذكرتها أعلاه حول انتهاء علاقته بتلك الجمعية و رئيستها النمساوية ، و قال لي :
يا مسكين ما عرفت تدبر حالك متل صاحبك؟ و الله انت تستاهل كل خير.

قلت له بأن أبا ياسر له فضل كبير على معارفه في كل مكان و كل البلاد، و يمتلك الكثير من المؤهلات، بالإضافة إلى ماضيه المجيد في البلد، و خدماته الجليلة لكل العباد.. مما يجعله بطلاً كريم النفس و شيخ الرجال.
ضحك محدثي حتى كاد يغمى عليه، و أخرج موبايله من جيبه و فتحه و اشتغل به و هو يحاول كتم قهقهته، ثم أراني صورة لصاحبنا البطل “أبو ياسر” مع بعض الكلاب، و قال :

صاحبك راعي الحوّا * طلع راعي كلاب… ما هو بطل ولا شيخ عرب و لا هم يحزنون، طلع لصّ دجّال محتال !.
قلت له : أعوذ بالله مما تقول، هل هذا معقول؟
ضحك مرة ثانية، و قال :

هي صورته في بيت رئيسة الجمعية عم يرعى لها كلابها ، حصلت عليها من صفحتها على الفيس بوك، شوف ضحكته الكبيرة و الكلبين في حضنه يرعاهما بفرح و سرور .
ضحكت بدوري من اتهامه السخيف لصاحبي الشهم سبع الرجال ، و قلت له :

هيك صورة لا تقدح في سيرته المليئة بالمكارم و البطولات، و في أوروبا يعتبر الكلب من أفراد الأسرة، و شي طبيعي يتصور الإنسان مع الكلاب و يفرح بها …
قاطعني محدثي قائلاً :

ما اختلفنا بس أخباره لصاحبك كشفت كل أفعاله و طرشت في كل مكان ، رئيسة الجمعية ندمت كثيراً بعدما كشفت علاقته بغيرها من النساء الجميلات، و قيل بأنه كان يترجم للشباب بما يصبّ في مصلحته الشخصية و خدمة أغراضه اللصوصية ، كما دلّس على الحكومة بالمعلومات للحصول على المعونات، و هلق كشفوه و عم يحاكموه و يمكن يرحلوه، و كل الشباب اللي عرفوه عم يلعنوه، و لسة جاي تقول لي هذا سبع الرجال ؟.
و الله ما هو إلا نمر من ورق.!


*راعي الحوّا : الفارس الكريم الحسب و النسب، راعي الخيل و الضيف.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى