النظرية الثقافية والممارسة السياسية
علاقة النظرية بالممارسة قوية وجدلية في أي فعل إنساني، فدون النظرية لا يمكن أن تكون الممارسة، كما أن الممارسة لا يمكن أن تحصل إلا بالنظرية، وأي خلل في العلاقة بينهما لا يمكن أن ينتج عنه غير التسيب والضياع.
أولى مفكرو النهضة، والحركات الوطنية للعمل الفكري والثقافي، وهم يشتغلون بالسياسة مكانة خاصة في الوعي والممارسة، فكانت تجاربهم حافلة بالعطاء. ومتى أصبح التخلي عن النظرية ساريا أمست الممارسة متصلة بالتراجع والتقهقر.
عندما نقرأ الآن النقد الذاتي والاختيار الثوري والتقرير الأيديولوجي نجد أنفسنا، وإن اختلفنا مع مضامين هذه التجارب، أمام تصورات ثقافية محددة للفعل السياسي.
وعندما نستعيد أدبيات منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، نجد الاهتمام الأكبر بكيف نفكر في الواقع في ضوء رؤى محددة. ولذلك كان نجاح هذه التجارب واقعيا في الإسهام في بلورة وعي اجتماعي لدى فئات واسعة من الشعب، لكن ما إن صارت الممارسة السياسية تتأسس على تسطير برامج انتخابية، حتى كانت التضحية بالفعل الثقافي.
وصارت الممارسة السياسية لا تتأسس على المناضلين ـ المثقفين الذين يستقطبون الجمهور في ضوء تصورات مقنعة، لكنها باتت تبنى على «الوجوه» المالية التي يمكن أن تحصل على أكبر عدد من الأصوات. فكان التراجع والتقهقر، في الوعي والممارسة، ولم ينجم عن ذلك غير غياب الثقة لدى المواطنين.
قبيل انتخابات 8 سبتمبر/أيلول 2021 كانت الدعوة إلى المشاركة في الانتخابات شديدة وقوية، لأن ما تكوّن في الصيرورة وخلال ولايتين تشريعيتين جعل الجميع يتبين أن ليس في القنافذ أملس، وأن لا فرق بين الاشتراكيين الذي كانوا يطالبون بتوزيع الثروات بين المواطنين بالتساوي، والإسلامويين الذين يستندون إلى «مرجعية» الخلفاء الراشدين في ممارسة العدل والإنصاف بين الناس. كان الخوف من ضعف المساهمة في الانتخابات دليلا على فشل سياسي ذريع.
عندما نقرأ الآن النقد الذاتي والاختيار الثوري والتقرير الأيديولوجي نجد أنفسنا، وإن اختلفنا مع مضامين هذه التجارب، أمام تصورات ثقافية محددة للفعل السياسي.
حين نتساءل الآن عن النظرية التي ينطلق منها اليساريون بمختلف أصنافهم، نجدها عبارة عن شعارات عامة. ولا نجانب الصواب إذا وجدنا النتيجة نفسها لدى الإسلامويين. ثقافة الشعارات تخاطب الأهواء لا العقول، ولذلك نجد الخطابات متشابهة ومستنسخة.
وحين تخاطب الشعوب بالأهواء ترد بها، فتنتصر لفلان ضدا في علان. وتعاقب هذا بالانتصار لذاك، وإن كانت غير راضية عنه، وهذا نتاج الشعبوية في السياسة التي تغيب فيها النظريات والأفكار والتصورات حول واقع الشعوب ومصائرها. من يسمع خطاب بنكيران يومين قبل الانتخابات يلق السباب والقذف في الخصم السياسي، والتهديد والوعيد في الدولة.
وبعد الانتخابات، وتعيين وزير الحكومة، يجد التسليم والرضى بالخصم، والاستسلام والخضوع للدولة. تحدث المنظرون للسياسة عن مرض الطفولة اليسراوية لدى العدميين. وهنا يمكننا الحديث عن مرض المراهقة الإسلاموية عند المزاجيين.
ولعل تسمية المراهقة أنسب من الطفولة، لأنها دالة على تضخم الذات والانفعال.. أن يتحول الخطاب بين عشية وضحاها كل هذا التحول، دليل على مزاجية تنبني على الأهواء والانفعالات المجانية، والحسابات الشخصية والمرضية لا الأفكار والمواقف والتصورات. ومن أين لمن يرتجل الكلام، ويلقيه على عواهنه أن يفكر في أن ما يقوله اليوم سيناقضه غدا؟
بعد النتائج التي كانت المشاركة فيها قوية نسبيا، وعكس المتوقع، أصيب الجميع بالدوخة السياسية، وتفرقت التأويلات بددا، فالبعض يقول إن التجمع أسقط العدالة، وآخر إن الانتخابات مزورة لأنها لم تكن في صالحه، وهي لم تكن كذلك عندما فاز بها؟ وكل إناء بما فيه يرشح.
وبدا أن أغلب الأحزاب، إن لم نقل كلها، كانت لها الرغبة المطلقة في المشاركة في الحكومة، كبر شأنها أو صغر؟ لم يسقط التجمع العدالةَ، وإنما الأهواء السياسية. إن من ساهم في حملة المقاطعة لأخنوش هم من صوتوا عليه، وفي هذا أقصى وأقسى عقاب «للفقيه الذي انتظروا بركته، فدخل الجامع ببَلغته؟».
مباشرة بعد ما أُسْمي سقطة الإسلامويين أو نكستهم قدم قياديو العدالة والتنمية استقالتهم، ودعوا إلى مؤتمر استثنائي؟ هل كانوا يتوقعون أنهم عندما قدموا الاستقالة، كما فعل عبد الناصر، سيخرج الشارع باكيا، مطالبا إياهم بالتراجع لأنهم ضحايا مؤامرة؟ وهل المؤتمر الاستثنائي سيحل المشكلة؟
لو كنت قياديا في العدالة لطلبت ممن تحمل المسؤولية في التسيير والتدبير، سواء في الوزارة أو الجماعات أو الجهات، وكانت نتيجة ممارستهم هذه النكسة المعبرة، أو تلك السقطة الدالة، ألا يقدموا استقالتهم، ولا أن يدعوا إلى مؤتمر، لكن أن يقولوا للشعب المغربي: لقد فشلنا في ممارسة الحكم، ولم نكن في مستوى توقعاتك، ودون تبريرات. ولذلك فإننا نتنازل عن المستحقات المالية المخصصة لنا بعد الخروج من السلطة. إننا نتنازل عن التقاعدات المريحة، وعن المكافآت السمينة عن «الخدمة» التي لم تكن وفق المطلوب.
لو أقدم العداليون على هذا القرار، كانوا سيعبّرون فعلا عن أن خلفيتهم إسلامية حقيقة، وأنهم ليسوا تجارا اشتغلوا بالسياسة لضمان حياة أفضل لأنفسهم وعائلاتهم والمقربين منهم. كانوا سيعّبرون عن أخلاق سامية. وعندي اليقين أن الشعب كان سيتعاطف مع تنازلهم. لكن من أين للعقل النظري الغائب أن يَغلب الهوى السياسي الحاضر؟