الدراسات الأدبية

تشيخوف بكلّ بساطة

 

بمناسبة مرور 160 عاماً على ولادة الكاتب الروسي العالمي الأَشهر، أنطون تشيخوف، الإنسان العظيم، يستذكر” إيفان بونين”(2)، أحد تلامذة تشيخوف وأكثرهم قرباً منه، في آخر مشوار حياته، تعود به الذاكرة إلى مقولة مأثورة ألقاها الكاتب في ليلة رائعة من ليالي يالطا(3):

“سيقرأ الناس كتبي لمدة سبع سنين فقط، بينما كلّ ما تبقّى لي لأحياه أقلّ من ستّ”، ويضيف بونين: “جانب تشيخوف الصواب هذه المرة، فقد عاش أقلّ مما توقع”. كما أخطأ تشيخوف في أمرٍ آخر، حيث يقرأه الناس مدّة 140 عاماً. في رسالةٍ إلى صديق له عام 1892م، كتب تشيخوف مازحاً: “ترجمت أعمالي إلى جميع اللغات، باستثناء الأجنبية….”. والآن، بحسب تقديراتٍ تقريبية، ترجمت أعماله إلى قرابة 100 لغة!

إلا أنّ قدر تشيخوف، الكاتب المسرحي، كان الأكثر إثارة. فاليوم، وفي كثيرٍ من الأحيان، يقسّم تاريخ الدراما إلى مرحلتين: من التراجيديا الإغريقية وحتى تشيخوف، ومن تشيخوف إلى يومنا الحالي. وفي حين يُطلق على مسرحية تشيخوف “بستان الكرز” تسمية “هاملت” القرن العشرين، فإنّ مسرحية “النورس” تدخل ضمن قائمة أشهر إنتاج الأدب العالمي. أمّا من حيث عدد المؤلفات التي حوّلت إلى الشاشة، فيأتي تشيخوف في المرتبة الثالثة، بعد ويليام شكسبير، وتشارلز ديكنز. ومن اللافت أنّ الإنكليز، عموماً، يعتبرون أنطون تشيخوف رجُلهم لدرجةٍ جعلتهم يدرجون مؤلفاته في مناهج الأدب القومي الدراسية.

منذ وقتٍ بعيد، أصبح تشيخوف أسطورة عالمية. ويعد إلى جانب تولستوي، ودوستويفسكي،
“كتب تشيخوف مازحاً: “ترجمت أعمالي إلى جميع اللغات، باستثناء الأجنبية….”. والآن، بحسب تقديراتٍ تقريبية، ترجمت أعماله إلى قرابة 100 لغة!”أحد أضلاع مثلث عصر الأدب الروسي العظيم. ومع ذلك، تبقى أهمية تجربته الحياتية وقدَره، ليس أقل إثارةً من أهميته النثرية والمسرحية.

لتدارك ما أُغفل سابقاً، راح المعاصرون والأقارب يتذكرون الكثير من التفاصيل الحياتية لتشيخوف: جلوسه في الحانوت، غناءه في جوقة الكنيسة، طيشه في المدرسة… وقد وصل الأمر، على سبيل المثال، إلى أن يتذكّر أحدهم: “كان يبدو عابساً وهو يسير في الممر بجانب قاعة صفّنا، بينما كنّا نختبئ وراء الباب مقلدين طريقة عطسه”.

على أعتاب مرحلة الشباب، حدث أمرٌ ما. فبعد فرار أبيه المفلس ومغادرة أقاربه إلى موسكو، بقي أنطون وحيداً، وعاش على الفتات في بيته الذي أصبح غريباً، فباع بالتدريج محتوياته لينهي بشقّ النفس المرحلة الثانوية. وفي العام 1880، وصل إلى موسكو شابٌّ من المقاطعات، وبدأ في تأسيس حياته وفق برنامجٍ غير مرئيّ، وغير معروفٍ لأحد.

بدا تشيخوف وكأنّه يحاول أن يثبت لأحدٍ ما (من؟) أنّه في الإمكان ألا يسبح المرء مع التيار (الأمر الذي اتبعه أخواه الموهوبان ألكسندر، ونيكولاي)، وأنّه يستطيع أنْ يثْبت ذاته رغم كلّ الظروف المعاكسة.
أكمل تشيخوف دراسته في كليّة الطب، إحدى أصعب كليات الجامعة. كان الطبيب تشيخوف، على مدار سنوات طويلة، يعالج أصدقاءه وفلاحي القرى وعابري السبيل، مدفوعاً بشعور الواجب تجاههم، وليس لمصلحةٍ ذاتية أنانيّة. في مجال الأدب، بذل الأديب جهوداً مضنية ليخلق لنفسه، في البداية، سمعةً أدبية، ومن ثمّ الشهرة. في ما بعد، أصبح جلساءه، أمثال “ليكين”، و”بيبيلين”، و”تولستوي، و”تشايكوفسكي”، وأصبح في إمكانه حتى التصديّ بحدّة وجرأة لأقاربه: “تقول… ربما بذّتي لا تناسبكم. من المؤسف كتابة مثل هذه الكلمات. أحقاً تعتقد أنني أصبحت وغداً. إطلاقاً، تريّث قليلاً، مازال الوقت مبكّراً لقول ذلك، فأنا لم أفسدْ بعد، مع أنني بدأت العيش نوعاً ما. أجل لم أفسد بعد، ولن أقوم مستقبلاً بتقسيم البشر وفق بذّاتهم”. وبالفعل، وحتى نهاية حياته، لم يفرّق تشيخوف، الإنسان، بين الناس.

في ما بعد، بقليل، سيقول في رسالة اعترافٍ أرسلها عام 1888 إلى صديقه المقرّب، وربّ
“”كتبتم أنّ الكُتّاب شعب الله المختار. لن أُجادل في ذلك… وليس لي يُحكى عن الطريق الشائك، وعن خيبات الأمل، وما إليه. أنا لا أدري إن كنتُ عانيت يوماً ما أكثر من معاناة الإسكافي، وعالم الرياضيات، وسائق الحافلة، ولا أعلم من ينطق بكلماتي، الله أم أحدٌ ما مثله”عمله، سوفورين، كلاماً رائعاً وشاملاً:

“كتبتم أنّ الكُتّاب شعب الله المختار. لن أُجادل في ذلك… وليس لي يُحكى عن الطريق الشائك، وعن خيبات الأمل، وما إليه. أنا لا أدري إن كنتُ عانيت يوماً ما أكثر من معاناة الإسكافي، وعالم الرياضيات، وسائق الحافلة، ولا أعلم من ينطق بكلماتي، الله أم أحدٌ ما مثله. أسمح لنفسي بتثبيت شيءٍ مزعج اختبرته بنفسي، الذي أرجِّح أنّه ليس غريباً عنك. وها كم الأمر: أنت وأنا نحبّ الناس العاديين.. ولكنهم يحبوننا لأنّهم يرون فينا أناساً غير عاديين. ومن هنا أقول: إذا بدونا غداً لأولئك الناس أنّنا فانون عاديّون.. فسيتوقفون عن محبتنا، وسيشعرون تجاهنا بالأسف وحده. وهذا أمرٌ بغيض!

في العام 1890، أكمل عقده الثالث. وحازت مسرحيته “السهوب” على إعجاب كلٍّ من غارشين المبهور، والمتجهّم، سالتيكوف. وبالفعل، حاز تشيخوف بفضلها على نصف جائزة بوشكين. وعلى خشبة مسرح ألكسندريسكي، عرضت مسرحية “إيفانوف”. وفي الكثير من الكثير من المسارح كانت تُعرض مسرحياته الهزلية.

في مثل هذه الحالات، كان الأدباء والفنانون الروس يتوجهون عادةً صوب أوروبا للاسترخاء. أمّا هو فغادر إلى مكان ما في الاتجاه الآخر، إلى شبه جزيرة ساخالين، حيث قام بتنظيم سجلاتٍ لجميع قاطني الجزيرة – المنفى، وعمل لسنواتٍ على إنجاز كتاب ضخم. من ثمّ عاد إلى أعماله الكتابية المعتادة، وكأنّه كان في جوار موسكو، وليس على جزيرة ساخالين النائية! وعندما غادر ليموت في (Badenweiler/ بادن فيلر)، راح وهو يحتضر، يسعى إلى مساعدة ابن شمّاسٍ غير معروف، يحلم بالانتقال من جامعةٍ إلى أُخرى.

قبل ذلك بثلاث سنوات، كتب لأخته رسالةً تضمنت وصيته التي ستتلى بعد وفاته. تحدث في الوصية بإسهاب عن كيفية التصرف بتركته: “سبق ووعدت فلاحي قرية (ميليخوفا) بـ100 روبل، لتسديد رسوم الطريق. كما وعدت (غابرييل خارتشينكو) أن أسدّد عن ابنته الكبرى كافةّ الرسوم المدرسية لغاية إعفائها من جميع الرسوم. ساعدي الفقراء. اعتني بأمّك. عيشوا بسلام”.

يبدو أنّ تشيخوف كان يولي احتياجات مواطنيه الفلاحين في (تاغان روغ، وميليخوفسكي) اهتماماً لا يقلّ عن اهتمامه بمصير أقرانه!

يحب المبدعون الاقتباس عن بوشكين ما جاء في رسالته لـ”فيازيمسكي” عام 1825: “يقرأ الجمهور بلهفةٍ الاعترافات والملاحظات.. إلخ، لأنّهم في الأساس يسرّون بإذلال من هم أعلى، ويتلذذون بضعف القويّ. هذا الجمهور يشعر بالسرور عند فضح أيّة وضاعة ما. الجمهور: نذلٌ جبان كما هو حالنا! أنتم كاذبون، أيها الأنذال: الجمهور تافه وجبان، ولكن ليس بقدركم. إنّه كذلك، ولكن بصورةٍ مغايرة”.

وبشكل عام، يبقى هامشياً السؤال: لماذا يسمح للموهوبين، ناهيك عن العباقرة، أكثر مما يُسمح به للعامّة؟ كان تشيخوف يسعى طيلة حياته جاهداً لإثبات (ومرة أُخرى لمن؟) أنّ الأخلاق واحدة، وأنّه من الضروري/ الممكن أن نحيا ضدّ إلقاء اللوم على الظروف، وضدّ إلقاء اللوم

“حدّة بعض تقييماته للطبقة المثقفة من قبيل: (“طبقة مثقفة باردة، بليدة، غير مبالية، متفلسفة بكسلٍ… التي تتذمّر وتنكر كلّ شيء بطيب خاطر…”)، يمكن تفسيرها بأنّها تتحدث عمّن هم من المقربين والأعزاء (ليست عامّة)”على الموهبة أيضاً.

اليوم، أصبحت ثقافة تشيخوف مفهوماً معجمياً. كان بنفسه أول مثقفٍ من هذا الطراز. أمّا حدّة بعض تقييماته للطبقة المثقفة من قبيل: (“طبقة مثقفة باردة، بليدة، غير مبالية، متفلسفة بكسلٍ… التي تتذمّر وتنكر كلّ شيء بطيب خاطر…”)، فيمكن تفسيرها بأنّها تتحدث عمّن هم من المقربين والأعزاء (ليست عامّة).

أظنّ أنّ زواجه، الذي أدهش كثيرين، كان أيضاً زواجاً أيديولوجياً بصورة جزئية، أراد تشيخوف عبره أن يقول: أهذا ما يجب أن تكون عليه حياة الإنسان الطبيعي، فأنا أتزوج أيضاً!
تأخر وقت الأسف! فقد اختار تشيخوف زوجةً، ليست ممّن يقبعن في المنزل، بل امرأةً ذات موهبة، ولها قدرها الخاصّ.

حبّاً بالله! ليس من الضروري أن يجعل مريدو وأتباع تشيخوف منه قديساً تحيط هامته هالةٌ، أو أيقونةً تعلق على الجدران. هو في النهاية إنسان!

حول هذا الأمر، جاء أحسن قولٍ على لسان أحد معاصري تشيخوف الأصغر سنّاً (آ.آمفيتياتروف)(4):
“من كلِّ ما يشبه الإنسان، وحدها التماثيل لا ترتكب إثماً، وتشيخوف أبعد ما يكون عن التماثيل، وكان وسيبقى الأعظم إنسانيةً! وهنا بالتحديد تكمن عظمة أهميته، ومعنى وجذور تأثيره. عرفت روسيا كثيراً من القامات، أكبر من تشيخوف بشكلٍ تلقائي، وأنجزت أعمالاً عظيمة يستولي عليك رعبٌ مقدّس عندما تلتفت إليها. ولكن، باستثناء بوشكين، لم يشعر الإنسان الروسي بأحد أقرب إليه من تشيخوف. فهو يشعر بنفسه معه، وبكلّ بساطة بعلاقة حميمية، ويرى فيه الصديق الذي يتحدث إليه وجهاً لوجه، وعلى قدم المساواة، والذي يقدّم النصيحة بشأن حياته وأفكاره بصراحة، ومن دون خوف. يقول، وكما هو حال بوشكين، كان لدى تشيخوف كمالٌ إبداعيّ داخلي كبير، وكانت لديهما حياة روسية صافية حتى النخاع بأدقّ التفاصيل وأعمق الملامح”.

ومرةً أُخرى، أتذكر قول بونين: “لو لم يكتب تشيخوف سوى “موت حصان مفاجئ”، أو “رواية بمرافقة الكونترباص”، فإنّنا نستطيع القول إنّ عقلاً مذهلاً أومض واختفى في سماء الأدب الروسي، لأنّ ابتكار رواية سخافةٍ جيدة، واختراع نكاتٍ مضحكة، لا يمكن أن تأتيني إلا من أناسٍ غاية في الذكاء، ولا يقدر عليها سوى أولئك الذين يتمتعون بعقولٍ “تتدفق وتفيض في جميع الأوردة”.

ولو لم يكتب تشيخوف شيئاً على الإطلاق، لكان في الإمكان تأكيد أنّ إنساناً رائعاً لمع واختفى في الواقع الروسي. إنسانٌ أثبت، حتى آخر لحظة، النظرية الأخلاقية التي تقول بتفوق حياة الإنسان الطبيعية على جميع المبالغات، وعلى كلّ أنواع الجنون. تشيخوف الإنسان الذي لم يعلِّم، ولكنّه أصبح بالنسبة للكثيرين نبراساً ودعامةً أخلاقية.

ولكن، من كان سيعرف عنه لولا “سيدة مع الكلب”، و”بستان الكرز”؟
وا أسفاه، من جديد، محقّ الشاعر الذي قال: “يؤمن الناس بالمجد وحده”.
وها نحن نحتفل بذكراه المئة والستين، التي لن تكون الأخيرة بالتأكيد.


  • هوامش:

(1) دكتوراة في العلوم الفلسفية؛ بروفيسور.
(2) إيفان بونين: كاتب وشاعر روسي ومترجم (1870- 1953). حائز على جائزة نوبل للأدب عام 1933. هاجر عام 1920 إلى فرنسا، وفيها توفي.. من مؤلفاته: رواية “حياة آرسينيفا”، “سيّد من فرانسيسكو”، “تنفّس هادئ”، “تفاح أنطونوف”…… والعديد من اليوميات.
(3) يالطا: مدينة ومنتجع على البحر الأسود.
(4) آ. آمفيتياتروف (1862- 1938): كاتب روسي درامي واقعي وساخر.


عنوان المقالة الأصلي: Просто Чехов / تشيخوف بكل بساطة.
مكان النشر: ليتراتورنايا غازيتا/ الصحيفة الأدبية.
https://lgz.ru/article/-2-6721-22-01-2020/prosto-chekhov/

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.


المصدر

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى