نقد

عن محنة الكتابة كمصدر عيش !

يروي الكاتب الإيرلندي الشهير جورج برنارد شو أن كاتبًا سأله في إحدى الحفلات من أجل ماذا تكتب وأنه أجاب بسرعة ودون تردد: من أجل المال، وهي الإجابة التي لم تعجب السائل ودفعته للاستنكار باعتبارها لا تليق بكاتب. هنا يقول شو إنه سأل الرجل لماذا يكتب هو وأن الآخر أجاب باعتداد وفخر: من أجل الشرف. عندها هزّ برنارد شو رأسه وقال: جيد يا صديقي كل واحد منا يكتب من أجل ما ينقصه!


لا تخلو تلك الدعابة الجارحة من مغزى، فكثيرًا ما عاودتني فكرة شائعة تضع الكتابة عمومًا خارج “التسليع” وتجعلها “عملًا” لا يجوز تصنيفه كمهنة أو حرفة، وهي تبعًا لذلك لا تدخل دائرة الأعمال ذات المردود الربحي، أي أنها باختصار لا يصح أن تكون مهنة يعتمد عليها صاحبها من أجل العيش وتدبير أموره الحياتية اليومية.

الأشخاص ذاتهم الذين يرفضون أن تكون الكتابة وسيلة للعيش هم أنفسهم يعترفون أن لا شيء في الحياة بلا ثمن ولا أحد سيقدم لك أي سلعة مجانًا، لكنهم بإصرارهم على ذلك التعريف “التطهري” للكتابة يديرون ظهورهم لاحتياجات الكاتب أي أنهم بمعنى آخر يحاكمون حياة الكاتب بمقاييس وأدوات وقوانين لا تنتمي للواقع قدر انتمائها للمثاليات الجوفاء.

هي حالة تدعونا لملاحظة التناقض بين مطالبتهم للكاتب أن “يعيش الواقع” كي يتمكن من التعبير عنه بصدق، وبين أن “يترفع” عن المال الذي يرمز في نظرهم للشهوات والطمع حين يتعلق بالكاتب وقد لا يكون كذلك حين يتعلق بهم كموظفين أو أطباء ومهندسين أو حتى تجارًا إذ سيقولون لك إنهم يشتغلون ليعيشوا وكأن العيش ليس من مطالب الكاتب أو احتياجاته.


أحد الزملاء من الذين اختلفوا معي كتب مرّة عن الذين أدركتهم “حرفة الأدب” و”تكسبوا” على حد تعبيره من مقالات ينشرونها في الصحف، أراد أن يعطي مثالًا لذلك “العار” الذي يمارسه من يفعلون ذلك فضرب مثلًا بي بالقول “حتى أن كاتبًا مثل راسم المدهون ليس له مصدر رزق إلا الكتابة”، وكان يعتقد أنه بذلك الاكتشاف قد أسقطني بالضربة القاضية وربما كان عليّ برأيه أن أخجل من فعلتي تلك أو أتوب عنها.

هي ثقافة “صحراوية” تعيش في الفراغ الذي أتت منه وتذهب للفراغ لابتعادها عن إدراك حقيقة أن الكتابة – ومنها الكتابة الأدبية – فعل ينتمي لتشغيل العقل وتوظيفه في خدمة المجموع العام، لكنه – ورغم صورته الطهرانية في مخيلاتهم – هو أيضًا فعل بشري يعيش أصحابه الواقع ويعانون ما يعانيه الآخرون بل هم تبعًا لمقاييس المجتمع ذاته أكثر البشر إحساسًا بمشكلات الواقع وآلامه وما فيه من قسوة ومصاعب والكتاب على الأقل لا يطالبون الآخرين بأن يتوقفوا عن استلام رواتبهم وأجورهم والاكتفاء بقيمهم المثالية في هواء الحياة الطلق.


استطرادًا في الفكرة ذاتها سألت أحدهم مرّة: ما الذي يميز الصحف الكبرى عن غيرها من الصحف؟

في محاولة الإجابة عن السؤال السابق ذهبنا لأسباب كثيرة، على أن أهم ما اتفقنا عليه انحصر في المال ودوره الأساسي في وجود الصحافة وتطورها وارتقائها وجعلها قادرة على مواكبة العصر ومواكبة تطورات المهنة الصحافية ذاتها: الصحيفة الفقيرة أو قليلة الإمكانيات المالية لا تستطيع استقطاب كتاب أكفاء وقادرين على رفع سويتها الفنية والمهنية، وهي كذلك ستعجز بالتأكيد عن تحقيق انتشار واسع وستظل محدودة تعيش وتتحرك في دائرة ضيقة ما يعني هامشية دورها بالضرورة.

رأيت أن قصيدة ممدوح عدوان “فيها من السياسة أكثر مما فيها من الشعر” فانهالت مطالبات البعض بفصلي من المجلة! 

مع ذلك فالكتابة كمهنة تظل محنة قاسية، شائكة الدروب وتحمل مخاطرها وصعوباتها: أنت في مواجهة المحرر الثقافي المسؤول الذي يقرر مصير ما تكتبه وهو قادر دائمًا على “التلاعب” بما تكتب فأنت حين تكتب عن موضوع ما سيحتفظ بمقالتك في أدراجه إلى أن تأتيه مقالة عن الموضوع ذاته من كاتب آخر ويسارع لنشرها ولن ينشر مقالتك بعدها بعذر منطقي ومقبول وهو أنها أصبحت قديمة وتجاوزتها الأحداث، بل إن بعضهم تنبهه مقالتك لضرورة الكتابة بنفسه وهو بالتأكيد الأحق من النشر منك.

من عادة الصحف اليومية الكبرى أن لا تنشر سوى مقالة واحدة عن أي كتاب جديد، ومع ذلك فإن “ضرورات” المحرر الثقافي تبيح له أن ينشر عن كتاب ما عشرين مقالة دون أن يتعارض ذلك مع “ثوابت” النشر التي حدثك عنها والتي يحق له وحده خرقها متى شاء.


في ذاكرتي رئيس تحرير مجلة أسبوعية عملت فيها لسنوات، كان يذكرني كلما اختلفنا أنه هو رئيس التحرير حتى طفح بي الكيل مرة فقلت له ساخرًا: أعرف.. أنت رئيس التحرير ولكنك رئيس تحرير المجلة ولست رئيس تحرير فلسطين!!

في العمل الصحافي تتذكر كل يوم أنك في السوق وتحيط بك عوامل إحباط راسخة تشبه التقاليد بل حتى الثوابت، فمن المضحك مثلًا بل من الجنون أن تنافس كاتبة عند المحرر الثقافي العربي، فهي المتفوقة عليك في كثير من الأحيان، وهذا “التقليد” الذي يصعب تعميمه بالطبع حاضر وموجود وهو جزء من سلطة العلاقات الشخصية التي تملك وتحكم ولها قرارات الحسم والكلمة الأخيرة وهي مسألة على خطورتها تدفعك إما للتراجع والتسليم بالهزيمة أو للإجادة أكثر والتفوق بصورة واضحة.


مع ذلك لا تنتهي كوارث الشللية عند هذا الحد، ففي المجلات “الملتزمة” والتي تنطق باسم تنظيم ما واجهتني الكوارث الأصعب: في اجتماع المجلة تمّ تكليفي بمقالة عن قصائد عدد من أعداد مجلة “الكرمل” بعد اجتياح بيروت 1982 فيما تم تكليف زميلة بالكتابة عن قصص العدد نفسه، وأتذكر أن “الكرمل” يومها نشرت ثلاث عشرة قصيدة منها قصيدة طويلة للشاعر الراحل ممدوح عدوان وهو صديقي، فرأيت أن القصيدة “فيها من السياسة أكثر مما فيها من الشعر” هكذا حرفيًا لأتفاجأ بعد صدور المجلة أن الدنيا قامت ولم تقعد، فانهالت مطالبات البعض بفصلي من المجلة وذهب آخرون أبعد من ذلك فطالبوا بفصلي من التنظيم.

الأكثر مدعاة للسخرية أن الزميلة التي كتبت عن القصص كانت أكثرهم حماسًا للتخلص مني بحجة أنني غير موضوعي ما دعاني يومها لعقد مقارنة بين ما كتبته أنا عن قصيدة ممدوح عدوان وبين ما كتبته هي عن القصص ومنها قصة لها هي شخصيًا، فصاحبة الدعوة للموضوعية لم تتورع أن تقول أن قصص “فلانة” وذكرت اسمها هي تمتاز بكذا وكذا وكذا، ومع ذلك لم يجد أحد من أولئك المتحمسين ضدي أي خروج عن الموضوعية في ما كتبته الزميلة وعمدوا جميعًا لاستكتاب رد طويل من ممدوح عدوان على ما كتبته أنا وما اعتبروه تطاولًا ونشروا الرد في المجلة وحين كتبت ردي على رد ممدوح رفضوا بعد جدل طويل وحاد نشره إلا بشرط أن يضعوا تنويها تحت العنوان مباشرة يقول إن هذا المقال هو “وجهة نظر” فيما مقال ممدوح لا يحمل هذا التنويه علمًا بأنني يومها عضو هيئة تحرير المجلة وممدوح كاتب زائر ما دعاني يومها لأن أقول لهم جميعًا: أنتم لستم سوى عصابة.

عسير أن تجد نفسك في مواجهة العالم والحياة بأدوات الثقافة والكتابة ومع ذلك بل وبالرغم منه فالكتابة حياة وهي بالضرورة تنتصر وتتوهج شرط انتمائك العميق لها واقتناعك الكامل بجبروت الكلمة وقدرتها على فرز القمح عن الزؤان، وفرز الزؤان عن القمح في “لعبة” قاسية بل شديدة القسوة تفترض الإصرار والمتابعة والنهوض بعد كل كبوة وقبل أي إحباط.

وأتذكر اليوم كم هيمنت في مراحل سابقة مفاهيم ومقاييس نقدية بالغة البؤس كان أصحابها يمجدون “القصيدة الوطنية” التي كان أغلب شعرائها يخاطبون أكف المصفقين وينتصرون للمنابر ضد قصيدة الروح الإنسانية التي كانوا يطلقون عليها “قصيدة ذاتية” وفي ظنهم أن ذلك الوصف يركلها خارج الشعر، فيما نشهد اليوم ويشهدون كيف ذابت كل تلك القصائد الثورية والغاضبة وذهبت وذهب معها أصحابها للنسيان بعد أن ذابوا كحفنة ملح في نهر الحياة الصاخب العظيم، وسأظل أذكر كيف سألت أحد الشعراء المفتونين بفكرة “الشعر الثوري” سؤالًا لا يحب أن يفكر فيه، فقد سألته يومًا: أين ذهب شعراء الاتحاد السوفييتي الذين كنا نراهم لسنوات وعقود يمثلون كتاب بلادهم في مناسباتنا الثقافية؟ بل أستطيع اليوم أن أقول بثقة إن كل رؤساء تحرير المجلات الفلسطينية الذين جاؤوا إلى الكتابة والصحافة عمومًا بقرارات تنظيمية ذهبوا إلى كهوف النسيان عندما “غدرت” بهم تلك القرارات واستبدلتهم بغيرهم. 


ضفة ثالثة

راسم المدهون

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى