الدراسات الأدبيةنقد

ذكرى ميلاد غسان كنفاني.. وعي الواقع بأدوات متعددة

في الثامن من تموز/ يوليو قبل خمسين عامًا إلا قليلا تطاير جسد الكاتب الفلسطيني المشهور، والموهوب والشاب تمامًا، غسان كنفاني، بانفجار سيارته “الأوستن” الصغيرة التي كان يستقلها برفقة ابنة أخته “لميس” أمام منزله في منطقة “الحازمية” في بيروت. ذلك “الحادث” المروع أنهى حياة “الفتى” النبيه ومتعدد المواهب الذي كانه صاحب “رجال في الشمس” و”ما تبقى لكم” و”عائد إلى حيفا” و”أم سعد”، وأحد الأعمدة الثلاثة في الرواية الفلسطينية، ولا أنسى أن أول رواياته وأهمها في تقديري “رجال في الشمس” نشرت وهو في سن الثانية والعشرين من عمره وحظيت بشهرة واسعة وأثارت الكثير من النقاشات خصوصًا بعد أن تحولت إلى مسلسل إذاعي أذيع في ستينيات القرن الماضي.


هو ابن مرحلة أدبية نشأت في غياب المجتمع الفلسطيني الموحد الذي تمزقت وحدته بفعل النكبة وافتقد دوره كحاضنة اجتماعية طبيعية تتفاعل معها الآداب والفنون بما جعل البدايات تواجه شتاتًا أدبيًا بالغ القسوة يضعها في حالة بحث دائم عن نفسها وأيضًا عن وسائل انتشارها ووصولها للقراء من الجمهور الفلسطيني المتعدد الإقامات والمنافي.

هي حالة غير مسبوقة خلقت انقطاعًا بين ما نشر قبل النكبة وما بعدها وبالتالي انقطاع أبناء المرحلة الواحدة عن زملائهم في الوطن كما في المنافي الأخرى، ولعل هذه المسألة بالذات كانت دافعًا رئيسًا لبحث كنفاني عن شعراء فلسطين من الذين ظلوا في الجليل والمثلث والنقب ونجح في تقديمهم بعد ذلك لمن يعيشون خارج فلسطين وللقراء العرب عمومًا.

غسان كنفاني هو إلى جانب جهده الروائي المرموق وأحد أبرز كتاب القصة القصيرة الفلسطينيين والعرب، برع أيضًا في عمله الصحافي متنقلًا بين أكثر من صحيفة ومجلة كان أشهرها “مجلة الصياد” اللبنانية و”جريدة المحرر” وكذلك مجلة “الحرية” التي كان رئيس تحريرها حين كانت تنطق بلسان “حركة القوميين العرب”، ثم بعد ذلك صاحب ومؤسس مجلة “الهدف” الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان أحد قادتها وأحد أبرز أسمائها إلى جانب أمينها العام الراحل جورج حبش. هو بهذه الصفات كلها إبن “الحالة الفلسطينية” الوطنية والسياسية وأزيد فأقول الحالة الإجتماعية أيضًا إذ لم تنفصل حياته يومًا عن جموع الفلسطينيين في مخيماتهم وأماكن تجمعهم.

ولد غسان كنفاني في 9 نيسان/أبريل 1936 في عكا لأب عمل محاميًا في يافا وهاجر منها إلى العاصمة السورية دمشق حيث درس وعمل معلمًا للرسم في “معهد فلسطين” في “حي الأمين” قبل أن يسافر للعمل في الكويت ثم يعود منها للعمل في الصحافة في بيروت. سيذكر أصدقاء الكاتب الشهيد أنه كان الأبرز بينهم ويؤكد صديقه فضل النقيب أنهم كانوا يلتقون يوميًا في “مقهى الفاروق” وسط العاصمة السورية ليقرأ كل منهم بعض ما كتب وأن غسان كان في أغلب الحالات يكتب ويمزق ما كتبه ويعيد كتابته رغم ما فيها من جماليات عالية بسبب من طموحه الدائم في تجاوز ذاته وتحقيق أدب يليق بقضيته الكبرى التي عاش لها لا أن يكون عالة عليها كما كان يردد.

هذا الدأب كان إحدى صفاته الهامة والتي عمل بها في المجالات كلها من الأدب للصحافة والسياسة والعمل الكفاحي ما جعله يحظى بشعبية واسعة في الأوساط كلها وجعل كارثة انفجار جسده بتلك الكيفية تتجاوز الموت الشخصي إلى ما خلقته من رمزيات ارتفعت لمقام عال يراه الفلسطينيون مكانا يليق بمن عبَر عن آمالهم مثلما صوَر جراحهم وآلامهم. راهن كنفاني على قوة الكلمة وتأثيرها في قارئ كتاباته من خلال تعبيرية تمتلك بعدها الإنساني العميق البالغ الشفافية والمفعم بحضور التفاصيل غير الرئيسية والجزئيات الصغيرة في كتاباته القصصية والروائية.

وأتذكر هنا أنني سألت المخرج الراحل الصديق توفيق صالح بعد إنجاز فيلمه “المخدوعون” عن رواية غسان الأهم “رجال في الشمس” عن حوارات الممثلين في الفيلم فأكد لي ملاحظتي عن “التزامه” بالحوار الذي ورد في الرواية التزامًا حرفيًا لأنه ببساطة وجد حوارات معبرة بل بالغة التكثيف وتحمل مضامين ما تعيشه الرواية وما يرغب أبطالها في قوله والتعبير عنه. شيء قريب من هذا يمكن أن نقوله كذلك عن المستويين الواقعي والرمزي في عمله الروائي والقصصي، فغسان قدّم – غالبًا – شخصيات تحمل البعدين الواقعي والرمزي، ولكنه كان ينجح في جعلهما متماثلين متعايشين، وفي الوقت ذاته مباحين للقارئ الذي يسهل عليه فهمهما على المحملين والبعدين.

وسنجد أن هذا المعنى بالذات لم يغب عن قراء “رجال في الشمس”، مثلًا إزاء شخصية سائق الصهريج “أبو الخيزران” الذي لم يكن سائقًا وحسب، ولكن أيضًا رمزًا لقيادة عام 1948 والذي أصيب بالعجز الجنسي في معارك ما قبل النكبة. أما حين ينهض أبطال “رجال في الشمس” من استراحتهم قرب “شط العرب” ويقول أحدهم إنه يريد حصته من الهواء فسنجد رفيقه يقول له بسرعة: حصتك من الهواء ظلت هناك.

ذلك “الحادث” المروع أنهى حياة “الفتى” النبيه ومتعدد المواهب الذي كانه صاحب “رجال في الشمس” 

في قصة قصيرة آسرة ومفعمة بالشجن يعثر الطفل الفلسطيني الذي غادر بيت أسرته للعمل لمساعدتها على خمس ليرات كانت بالنسبة له كنزًا ثمينًا في تلك الأيام لكن المشكلة أنها كانت تحت قدم شرطي غير متنبه لها وأن عليه أن يبحث عن طريقة لالتقاطها أو الانتظار في لعبة جمعت أملًا جارحًا إلى شفافية كثيفة في تلك القصة التي حملت عنوانًا يشير إلى مضمونها “خمس ليرات” وأتذكر أنني سألته عنها في أول لقاء جمعني به للمرة الأولى.

في روايته “أم سعد” يفرد غسان فصلًا بالغ الأهمية تحت عنوان “خيمة عن خيمة تفرق” في إشارة إلى حالتي خيمة اللجوء الفلسطيني، والخيمة الأخرى، الجديدة والتي تناقض اللجوء، خيمة معسكرات تدريب المقاتلين في الثورة الفلسطينية. غسان كنفاني الذي “غضب” من أبطال “رجال في الشمس” وجعل “أبو الخيزران” يصرخ في جثثهم بعبارته الهستيرية الشهيرة “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟” هو ذاته الذي جاء بعنوان فصله ذاك في “أم سعد” وكأنه يقول لنا إن أبطال روايته من الفلسطينيين الجدد دقوا الخزان، وانطلقوا في رحلتهم نحو وطنهم المسيَج بالأعداء، وسنرى صورًا من ذلك في مجموعته القصصية “عن الرجال والبنادق” التي كتبها أيضًا في زمن إبداعه “أم سعد”.

في حياة الراحل الشهيد غسان كنفاني ثراء رجل عاش مائة سنة وليس ذلك العمر الخاطف الذي لم يتجاوز سوى ست وثلاثين سنة ابتدأت عام الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 في أسرة ميسورة جعلته يدرس في “الفرير” الفرنسية ويبذل بعد ذلك جهدًا كبيرًا لامتلاك العربية الصافية والعميقة التي تمكنه من أن يكتب بها وأن يكون كاتبًا متميزًا هو الذي يذكر كل من عرفوه انتباهاته العميقة لما يدور حوله، ورغبته في التعبير عن ذلك الواقع بأدوات متعددة لم تقتصر على الكتابة الروائية والقصصية إذ مارس الرسم والعمل الصحافي اليومي وسأعرف ويعرف جيلي كله بعد ذلك أنه أول من أعطى فرصة لنشر كاريكاتير صحافي للراحل الشهيد أيضًا البارز والموهوب ناجي العلي.

حضوره في الصحافة تجاوز الكتابة باسمه الصريح إلى كتابات أخرى بأسماء متعددة لعل أشهرها فارس فارس في “مجلة الصياد” اللبنانية، وهو تنوع فرضته حاجته للكتابة في موضوعات متنوعة ولا تقتصر على مجال واحد خصوصًا وقد عرفه القراء كاتبًا يخوض السجالات العميقة والتي جسدت وعيًا متناميًا بموضوعاته التي تناولها.

سأغمض عيني قليلًا عن تجاربه الأدبية العملاقة ومنجزه الروائي النادر لأتأمل بعضًا من وجوه عيشه في الحياة ذاتها. في آخر حوار له مع صحافي من إحدى الدول الإسكندنافيه فاجأه الصحافي بسؤال هام: ألا توافقني أن أبطال رواياتك كانوا متقدمين سياسيًا عنك؟

كان السائل يعتقد أن سؤاله سيغضب غسان ولكنه فوجئ أن الراحل الكبير أجابه: نعم إنهم متقدمون وسأشرح لك: أنا في حياتي الواقعية رجل منتم سياسيًا وهذا يجعل مهمتي أن أدافع عن الحزب حتى بأخطائه ولكنني في العمل الروائي لست مضطرًا لذلك.. أنا أضع أبطال أعمالي الروائية والقصصية في الفضاء الذي يناسبهم ويعبّر عنهم ويعبّرون عنه.

غسان كنفاني كاتب رواية الشتات الفلسطيني بامتياز هو أيضًا صاحب رواية “عائد إلى حيفا” وهي في تقديري أجمل تعبير عن تراجيدية المولد والانتماء من وجهة نظره ومن وجهة نظر الواقع الواعي ووعي الواقع معًا، ولعله اختار أن يكتب هذه الرواية بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 أي بعد أن نجح الاحتلال في توحيد فلسطين باحتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة لتكتمل حلقات النكبة فصولًا.

حين نشرت الكاتبة السورية غادة السمان رسائل غسان لها في كتاب شهير أثار الكتاب موجة صاخبة من احتجاجات كثر من محبيه ومؤيديه لأنهم يرون فيه القائد الشهيد والشخصية الرمزية التي لا يجوز أن تشوبها شائبة رغم أن قضايا الحب وما يرتبط بها ليست سوى أمور شخصية لا تأثير لها على جوهر شخصية إنسانية واقعية.

أتذكر أنني في تلك الأيام كتبت مقالة عن الموضوع ذاته قلت فيها إن من غضبوا من الرسائل واجتهد بعضهم للتشكيك فيها صنعوا للكاتب الشهيد تمثالًا من الأيديولوجيا الخالصة ولم ينتبهوا أنهم بذلك وضعوه خارج الحياة الإنسانية بحرصهم على جعل صورته “مغسولة” من أية أفعال يظنونها “آثامًا” يمكن أن تلحق به أو أن تلطخ صورته.

هنا بالذات سنرى أن ذلك الصخب حول الرسائل انتهى بعودة غالبية من غضبوا إلى وعي الحقيقة الواقعية وإدراك أن الذي انفجر جسده في الثامن من تموز/ يوليو 1972 لدوره البارز في الثورة والمقاومة وفي الإبداع الروائي والقصصي والصحافي هو ذاته الإنسان، والشاب المسكون بالحياة والمحتشد بنشاطات كبرى رغم ما عاشه من آلام بسبب من إصابته بداء السكر منذ طفولته. يذكر الكاتب الفلسطيني الراحل فضل شرورو أنه كان يرافق غسان في حضور “مؤتمر الصحافيين العرب” في القاهرة قبل هزيمة 1967 وأن الراحل كان يواظب على حقن نفسه بحقن الأنسولين وأنه تعرّض للإغماء خلال المؤتمر.

غسان كنفاني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس حظي باهتمام كبير وواسع ولكنه رغم ذلك لم يحظ بما تستحقه تجربته الإبداعية من نقد حقيقي وعميق إلا باستثناءات قليلة أعتقد أن من أبرزها مقالة للناقد الراحل يوسف سامي اليوسف نشرها في كتابه الصغير وبالغ الأهمية “رعشة المأساة” قبل عقدين من السنوات.

غسان كنفاني نجم الرواية والقصة والصحافة كان عامه الأخير في حياته القصيرة 1972 هو عام تأسيس “الإعلام الفلسطيني الموحد” والذي قرر إصدار مجلة تنطق بلسان منظمة التحرير الفلسطينية وكان أيضَا عام عقد المؤتمر الأول/ التأسيسي لـ”اتحاد الكتب والصحافيين الفلسطينيين” وكان غسان مرشحًا بالإجماع لرئاسة المؤسستين، رئاسة تحرير المجلة التي صدرت قبل استشهاده بأيام وحملت اسم “فلسطين الثورة” ورئاسة الاتحاد الذي عقد بعد ذلك في أيلول/ سبتمبر أي بعد شهرين من استشهاده. كان ينأى بنفسه عن المناصب ويؤكد على تنويع من يتولونها وكان فرحًا بأن يختاروا الشاعر الشهيد كمال ناصر لرئاسة تحرير المجلة.

رحل غسان كنفاني في زمن عاصف بأحداثه الكبرى، لكنه رحل وقد نمت أشجار حديقته وصارت تحنو على ظله الباقي، ظله الذي يمتد إلى هناك، ويرفرف في سماء عكا.


ضفة ثالثة

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى