مجلة “الثقافة الجديدة”.. سيرة الجرح
لتاريخ الثقافة المغربية المعاصرة علاقة وطيدة بمجلات مخصوصة صنعت مجدها الثقافي والمعرفي في وجدان القارئ العربي، بموضوعات وقراءات وترجمات واستطلاعات وحوارات وتحقيقات جريئة وضعت الثقافة المغربية إبان السبعينيات على حافة الجرح للفحص والنقد، وتخليصها من كل الشوائب التي ظلت عالقة بجسدها منذ الخمسينيات مع أنصار الفكر السلفي/ التقليدي.
إذ يبدو تاريخ الثقافة المغربية وكأنه صراع دموي بين الحداثة والتقليد والأصالة والمعاصرة بين قصيدة النثر وقصيدة نظام الشطرين، بين اللوحة المسندية، والفضاء المفتوح، وغيرها من الثنائيات المفاهيمية، التي ظلت تتبدى بشكل خفي داخل الخطاب الثقافي اليومي داخل الجرائد اليسارية منها واليمينية، وأيضاً داخل عدد من المجلات الحداثية التقدمية،
التي كانت بمثابة معركة حامية الوطيس للنقاش، وتداول الأفكار، ومختبراً حقيقياً لتوطيد جملة من الأفكار، بوصفها يقينيات تم تداولها بعد الاستقلال، واستمرت لسنوات طويلة تتكرر كلازمة رتيبة داخل الخطاب السياسي والثقافي.
لكن مع قدوم هذه المجلات ذات التوجه اليساري الصرف، عملت على دحض هذه الأفكار وتقليديتها تجاه السياسة والثقافة والاجتماع، من خلال نقد أسسها ومنطلقاتها، ومدى تبلورها داخل النسيج الاجتماعي المغربي، وبالتالي شكلت مختبراً حقيقياً لعدد من الأفكار التي أصبحت مع مرور الوقت مشاريع ثقافية متميزة، بسبب ما كانت تنضح به من أسئلة قلقة حول التاريخ والثقافة والاجتماع والهوية والحداثة،
مع إمكانية تبلور هذه المفاهيم داخل شبكات البحث العلمي في تخصصات علمية، وأجناس أدبية وفنية عديدة، ما جعل الثقافة المغربية تبدو في راهنيتها وكأنها تعيش على ماضي هذه الأسماء، التي صنعت مجدها بأدوات وسائطية ووسائل تكنولوجية متواضعة، لكنهم استطاعوا من خلالها تمرير رسائلهم السياسية والثقافية، سواء داخل المجلات، أو الجرائد اليومية المتواضعة الطبع والصناعة،
أو داخل دور الشباب، التي كانت تحتضنها آنذاك جمعيات ثقافية لعبت دوراً كبيراً في تكريس هذه الثقافة العضوية، وتقاسمها من لدن شريحة أكبر من المجتمع المغربي، بالرغم من التضييق الذي شهدته هذه المرحلة من لدن السلطة السياسية، التي عملت على تأجيج السلطة الدينية لمواجهة المد اليساري الطافح بقوة داخل المشهد السياسي المحتضن للثقافة وهمومها.
“لا يمكن النظر إلى الثقافة المغربية إبان الستينيات والسبعينيات في منأى عن السياسة وما مارسته من تأثير كبير على الثقافة والمثقف اليومية”
لذلك لا يمكن النظر إلى الثقافة المغربية إبان الستينيات والسبعينيات في منأى عن السياسة وما مارسته من تأثير كبير على الثقافة والمثقف. هكذا نجد أنفسنا أمام وقائع بدل واقع، وثقافات عوض ثقافة، ومثقفين بدل مثقف واحد ملتحم بالمؤسسة الثقافية والاجتماعية.
وما سيعزز هذا الانشطار هو المؤسسة المخزنية، من خلال تيارين اثنين داخل الثقافة المغربية، الأول في يد اليمين موروث عن الاستقلال والحركة الوطنية ذو ثقافة تقليدية انتشرت خلال الخمسينيات، واجتاحت منابر النشر، وكانت تحظى بدعم كبير من المؤسسة المخزنية، لأنها كانت تخدم مصالحها، وتطيع أوامرها السياسية والاجتماعية، وتستفيد بموجبها من ريع ما داخل المؤسسة، مقابل تيار منبوذ تزعمه يسار “حداثي” متشبث بالطبقات الاجتماعية وبمصالحها كالحق في الخبز والماء والكهرباء، وغيرها من الأمور الحياتية البسيطة.
وهذا الأخير تجمهر حوله المثقفون المغاربة بانتماءات مختلفة، وحساسيات متباينة، لها علاقة وطيدة بالمستوى الثقافي والمذهبي والأيديولوجي، إذ تجد داخل فصيل يساري واحد نسيجاً فسيفسائياً من المثقفين، بين من يؤمن بضرورة الدولة وإمكانية إجراء حوار ثقافي وسياسي معها في تفعيل بعض الأفكار النظرية داخل مؤسساتها، وبين من يؤمن بالقطع مع الدولة ومؤسساتها الثقافية،
ما سيساهم في خلق لغة جريحة وعارية من الاستعارات البلاغية، لغة فاحصة ومباشرة للواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي المغربي، عبر جملة من الأسئلة القلقة حول الذات والكرامة وحرية التعبير وحقوق المستضعفين، ما سيتسبب في مجموعة اعتقالات مزمنة أثرت بشكل كبير على المسار الديمقراطي داخل المغرب، وما رافقها من اختطافات وتعذيب وألم لدى العائلات وغيرها.
ولا مجال هنا إلى القيام باستعراض إحصائي لبعض ملامح وحيثيات اليسار المغربي ومثقفيه، ممن أثروا الساحة المغربية بكتابات ما تزال إلى حدود اليوم تشكل شهادات حقيقية، شهادات لم تستطع إلا المجلات أن تحتضن حرارتها ومقاربتها الصارمة تجاه الواقع بأدوات ثقافية متعددة، كانت تبرهن عن النمو والنضج الذي اتسمت به الثقافة المغربية في ذلك الإبان، وهي تعانق
“ساهمت جملة من الأسماء العربية الكبيرة في تأثيث مشهد المجلة، من عبدالله العروي، إلى أدونيس، وعبدالكبير الخطيبي، وغالب هلسا، وسركون بولص، ومحمد أركون، وبرهان غليون، وكمال أبو ديب، وصلاح فائق، وسعدي يوسف”
أكبر النظريات السياسية والفكرية، من بنيوية، ولسانيات، وتحليل نفسي، والتي سيتم تكريسها لأول مرة كمجالات للبحث والتدوال داخل المحيط الجامعي، كما هو الشأن في الأعمال النظرية للشاعر محمد بنيس، ومنهجه الجديد الذي عمل من خلاله على مقاربة “القصيدة” المغربية بوصفها مجرد صدى، على الرغم من أن كتاب “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” (1979) لقي تجاوباً جماهيرياً في المشرق بسبب المنهج الذي تم اعتماده،
ما أتاح له مقاربة فريدة ومختلفة عن البحوث التي أنجزت في هذا الصدد، إلا أن الكتاب حرك العديد من الحساسيات داخل المغرب بسبب نقده الجذري لليقينيات والأزعومات، التي تأسس عليها الخطاب الشعري، خاصة أن المؤسسة الحزبية ساهمت في ابتذال الشعر المغربي أكثر مما منحته أفقاً رحباً للتعبير عن مكنوناته.
الشاعر المغربي محمد بنيس، كأحد أهم الشعراء المغاربة في جيل السبعينيات، ممن تبنوا فكرة اليسار مذ كان طالباً في فاس، لكنه مع ذلك لم يجعل منه مذهباً يؤثر على مشاغله الكتابية الأكاديمية، ولا حتى يمس مشروعه الشعري، فيصبح بذلك بوقاً للمؤسسة السياسية والحزبية، يصنع لها خطاباتها التبشيرية ويسوغ لها أخطاءها وفضائحها المقيتة،
لكنه تشرب اليسار، كفكرة وممارسة يومية وعملية على صعيد الكتابة ليقف سامقاً في وجه الاستبداد السياسي والإقطاع الثقافي مؤسساً لمشروعين: الأول شعري، والثاني نقدي مفككاً به الثقافة العربية في مقالات شهيرة له داخل عدد من الجرائد والمجلات والندوات العربية التي شارك فيها بنيس، متوجاً مساره الشعري والنقدي بجملة من الدواوين والدراسات النقدية الوازنة،
نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: “ما قبل الكلام”، و”شيء عن الاضطهاد والفرح”، و”وجه متوهج عبر امتداد الزمن”، و”في اتجاه صوتك العمودي”، و”مواسم الشرق”، و”ورقة البهاء”، و”هبة الفراغ”، و”المكان الوثني”، و”أندلس الشعراء”، و”ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب”، و”حداثة السؤال”، و”كتابة المحو”، و”الحداثة المعطوبة”، و”الحق في الشعر”، ” إضافة إلى عدد من الترجمات لعبدالكبير الخطيبي (الاسم العربي الجريح)، وجاك آنصي (الغرفة الفارغة)، وبرنار نويل (هسيس الهواء)، وعبدالوهاب المؤدب (أوهام الإسلام السياسي)، وستيفان ملارميه (رمية نرد أبداً لن تبطل الزهر)، وغيرهم.
لكن في سنة 1974، بصدور العدد الأول من مجلة “الثقافة الجديدة”، شكل ذلك حدثاً مهماً في سيرة محمد بنيس، وللوسط الثقافي المغربي ككل. ساهمت جملة من الأسماء العربية الكبيرة في تأثيث مشهد المجلة، فجاء أول مقال في العدد على يد المفكر المغربي، عبدالله العروي،
“استمرت “الثقافة الجديدة” لمدة 10 سنوات وهي تؤثث المشهد الثقافي المغربي، حتى جاء قرار المنع من وزير الداخلية السابق، إدريس البصري، يوم 25 يناير 1984″وتلاه في أعداد أخرى مهمة أسماء من قبيل: أدونيس، وعبدالكبير الخطيبي، وغالب هلسا، وسركون بولص، ومحمد أركون، وبرهان غليون، وكمال أبو ديب، وصلاح فائق، وسعدي يوسف..
محققة بذلك تمايزاً هائلاً على صعيد النشر، بالرغم من الإمكانيات الذاتية البسيطة التي بدأت بها المجلة، لكنها استطاعت أن تنفذ إلى قلوب المثقفين المغاربة بسبب ما كانت تطرحه من مواضيع جديدة مسكوت عنها ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل الثقافة المغربية، فتم إنجاز ملفات لأول مرة في الفنون التشكيلية، والنقد الأدبي، والسينما العربية والأفريقية، والفكر الفلسفي في العالم العربي، والغزو الإسرائيلي لبيروت، والقصة القصيرة في أميركا اللاتينية،
وغيرها من الموضوعات التي لم تكن مستساغة داخل الساحة الثقافية المغربية آنذاك بسبب تقليديتها وأحكامها الجاهزة تجاه الشعر والرواية والقصة والسينما والحداثة والواقع.. والقارئ للمجلة سيلمس عن كثب قيمتها في حرصها على نقد الثقافة الوطنية، كما لعبت دوراً كبيراً في تقريب أواصر الصداقة بين المغرب والمشرق، وتفكيك العزلة عن المثقف المغربي، لوصول إنتاجه صوب المشرق بغية خلق حوار ثقافي عربي يتأسس على قيم الحرية والاختلاف، وتضارب الآراء، لخلق سجال معرفي حول الذات العربية ومآزقها الراهنة. استمرت “الثقافة الجديدة” لمدة 10 سنوات وهي تؤثث المشهد الثقافي المغربي،
حتى جاء قرار المنع من وزير الداخلية السابق، إدريس البصري، يوم 25 كانون الثاني/ يناير 1984، ما شكل انتكاسة حقيقية في تاريخ المجلة، وعما مديرها وباقي فريقها (محمد البكري، عبدالله راجع، مصطفى المسناوي..). هكذا تدخل الشاعر الفلسطيني محمود درويش لينقذ المجلة من ديونها كاملة، ويتم احتضان مواد العدد آنذاك المخصص لـ”المسألة الثقافية في المغرب” بعد مكالمة هاتفية من الأخير.
يقول محمد بنيس معلقاً على ذلك “في المساء ذاته، وعلى إثر انتهاء المكالمة مع محمود، أخبرت عبدالله راجع، ومحمد البكري، ومصطفى المسناوي، ومحمد العشيري، بأني قادم في الصباح الباكر قبل الثامنة. في بيت عبدالله اجتمعنا. عبدالله، والبكري، والعشيري، وأنا.
تكلمنا بشأن الاستضافة ففرحوا معي بالنبأ. واعتبرنا موقف درويش انتصاراً على من يريدون إبادة “الثقافة الجديدة”، وهذا العدد بالذات. اتفقنا بسرعة على الاتصال بمصطفى المسناوي، وأخذ رأي المشاركين في العدد احتراماً لإرادتهم وثقتهم فينا، كما اتفقنا على خطة مشتركة للقيام بإعداد الملف في الموعد المحدد حتى لا يطرح أي مشكل تقني عند إعادة التصفيف والإخراج في نيقوسيا بقبرص، التي كانت تصدر فيها مجلة الكرمل. وزعنا العمل بيننا،
وأضفنا متطوعين لمساعدتنا في إعادة كتابة مواد، لكونها مكتوبة بخط يكاد يكون غير مقروء، وتصحيح المواد المصففة، وترتيب المجموع وفق ما كنا نعده للمواد في العدد الذي كان من المرتقب صدوره في الدار البيضاء بعد شهرين”.
صدور المجلة اليوم، بعد 35 سنة من المنع، في 8 مجلدات ضمن منشورات دار توبقال بالمغرب، هو حدث استثنائي داخل الثقافة المغربية المعاصرة أمام الجمود والتكلس الذي باتت تشهده. من شأن المجلة أن تضخ دماء جديدة في شرايينها للمراجعة النقدية، وتخليصها من أكاذيبها وأوهامها السيزيفية، وأن يعيد لها نضجها وسجالها المعرفي القوي في التنظير وابتداع المفاهيم والتعبير بطلاقة عن مكبوتات الجسد داخل التشكيل والسينما والموسيقى، وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى إعادة التفكير فيها، وممارسة نقد جذري لكل الأفكار الكاذبة التي أوصلتنا إلى هذه الحالة من التفاهة المقننة باسم الثقافة والشعر والرواية والفن والجمال.
أشرف الحساني: ناقد مغربي.