نقد

القارئ الأحد

 

إن أحسن أشكال التواصل الذي يمكن أن تتحقق مقاصده ما كان بين طرفين، أحدهما مرسِل والآخر متلق متفاعل بشكل إيجابي مع ما يلقيه له المرسل. وكلما تعدد المتلقون كان التفاوت في تمثل ما يلقى على النحو الأحسن، وذلك بسبب تنوع القدرات والكفاءات بين الناس، واختلافهم في إدراك ما يتلقونه لوجود إكراهات أو عوائق محددة. ويبدو أن التواصل الشفاهي المباشر يلعب فيه المتكلم الدور الكبير في تحقيق المراد منه، مهما كانت إمكانات نوعية المتلقين وقدراتهم، إذا ما كان يتوفر على المقومات التي تؤهله لإحداث التأثير في من يتعامل معهم على فرض أن منتج أي خطاب يهدف إلى التأثير.

ما قلناه عن التواصل الشفاهي ينسحب بصورة من الصور على التواصل الكتابي، وإن بشكل أقل، إذا ما كان الكاتب أقدر على توفير الخصائص المناسبة لخطابه، ليكون قابلا للنفاذ إلى المتلقين عبر توفير كل المستلزمات المناسبة، لجعل خطابه منسجما ومتسقا ووافيا بالمراد. يكمن التمايز بين الخطابين الشفاهي والكتابي في كون الأول مباشرا. وهذه المباشرة تسمح للمتلقي بالتفاعل عبر الاستفسار، وطلب التوضيح، والتعليق الذي يعطي الخطاب بعدا مزدوجا ينهض على أساس التناوب في تحققه.

أما في الخطاب الكتابي فغياب المباشرة، وتباين المستويات بين الكاتب والقارئ قد يدفع في اتجاه استحالة التفاعل، إما عبر حصول المتلقي على فهم خاص لغير ما يقصد إليه الكاتب، أو لعجزه العائد إلى قيود تتصل به في علاقته بما يتواصل معه، بما يسمح له بعدم القدرة على التفاعل المناسب (العائق اللغوي مثلا). وقد يحصل العكس حين يتوفر المتلقي على المقومات التي تؤهله لتحقيق تفاعل إيجابي مع الخطاب.

يدفعنا هذا التوصيف إلى طرح السؤال عن الكاتب، أيا كان اختصاصه، حول كيفية إنجازه خطابه، والقارئ الذي يتوخاه لتحقيق التفاعل معه بالصورة التي جعلته ينتج خطابه بقصد التعامل مع القارئ. لا شك أن أي كاتب، يتوجه بشكل مقصود أو غير مقصود إلى قارئ معين. فكاتب الرسالة يعرف جيدا مخاطبه، كما أن مدون الخطبة الدينية أو السياسية يدرك جيدا طبيعة المصلين، أو نوعية مخاطبيه من الجمهور.

كما أن من يكتب لمجلة متخصصة يتمثل أبدا شروطها ونوعية الخطابات التي تقبلها. وكل هذه السمات تدفعه لجعل خطابه الذي ينتجه ذا مقاصد معينة تتماشى مع نوعية المتلقي، الذي يتوجه إليه، بغض النظر عن نجاحه في ذلك أم لا.
إن ما سميناه القارئ المعين ملتبس ومتعدد الدلالات.

يفرض سؤال لماذا نكتب سؤال لماذا نقرأ؟ وكلاهما يتعلق بالتفاعل الإيجابي.

إن من يكتب رسالة إلى شخص معين قد يتصور أن الرسالة قد تقع في يد غير مخاطبه، أو أن المخاطب نفسه قد يطلع غيره عليها لأسباب متعددة. كما أن من يضع في ذهنه صورة اللجنة العلمية التي ستطلع على بحثه، أن هناك إمكانية لنشرها، وقراءتها من لدن قراء كثيرين. يعني هذا أن القارئ «المعين» يتضمن في ذهن الكاتب مستويات متعددة من القراء.

قد يتخذ مفهوم القارئ المعين صورة «القارئ النموذجي» الذي يضعه الكاتب في ذهنه، وإليه يتوجه بخطابه، مؤملا قدرته على الاشتراك في التفاعل مع مرامي النص ومقاصده. وفي غياب دراسات أمبريقية «تجريبية» للتلقي، تعاقبيا، يظل الحديث عن التلقي مطروحا للاستكشاف والتأمل والسؤال.

إذا استعدت صورة أحسن أشكال التواصل التي يمكن أن تتحقق بين مرسل ومتلق محددين في الخطاب الشفاهي، إذا كانا معا يتمتعان بالكفاية الخاصة نفسها، وعملت على نقلها إلى الخطاب الكتابي، يمكنني أن أفترض أن أي كاتب (روائي مثلا) لا يسعى في كل ما يكتب من روايات متعددة إلا أن يكتب نصا واحدا، أو أن كل رواياته ليست سوى حلقات من رواية واحدة، هي النص الذي يظل يبحث عن كتابته. يجرني هذا الافتراض إلى آخر يتصل بالقارئ. إنه القارئ الأحد الذي ينجح أكثر من غيره في تحقيق التفاعل الإيجابي مع النص الذي يقرأ. وما خلاه من قراء يظل تفاعلهم معه ناقصا ومبتورا.

يسعى أي كاتب، قصد ذلك أم لا، إلى الخلود، وإذا كان قد ظل يكتب ليصل إلى تحقيق مراده من إنتاج النص الدال عليه، فهو يفعل ذلك من أجل قارئ غير مقصود، هو ما أسميه القارئ «الأحد». قد يتحقق هذا القارئ في زمانه، أو بعده بقرون.

كم من القراء قرأوا كبار الشعراء والفلاسفة والعلماء في كل الأزمنة والأمكنة؟ كم من القراء اطلعوا على النصوص الأسطورية والدينية؟ وكم من القراء سيطلعون على ما كتب وسيكتب مستقبلا؟ لا شك أن الفائدة والتواصل والتفاعل تحقق مع كل هذه النصوص في تاريخ البشرية، من لدن قراء لا حصر لهم، بأشكال وصور متعددة. لكن هل يمكننا أن نجيب عن سؤال: من هو القارئ الأحد الذي قرأ أرسطو مثلا؟ وهل تحقق فعلا هذا القارئ؟ وهل هذا القارئ يمكن أن يظهر في أزمنة متعددة؟ أم سيظل قابلا لأن يتحقق مستقبلا؟
يفرض سؤال لماذا نكتب سؤال لماذا نقرأ؟ وكلاهما يتعلق بالتفاعل الإيجابي.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى