حلقة نواكشوط السردية
تأخر ظهور بعض الكليات والجامعات في بعض الدول العربية لأسباب متعددة، لكن هذا التأخر لم يحل دون ابتعاث بعض الطلاب للدراسة في الجامعات التي سبقتها إلى الظهور. وما إن تأسست بها حتى صار أولئك الطلاب أحد روادها وطليعييها، إلى جانب من تم استقدامهم من الأكاديميين العرب من جامعات كثيرة. وكان لهذا أثر مهم في تبادل الخبرات والتجارب من جهة، ومن جهة أخرى تعزيز لحضور تقاليد ثقافية وجامعية مشتركة في كل الوطن العربي. كل هذه التقاليد ما تزال مشتركة إلى اليوم، رغم التفاوت في التاريخ واعتماد الأنظمة الأكاديمية.
إن ذاك التفاوت في الظهور لم يمنع من أن تسهم الجامعات المتأخر ظهورها، بعد مرور الزمن، في أن يصبح لها دور طليعي في فرض تقاليد جديدة على حساب ما ظل سائدا. وفي هذا أيضا تأكيد على الاشتراك الذي أومأنا إليه، وتسليم بعلاقات التأثر والتأثير بين الجامعات العربية، ولاسيما في ما يتصل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عامة، وشعب اللغة العربية وآدابها بصفة خاصة. ولهذا الاعتبار كنت دائما أرى أن هذه الكليات والشعب والأقسام، هي التي تمثل الثقافات الوطنية والعربية، وهي التي تسهم في تطوير الثقافة العربية المعاصرة بكيفية دائمة ومشتركة.
إن صورة التأخر والمواكبة تبدو لنا بجلاء مع التجربة المغاربية، التي لم تتأسس فيها الجامعات إلا في أواخر الخمسينيات، وظلت المقررات التي كانت تطبق في مصر والعراق والشام هي المعتمدة فيها. لكن مع الثمانينيات بدأ التحول في المغرب مثلا مع الاتجاه إلى التخلص من إرث دراسة الأدب، وفق المناهج التقليدية التي كانت تعتمد التاريخ ودراسة المضامين، إلى الاهتمام بالأشكال والبنيات، وصار ذلك سائدا في كل الجامعات العربية، وإن بصور مختلفة.
ظلت الجامعة الموريتانية تعتمد نظام ابتعاث الطلاب للدراسة في أحد الأقطار العربية، ولاسيما بعد مرحلة الإجازة، لغياب الدراسات العليا فيها، وكان الأساتذة الذين يدرسون فيها من خريجي إحدى الجامعات العربية، إلى أن كان اعتماد نظام الإمد (إجازة، ماجستير، دكتوراه) الذي تشرفت بالإسهام في إعداده مع أساتذة شعبة اللغة العربية وآدابها، في نطاق الشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، الذي نجم عنه تشكيل «مكونة النص والمناهج» ضمن مدرسة دكتوراه الآداب والعلوم الإنسانية، التي كان يترأسها محمد الحسن ولد محمد المصطفى، إبان نشأتها، والتي صارت الآن، في دورتها الثانية لمحمد الأمين ولد مولاي إبراهيم. كما كان لي شرف حضور حلقات مع طلبة الدفعة الأولى في سلك الدكتوراه منذ يناير/كانون الثاني 2014 في موضوعات حول المناهج والدراسات السردية والأدبية، إلى أن ناقشنا أول أطروحتين للدكتوراه قبل سنتين. وحالت جائحة كورونا دون تقديم باقي الأطاريح.
ثمة الآن مختبرات عديدة للسرديات في الوطن العربي، ولعل التنسيق بينها، علميا وعمليا، كفيل بتطوير الدراسات السردية العربية، وجعلها ذات مستوى عالمي.
ورغم الظروف التي يعيشها العالم بسبب تلك الجائحة، كان الإصرار من لدن الجامعة على تقديم خمس أطاريح للمناقشة في الأسبوع الثاني من يناير هذا العام 2021، ساهمت في مناقشة أربع منها، وتم تأجيل ثلاث أخرى أشارك في مناقشتها في الأشهر المقبلة.
تأخر ظهور الرواية في موريتانيا التي ظلت تعرف ببلد المليون شاعر، إلى بداية الثمانينيات، مع طبع أول رواية وهي «الأسماء المتغيرة» لأحمد عبد القادر، ثم سرعان ما بدأت أعداد الروايات والروائيين تتزايد باستمرار.
وتظهر بين الفينة والأخرى أسماء جديدة من الكتّاب والكاتبات شرعت في فرض نفسها داخليا وفي العالم العربي. وكان طبيعيا أن تبدأ بالظهور الدراسات السردية التي تعنى بأعمال هؤلاء إلى جانب العناية بدراسة السرد الموريتاني والعربي أيضا. فظهرت أسماء بات لها حضور عربي مثل محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم، في مجال السرديات والبويطيقا، ولد بن تتا في السرد القديم، ومحمد الحسن ولد محمد المصطفى في النقد الروائي والسردي، إلى جانب باحثين آخرين، ومنهم العديد من طلاب وطالبات الدكتوراه ممن أبانوا عن الجدية والطموح في المساهمة في تطوير الدرس الأدبي الموريتاني والعربي عامة، والسردي منه بصورة خاصة، من خلال رسائلهم في الماجستير والدكتوراه.
لاحظت من خلال حضور الحلقات ومناقشة الأطاريح، أن للباحث الموريتاني طموحا للمشاركة في التيار العام الذي ينشغل به الباحثون والأكاديميون العرب. ويبدو أن الاهتمام بالسرد الموريتاني يسير إلى جانب العناية بالرواية العربية وفق المناهج المتداولة في الدراسات العربية المعاصرة. لكن ثمة خصوصية أحببت التركيز عليها، وهي المتمثلة في العمل على إثبات الذات، وفرض تجربة متميزة من خلال اعتماد العمل الجماعي، والحرص على تبني البعد العلمي، وليس التأويلي في الدراسة الأدبية. كما أن تأسيس بنيات البحث ومكوناته تعرف نوعا من التعدد في التناول بين السردي والأدبي واللساني، ما يشي بإمكان تجسيد الطموح الذي يسعى إليه المشتغلون بالسرد: «حلقة نواكشوط للدراسات السردية».
إن التأخر في الظهور ليس علة لانعدام التطور إذا توفرت الإرادة والتصميم، واعتماد العمل العلمي الجماعي. ثمة الآن مختبرات عديدة للسرديات في الوطن العربي، ولعل التنسيق بينها، علميا وعمليا، كفيل بتطوير الدراسات السردية العربية، وجعلها ذات مستوى عالمي.