نقد

سعيد يقطين: جائحة كورونا أبانت عن طاقات المغرب الكامنة

 

يعد الدكتور سعيد يقطين من أبرز النقاد والمنظرين العرب في مجال السرديات وأحد أهم رواد البحث الأكاديمي في مجال الأدب الرقمي منذ ثلاثة عقود. كما يعتبر أيضا واحدا من خيرة المثقفين، الذين يتابعون الشأن العام من موقع نقدي تنم عنه كتاباته المتواصلة في عدد كبير من الجرائد الوطنية والعربية.

في الحوار التالي يتحدث يقطين عن تداعيات جائحة كورونا على المجتمع والسياسة والثقافة والأدب والتعليم في المغرب والعالم العربي بكثير من العمق والغيرة الوطنية والقومية، داعيا إلى استخلاص العبر واستغلال الفرصة للفكاك من إسار التبعية للآخر وبناء الذات في ظل التعاضد الحاصل بين الدولة والمجتمع.

_ يشكل انتشار وباء كورونا بهذا الشكل حدثا غير مسبوق من حيث تهديده للعالم ككل وشل عجلة اقتصادياته الكبرى وتقليص مظاهره الاجتماعية إلى حدودها القصوى. وقد كنت من المثقفين، الذين تفاعلوا مع الواقعة الكونية بالعديد من المقالات. ماذا يشكل لك بوصفك مثقفا هذا الحدث، الذي يغير وجه العالم الآن؟ وأي درس يمكن استخلاصه؟

_ _ لا أخفيك أنني تأثرت كثيرا بهذا الحدث. لقد كان مفاجئا، وعنيفا. ورأيت فيه، كما وقع للجميع، منعطفا مهما في تاريخ البشرية. لقد وحد العالم أجمع، وبين التفاوت بين الناس، كما أبرز، في الوقت نفسه، أن خللا عظيما يسود العلاقات بين الأمم والشعوب، من ناحية، وبين الحكام والمحكومين من ناحية ثانية.

وبما أن هناك عجزا تاما عن مواجهته، فقد فرض هذا الوباء الاستسلام، والهلع والخوف على نطاق واسع، وكشف أن الإنسان ضعيف جدا، وأنه هو المسؤول عن هذه الكارثة التي عمت البشرية جمعاء. استفزني هذا الحدث للتأمل والتفكير والكتابة، فكانت سلسلة المقالات التي أكتبها في جريدة القدس كلها تدور في فلكه، رغم أنني كنت قد أعددت موضوعات مختلفة للكتابة.

كان وقع الحدث علي باعتباره جللا، ومنعطفا مهما، لا يختلف عن الربيع العربي، وآثاره على المغرب، وقد دفعاني معا إلى الخروج من دائرة البحث الأكاديمي، مؤقتا، للانغمار في التفكير فيما يمكن أن يؤول إليه المغرب والوطن العربي جراء ما وقع.

كانت كل كتاباتي تصب في اتجاه أن المنعطفات الكبرى في التاريخ تدفع إلى النظر في ما ساد في الماضي، بهدف عدم تكراره في المستقبل، مع التوقف على وصف المسببات، وآثارها التي تؤدي إلى وقوع تلك الأحداث.

لم أكن في كتاباتي سواء عن الربيع العربي، أو عن فيروس كورونا، منحازا إلى أية جهة، ولم أناصر طرفا ضد آخر. كنت، من منظور السرديات، أتعامل مع الحدث الأكبر باعتبار ما يمكن أن يتولد عنه من أحداث عن طريق وضع سيناريوهات متعددة.

وكنت أميل دائما، إلى النظر والتفكير في ما يمكن أن يؤدي إلى اصطناع وخلق حبكات ملائمة تتطور فيها الأحداث على نقيض ما كان سائدا في الحكي السابق، بهدف الوصول إلى خلق “بدايات جديدة” في تاريخ البشرية كي لا أقول “نهاية سعيدة” لذاك الحدث فقط.

كما أن الرقميات كانت زادي الأساس في قراءة الأحداث. فالوسائط المتفاعلة لعبت دورا كبيرا في أحداث الربيع العربي، وأبانت أننا ندخل عصرا جديدا، لم تبق فيه لسلطة الخطابات التي كانت مهيمنة قبل هذه الأحداث أي أثر.

فالشعب صار يوظف أدوات تواصله، وتفاعله، وتعبيره عن وجوده من خلالها، ولم يبق لأحد أن يتحدث نيابة عنه من خلال الوسائط التي كانت يحتكرها لنفسه. وعلى الدولة أن تأخذ هذا بعين الاعتبار في التعامل معه من أجل خلق شراكة للمستقبل. ولذلك طالبت وقتئذ بأن ترتقي الحكومة والأحزاب إلى اللحظة التاريخية، فيكون التفاعل بينها بالصورة التي تؤدي إلى التحول المنشود.

وهذه هي منطلقات متابعاتي لتداعيات فيروس كورونا، لقد أبانت لي بصورة أساسية أن المغرب، ومعه الوطن العربي، بإمكان كل منهما، وقد صارت الجائحة ذات بعد يخص الإنسانية جمعاء، وكشفت أن لا فرق بين دول متقدمة ومتأخرة، أن الفرصة مواتية للاعتماد على الذات، واستعادة الثقة بها، والتعاون بينهم، في مواجهة التحدي الوبائي، بهدف التحرر من التبعية للاستعمار الجديد، والعمل على تبني توجهات جديدة للمواجهة.

ولذلك ثمنت عاليا الجهود التي بذلتها الدولة، وكذا رجال التعليم والصحة، مبرزا أن التضحية بالقطاع العام لفائدة الخاص في هذين المجالين أبان عدم صحة التوجهات التي كانت تمارسها الحكومات المتعاقبة. هذا إلى جانب موضوعات أخرى ذات أهمية، مثل دور الرقامة في تجاوز الكثير من العوائق التي ظلت تنتهج سياسيا ولم تكن نتائجها سوى معيقة لأي تحول حقيقي.

_ يكاد يشبه السيناريو الذي وضع فيه الفيروس الفتاك العالم أجمع أدب وسينما الخيال العلمي. إلى أي حد ينطوي الأدب والفنون عموما على رؤى حدسية ومستقبلية تتحسس الأزمات قبل وقوعها وتستشرف المخاطر؟

_ _ لا يتعلق الأمر في رأيي برؤية حدسية استباقية، ولكن بالإحساس بضراوة ما يصطنعه الإنسان لبسط هيمنته على الإنسان والطبيعة. وإذا كان هذا هو دور العالم والباحث في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وهو ما يتمثل في محاولة فهم الظواهر وتفسيرها بهدف إعادة التوازن الطبيعي بين الناس، وفي علاقتهم مع العالم الطبيعي المحيط بنا (البيئة)، يتصدى الإبداع، بدوره، لتمثيل ما يسود المجتمعات من ظواهر، فيجسد التناقضات، ويعبر عن القلق والخوف الذي يعتري الإنسان جراء أفعاله المبنية على استغلال الإنسان، وعلى تدمير الطبيعة عن طريق الخيال الأدبي والفني.

هكذا أتصور الإبداع الأدبي والفني: إنه تعبير عن قلق وجودي. ولا أرى فرقا بين الأساطير، وما يتصل بها من ملاحم وحكايات عجائبية وغرائبية، وشعبية من الأشكال القديمة، وروايات الخيال العلمي بصورة خاصة. فليست روايات الخيال العلمي، وتحولها سينمائيا سوى تعبير عن الخوف والهلع الذي يعتري الإنسان وهو يرى كيف أن التطور العلمي بدل أن يكون في خدمة الإنسان، صار يمارس لاستعباده، وتدمير البيئة التي يعيش فيها.

لذلك فعوالم الوباء وتداعياته لا تختلف من حيث الجوهر عن ممارسة الأنظمة الديكتاتورية وهي تفرض على شعوبها نوعا من “الحجر” الذي يبقيها تحت السيطرة، وقس على ذلك. إن أي استشراف للمستقبل لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تمثل وقائع الماضي الإنساني الدامية، وحاضره المؤلم. وهذا هو دور الأدب والفن.

_ هل تتوقع أن يخلف الوباء أثره العميق على الأدب والفكر من جهة ما قد يرسيه من إبدال جديد ورؤية مغايرة للعالم، الذي يؤكد العديد من المثقفين أنه لن يكون هو نفسه بعد انزياح هذه الغمة؟

_ _ بكل تأكيد ستكون الرؤيات والتصورات مختلفة ليس فقط على مستوى الإبداع الأدبي والفني، ولكن أيضا على مستوى التفكير في قضايا أخرى تتعلق بكيفية تدبير القطاعات الحيوية، وخاصة الأمن، والصحة والتعليم، هذا إذا ما تم استخلاص الدروس والعبر على النحو الذي يجسد، سواء لدى الحكام والمحكومين، وكل المعنيين بالتدبير والتفكير، أن المستقبل يحبل بالكثير من المفاجآت والوقائع غير المنتظرة، بسبب ما وصلت إليه العلاقات الإنسانية من تجاذب قاتل، وتصارع مدمر، من أجل الهيمنة، وأن البقاء للأقوى، ولمن يمتلك المعرفة، ويسهم في إنتاجها.

وأرى أن الدول التي ظلت تدور في فلك التبعية، ومن بينها الدول العربية، أو تعيش على الاقتراض، أو تمارس العسف، عليها أن تغير رؤيتها وتدبيرها لشؤونها بكيفية مختلفة إذا أرادت فعلا أن يكون لها موقع في العالم المعاصر. إن المستقبل، بسبب ما يجري حاليا، مرشح لصراعات من أنواع جديدة: الحروب الرقمية، والجرثومية، والاقتصادية، وما لم تتجهز هذه الدول بما يلزم من أجل المستقبل فإنها ستكون عاجزة عن البقاء.

_ هل ترى أن وباء كورونا لم يعمل إلا على تعميق الفجوة الرقمية في المغرب والعالم العربي وكشف التحديث الزائف الذي يعمل بأنصاف الحلول ويشتغل على الواجهة؟

_ _ بكل تأكيد. إن مدى الفجوة الرقمية يتسع باطراد لدى كل الدول التي لم تستوعب جيدا طبيعة العصر الذي نعيش فيها منذ نهايات القرن الماضي، وظلت تعالج مشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالطريقة التي كانت سائدة في منتصف القرن العشرين. نجد هذه الفجوة حتى بين الدول المتقدمة.

ولما كانت تبعيتنا لفرنسا، وخاصة في مجال التعليم، فإننا لن نجني منها سوى المزيد من التخلف على المستوى الرقمي، لأن فرنسا متخلفة في هذا المجال بالقياس إلى دول أخرى مثل أمريكا أو الصين مثلا. ولا يمكننا دخول العصر الرقمي إلا عن طريق إصلاح حقيقي للتعليم. بواسطة التعليم يمكننا تطوير كل القطاعات وجعلها متصلة بالثقافة الرقمية ومتطلباتها.

ومدخل أي إصلاح للتعليم يكمن بالدرجة الأولى بالوعي بأهميته القصوى، وأولويته على ما عداه من القطاعات لأن إصلاح التعليم يعني إصلاح كل القطاعات التي لا يمكنها أن تتحرك إلا بالمعرفة والدراية التي يتيحها. وثانيا التخلص من عقدة التبعية لفرنسا. بدون هذا الوعي المزدوج سنظل نمارس التجريب، والارتجال. وصرنا نعاين الآن بجلاء أنهما لم يؤديا بنا إلا إلى تعليم ناقص وعاجز عن تحقيق أي غاية من الغايات المنشودة وعلى المستويات كافة، سواء تعلق الأمر بالأفراد أو الجماعات.

_ اضطرت كل الصحف الورقية إلى تعليق مطبوعاتها والاستعاضة عنها بنسخ إلكترونية، كما طرحت العديد من المؤسسات والمكتبات وبعض دور النشر رصيدها المكتبي الرقمي رهن الباحثين والعموم. هل ترى أن الأزمة الحالية ستسرع الولوج إلى العصر الرقمي كما هو حادث في العديد الدول المتقدمة؟

_ _ ما قلناه عن التعليم ينسحب على كل القطاعات، ومن بينها الإعلام. فبدون تعليم رقمي لا يمكننا دخول العصر الرقمي، أي هذا العصر الذي نعيش فيه.

وسنظل بمنأى عن الانخراط فيه بله الاشتراك في تطويره نحن الأحسن. لقد كشفت الجائحة الأعطاب الكبرى التي هي نتيجة سياسات متعاقبة لا تخطط ولا تدبر إلا تركات الأزمات، وفي كل ممارساتها لا تعمل إلا على مراكمتها بدل العمل على إيجاد الحلول الناجعة لها.

إذا أخذنا الكتاب والجريدة، والمكتبة، وهي أدوات التواصل والتفاعل نجدها ظلت رغم توفر الوسائط الجديدة تشتغل بالطريقة التقليدية، ولم تتقدم في العمل على تطوير نفسها لدخول العصر الرقمي. هل لنا أن نحمل المسؤولية للجرائد، وللناشرين، ولموظفي المكتبات؟ إذا كان الصحفي لم يتلق تكوينا رقميا، والكتبي، أنى له أن يفكر في طرق أخرى للعمل؟ إن غياب الرقامة، والثقافة الرقمية لا يمكن إلا أن يدفع في اتجاه اعتماد الطرق التقليدية والعتيقة. ولما اضطرت هذه الصحف للتوقف ورقيا نجدها عاجزة عن إنجاز مهمتها الإعلامية.

لذلك نجد الوسائط الرقمية الاجتماعية هي التي تقدم الترهات والأضاليل، وهي التي يتم التفاعل معها. فهل نستخلص الدروس، وننتقل إلى الإعلام الجديد، والثقافة الرقمية الجديدة؟ أتمنى أن يتحقق ذلك.

_ أنت من رواد المنظرين للأدب الرقمي في العالم العربي، ولك عدة مؤلفات في هذا الباب، بالإضافة إلى وجود عدد متزايد من النقاد المهتمين بهذا الأدب. أمام غياب تراكم في مدونة الأدب الرقمي بالعالم العربي إلى أي حد يستطيع النقد أن يملأ هذه الفجوة ويهيء الأرضية لتحول الأدب من الطباعة إلى الرقامة؟

_ _ فعلا، لقد دفعني الاشتغال بالأدب والسرد ومواكبة ما يجري على المستوى العالمي في الإبداع والفكر، إلى الاهتمام بالثقافة الرقمية منذ التسعينيات لأني كنت أرى أن أي تحول أدبي وفكري يسهم في تحويل المجتمع، وعبرت كذا مرة على أن رهان تطورنا الثقافي متصل بدخول العصر الرقمي.

أنشأت لي موقعا، وكنت أدفع زملائي إلى ذلك. كما كنت أوجه طلبتي إلى إنجاز بحوث الإجازة حول الثقافة الرقمية، وكان الجميع فيما كان يسمى مقاهي “السيبير” وقتها، يتعجبون منهم كيف يبحثون في المواقع وفي الثقافة الرقمية، وهم من شعبة الأدب العربي؟ كما أنني عندما كنت في اللجنة الوطنية لطلبات الاعتماد بعد إطلاق تجربة “الإلمد” (إجازة، ماستر، دكتوراه) قد اقترحت وحدة “الأدب والتكنولوجيا” من خلال عنصري: الأدب الرقمي، وترقيم التراث.

فلم تدرج هذه الوحدة إلا في بعض الكليات، لعوائق بنيوية، ثم كان التخلي عنها. أتحدث هنا عن بدايات الألفية الجديدة. كما أني دفعت الباحثة لبيبة خمار لإنجاز أول أطروحة للدكتوراه حول الأدب الرقمي في المغرب، وكانت باللغة العربية. كل هذه الدعوات لم تؤت أكلها بسبب الرؤية التقليدية السائدة للأدب، فكيف يمكننا أن نتحدث عن “نقد رقمي”، في غياب وعي رقمي؟ ولكم كان عجبي عظيما، وأنا أرى الجائحة تفرض على وزارة التعليم الدعوة إلى “التعليم عن بعد”؟ وكنت أتساءل: كيف يمكننا توفير ذلك، وبنياتنا الرقمية على غير أساس؟

_ هل تسهم الأزمة الراهنة في حمل الناشرين والكتاب على الانتقال إلى العالم الرقمي، وهل شروط هذا الوعي ومقتضياته متوافرة؟

_ _ بكل تأكيد. إن الناشر، والكتبي الذي لا يتخذ نموذج تجربة “أمازون” لتسويق الكتاب والمجلة، والبحث عن وسائط أخرى، لا يمكنه إلا أن يتحول إلى بائع الكتب القديمة وسط أزقة المدن العتيقة.

إن صور أشكال الإنتاج والتسويق تغيرت كثيرا، في العالم أجمع، ونحن، بسبب الذهنية التقليدية السائدة، نبصر العالم يتحرك أمام أعيننا، وكأننا لا نرى شيئا. أتذكر عندما كنا نناقش مسالة “التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل” في اللجنة الوطنية، وجدتهم يتصورون “التواصل” بالمعنى التقليدي للكلمة، أي امتلاك مهارات التعبير الشفاهي والكتابي.

وصارت كلمة “التواصل” المفتاح السحري لتطوير منظومة التعليم، ففتحت تكوينات في هذا المجال، وألحقت بالجامعة. ثم ما لبث أن سكت الجميع عن التواصل؟ ولم يكن أحد يستمع إلى أن التواصل هنا مشروط بالوسائط المتفاعلة، وبالثقافة الرقمية. في غياب هذا الوعي كيف يمكننا تكوين الطالب رقميا ليضطلع بالإعلام الرقمي، وبالنشر الرقمي، وبالإبداع الرقمي؟ وقس على ذلك.

_ لم يجد المغرب أمام تعليق الدراسة الحضورية بدا مما اصطلح عليه بالتعليم عن بعد، في غياب منصات رقمية مصممة لهذا الغرض، هل ترى أن الصيغة المعتمدة حاليا كفيلة بأداء المهام البيداغوجية والتعليمية أم أن الأمر لا يعدو مجرد ترقيع ستكون له عواقب وخيمة في ميدان لا يقبل الارتجال؟

_ _ إن المنظور السياسوي ـ الاقتصادوي للتعليم هو السائد، وهو يختزل مشكلة التعليم في عجز الدولة والمجتمع السياسي، عن تحمل مسؤوليتهما نحوه، ولذلك تم منحه للقطاع الخاص الذي لا يهمه إلا الربح من ورائه باعتباره تجارة. كما أن المجال فتح واسعا لمؤسسات “الدعم” المدرسي؟ فصارت هذه المؤسسات مثل حوانيت البقالة، تجدها في كل الأحياء؟ وكم كنت أتعجب حين أجد في لافتات بعض هذه “المراكز” أو “المعاهد” أو “الأكاديميات” (لنتأمل التسميات؟) التي تعلم اللغات الأجنبية، والعلوم، أنها تقدم دروسا في الدعم “الجامعي”؟ هذا من جهة.

وإذا كان، من جهة أخرى، النموذج التعليمي مستقى من تجارب أبان الزمن أن أصحابها ينتقدونها، ويقرون بعجزها، كيف يمكننا أن نتحدث عن التعليم عن بعد، ونحن فاشلون فشلا ذريعا في ممارسته عن قرب؟ لم نعمل منذ الاستقلال على محاربة الأمية الأبجدية، فأنى لنا محاربة الأمية الرقمية وقد أضيفت إلى نظيرتها القديمة؟ في غياب بنيات رقمية لم ننجح في إقامتها رغم هدر الملايين بدون نتيجة، كيف يمكننا ممارسة التعليم عن بعد؟ لقد اتضح لنا، يا للأسف، ويا لسخرية القدر، أن نتخذ من قناة كانت مخصصة للرياضة أن تصبح “مؤقتا” منصة للتعليم عن بعد؟

إن غياب التدبير الوطني، وهيمنة الارتجال والتسرع والتجريب كتصور للعمل في المجال التعليمي لا يمكنه إلا أن يؤدي إلى النتائج غير مرضية التي يعاني منها تعليمنا.

وأتمنى أن يكون لفكرة “التعليم عن بعد” أثر في تغيير وجهة نظر المسؤولين إلى القضية التعليمية. إن هذه الفكرة التي هي وليدة الثورة الرقمية ومتصلة بها، لا يمكنها إلا أن تغير نظرتنا جذريا، إلى التعليم الخاص، وإلى مراكز الدعم المدرسي، وأنها تعطي تصورا مختلفا يقضي بأن الاستثمار في “التعليم الرقمي” من لدن الدولة هو المدخل الطبيعي الذي يمكن أن تعم فائدته كل القطاعات عبر إدماج المجتمع في العصر الرقمي. هذا هو رهان أي تحول في المستقبل.

_ ما هو توقعك لمستقبل البحث العلمي في المغرب في ظل تداعيات الوباء؟

_ _ لا يمكن أن يتحدد مستقبل البحث العلمي في المغرب تحت تأثير الجائحة. مستقبل البحث العلمي وليد استراتيجية وسياسة عامة. وحين نزدري الجامعة، ولا نتخذ منها فضاء للبحث العلمي، بذريعة أولوية محاربة البطالة، وتكوين الحرفيين، ما تزال فكرتنا عن الجامعة متخلفة عما يجب أن تكون عليه.

دور الجامعة هو إنتاج المعرفة العلمية التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالمختبرات والمراكز العلمية، وبالتخصصات الدقيقة في كل الفروع العلمية: الطبيعية والإنسانية والاجتماعية. وظيفة الجامعة في كل هذه التخصصات هي إنتاج العلماء والباحثين، وليست مدارس لتكوين المهنيين. إن الغائب الأكبر في جامعاتنا هو البحث العلمي.

صحيح يمكن استخلاص الدروس من هذه الجائحة. وحين لا تكون هذه الدروس عميقة، ويحصل الاقتناع بها، وحولها إجماع من لدن الدولة والمجتمع السياسي، لا يمكننا أن تحدث عن تداعيات ما للجائحة. لقد أبانت الجائحة أن للمغرب طاقات جبارة لكنها مخزونة، وكامنة.

ولعل من محاسن الجائحة أنها كشفت المغيَّب في المغرب، وعرت الذي كان يحتل الصدارة. إن “المغرب العميق” الحقيقي، ليس هو ما كان يروج في اللغة السياسية البائسة، ولكنه المغرب الذي استبعد من الانخراط في التحول لأن لديه كفاءات حقيقية، وترك المجال لـ”المغرب السطحي” المبني على أساس التوافقات، والحسابات، والمصالح.

حين تعطى للمغرب العميق فرصة الانشغال بقضايا المغرب الحيوية سيكون للبحث العلمي موقعه ليس فقط مغربيا أو عربيا، ولكن عالميا أيضا. وفي سبيل تحقيق ذلك لا بد من اتباع سياسة أخرى غير التي ظلت تعتمد لتدبير الأزمات لاقتلاعها ووضع حد لها عبر إعادة النظر في السياسة التعليمية.

فيروس كورونا ثورة عالمية، وهو لا يختلف عن الأحداث الكبرى في تاريخ البشرية. لكن الشعوب والأمم ستتغير في ضوء استخلاصها للدروس الملائمة لتكون أحسن.

وعند المغرب والمغاربة، تاريخا وجغرافيا، ملكا وشعبا من الإمكانات الهائلة والطموحات ما تجعله قادرا على الخروج من الجائحة بدروس تمكنه من أن يكون رائدا على المستوى الوطني والمغاربي، والعربي، والإسلامي، والإفريقي، ولما لا على المستوى العالمي. وما ذلك إذا حسنت النية الوطنية على المغاربة ببعيد المنال، أو صعب التحقيق.

 

بالعربيّـة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى