الاستقلال الثقافي والفكري
احتفل المغرب يوم 18 تشرين الثاني (نوفمبر) بعيد الاستقلال الذي مر عليه إلى الآن ثلاث وستون سنة. وفي كل عام تخلد إحدى الدول العربية عيد استقلالها. إنها مناسبة ليس فقط للاحتفال وتمجيد نضالات الحركة الوطنية ووقوفها ضد سياسة المستعمر، وتقديمها التضحيات من أجل الاستقلال، ولكنها أيضا مناسبة للتفكير في المستقبل، عبر قراءة ما تحقق خلال عقود طويلة من الاستقلال.
كانت مختلف التحليلات التي هيمنت في السبعينيات تتحدث عن كون ما تم لا يعدو أن يكون استقلالا سياسيا، وتعتبر كل ما تحقق ظل ناقصا لأنه بدون التحرر الاقتصادي لا يمكننا أن نتحدث عن استقلال كامل! وبدا مع انصرام السنين والعقود أن الاستقلال السياسي بدوره لم يتحقق. فالتبعية للدوائر السياسية والاقتصادية والمالية العالمية تؤكد أن العلاقة بين الدول الاستعمارية القديمة ومعها الإمبريالية الأمريكية، والدول الحديثة الاستقلال أن ما تحقق فعلا هو استقلال ناقص يجب استكماله عبر العمل على الحصول على استقلال اقتصادي. بل إن السياسات التي تسير على نهجها العديد من المستعمرات القديمة تخضع بما لا يدع مجالا للشك أن التبعية السياسية للإملاءات الأجنبية هو ما يحدد سياساتها في مخالف القطاعات التي تهم الوطن.
إن العبارة التي ظلت مهيمنة في مرحلة ما بعد الاستقلال والتي تؤكد أن الاستعمار خرج من الباب وعاد من النافذة، تلخص أحسن تلخيص العلاقات التي اتخذت أوجها متعددة بين المستعمر والمستعمَر. ولقد تشعبت هذه العلاقات وتنوعت مع العولمة وما فتحته من آفاق جديدة للتبادل بين الدول، لم تؤد في نهاية المطاف إلى تأكيد أن المستفيد الأكبر من هذه العلاقات الدولية في مختلف جوانبها هو من يمسك بالمعرفة والسلطة ويعمل على فرضهما على غيره مستعملا مصطلحات لا علاقة لها بالعنف والقوة “الصلبة” كما كان سائدا في العهود الاستعمارية القديمة، ولكن باستعمالات أكثر لطافة، وهي تصفها بـ”النعومة”.
صار الحديث عن “ما بعد الاستعمار”، وهو يهتم أكثر باستكشاف العلاقات التي كانت سابقا، مبررا لتجاوز الحديث عن “استعمار جديد” لا يختلف في الجوهر عن الاستعمار العتيق. فسياسة الإقراض، وخوض الحروب بالوكالة، واحتكار المعرفة، ونشر سياسات الهوية، ليست سوى تجليات غيض من فيض ما يمارسه هذا الاستعمار الجديد الذي يؤكد رغم كل ما يقال عن العولمة، وكون العالم قرية صغيرة، والعالم المترابط، والديموقراطية وحقوق الإنسان، أن التمايز بين “النحن” و”الهم” أزلي ولا يمكن ردم الهوة بينهما.
إن الاستقلال والتحرر مطلبان ضروريان للشعوب التي خضعت للاستعمار الذي فرض عليها التوجهات التي تبقيها أبدا تحت طائلة سيطرته. لقد تم تحرير الأرض، ولم يتحرر الإنسان. تأسست الدول ولم يتأسس الفكر والثقافة اللذان يجسدان مطامح الشعوب بما يتلاءم مع ما تفرضه الأرض المحررة. إن الاستعمار القديم لم يحتل الأرض، وقسمها بالمسطرة والبركار، إلا بعد أن درس وفهم، وبعث من يعمل ليل نهار، وبهمة لا نظير لها من أجل فهم الشعوب المراد استعمارها، واستيعاب خصوصياتها الثقافية والتاريخية. وبسبب تلك المعرفة التي شكلها عن تلك المجتمعات وثقافاتها تمكن من إحكام سيطرته عليها. ولم يقف عند هذا الحد بل إنه فرض ثقافته على غيره، وجعله لا يفكر إلا بمنطقه ورؤيته للعالم التي ما تزال إلى الآن هي الرؤية المسيطرة على المستوى العالمي. لقد طور الغرب ثقافته وعلومه وتقنياته وتمكن من امتلاك السلطة المعرفية وفرضها على الجميع، في الوقت الذي ظلت الكثير من المستعمرات تدور في فلك ما يقدمه لها من إنتاجات، بهدف الاستهلاك. وفي الوقت نفسه عمل بكيفية ضمنية على الاعتراض على امتلاك أمم وشعوب أخرى ما وصل إليه.
لا أحد يجادل في أن المعركة الثقافية والمعرفية ضد الاستعمار كانت قوية إبان المرحلة الاستعمارية من منظور الهويات الخاصة التي ظلت تعترض على ثقافة المستعمر وتعارضها. وفي الوقت نفسه كانت المناداة بالاستفادة مما حققه الغرب. إن ثنائية الأصالة والمعاصرة جعلت الفكر العربي أسير السؤال الإشكالي: لماذا تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم؟ فلا الذين دافعوا عن الأصالة، حققوها، بل إنهم صاروا عبئا على التراث، وبينهم وبين فهمه وقراءته قراءة ملائمة مسافة ضوئية. كما أن دعاة التقنية، والحداثة ظلوا منشغلين بالنقاش ضد خصومهم إيديولوجيا وسياسيا، فلم يطوروا أي رؤية لتحقيق الخروج من نفق التخلف التاريخي. كان هذا الصراع الذي ما يزال مستمرا إلى الآن، رغم تبدل الزمان والعصر عائقا دون الالتفات إلى الجوهري في إمكانية التطور بمنأى عن تلك الثنائية، وحاجبا لأي تفكير يسهم في تحرير العقل والإنسان.
ولم يكن الذين حاولوا الإمساك بالعصا من الوسط بالقول بألا أصالة بدون معاصرة، ولا معاصرة بدون أصالة متذبذين بين هؤلاء وأولئك، فلا هم في العير، ولا في النفير. أدى هذا التنافر والتجاذب بين أطراف هذه الثنائية إلى الدوران في فلك ما يقدمه التراث أو العصر. فلم يكن سوى استنساخ المقولات الكبرى، واستعمالها أداة للحجاج والسفسطة. وكلما تطورت مصالح الغرب في المنطقة العربية تتهاوى ادعاءات الأصالة أو المعاصرة أمام الرغبة في الاصطفاف إلى جانب الآخر سواء تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، أو قضايا الصراعات المحلية، أو القومية. فتخاض الحروب، وتستمر الانقسامات العربية ـ العربية، من جهة، والتناقضات داخل القطر العربي الواحد.
تهاوت كل الشعارات والمقولات التي انشغل بها الفكر العربي منذ عصر النهضة إلى الآن، فلا الحرية تحققت، ولا الوحدة القومية أو الخلافة الإسلامية تجسدت، ولا استغلال الثروات المحلية للتنمية ساهم في الارتقاء بالإنسان العربي ليعيش مواطنا مثل مواطني الدول المتقدمة. ويمكن تعداد مظاهر التخلف الحديث في التعليم والصحة والسكن… لا يمكننا تفسير التطورات التي يعيشها الوطن العربي فقط بالتدخل الأجنبي، ولا بالاستعمار الجديد الذي يعمل على إطالة أمد التفرقة والتمزق في الجسد العربي، والحيلولة دون دخوله العصر، والمشاركة فيه على غرار الدول المتطورة. فهذا واقع لا يمكن أبدا نكرانه أو التنقيص من أهميته. إن الفكر العربي، والمسؤولين عن المصير العربي يتحملون جزءا كبيرا من المسؤولية في إبقاء واقع التردي والتخلف والتبعية.
لطالما تحدثنا عن الاستقلال السياسي والاقتصادي. لكننا لم نتحدث بما يلزم عن الاستقلال الفكري والثقافي. كان هناك فعلا اهتمام بالثقافة ووعي بأهميتها في التغيير، لكن إعطاء الأولوية للسياسة على الثقافة كان وراء تهميشها، ووضعها في الخلفية. بل إن الاهتمام بالثقافة لم يكن في واقع الأمر سوى لأهداف سياسية. كان التطلع إلى أن التغيير السياسي يمكن أن يتولد عنه تغيير يشمل بقية القطاعات والمجالات. لكن أي ممسك بالسلطة السياسية يرى نفسه مالكا لما يمكن أن تكون عليها الثقافة. فلا تكون النتيجة سوى العسف والقمع.
إن الثقافة والفكر مدخلان لأي تغيير حقيقي. إنهما ببساطة يعنيان تغيير الإنسان. لا يمكن بناء مجتمع جديد وعصري بالشعارات واستنساخ التصورات، وكيفما كانت الجهة التي تدعو إليها، أو تسهم في ترويجها. كما أنه لا يمكن بناء وطن بالتنافس على جلب الاستثمارات لتشييد العمران فائق الحداثة، أو نيل الحظوة لدى الدوائر العالمية.
الاستقلال الثقافي يعني خلق الإنسان العربي القادر على التفكير في مستقبله وفي وطنه بوصفه مستقبل الإنسانية.