إصدارات

“ولي الجبل” أول رواية باللغة الأمازيغية

رواية فلسفية في شكل حكاية يؤسس بلعيد آيث أعلي من خلالها للخرافة لمناهضتها، لتفكيك الوعي الشعبي الزائف ونقده.

 

بلعيد آيث أعلي عميد الرواية الجزائرية باللغة الأمازيغية، هو أول روائي جزائري يكتب بالقبائلية، ولد العام 1909 وتوفي العام 1950، هو رامبو الأدب الجزائري بالأمازيغية، مثقف التشرد، بوهيمي بامتياز، كاتب الهامش، كانت أمه لالة ذهبية هي من علمته الفرنسية باعتبارها كانت مدرّسة وحاصلة على شهادة البروفي (شهادة التعليم المتوسط) في بداية القرن الماضي وهذا شيء نادر جدا لامرأة قبائلية.

يجند في الحرب العالمية الثانية ثم بعد عودته، عاد إلى التشرد في العاصمة ثم انتقل إلى المغرب مسافرا حتى مدينة الرباط على الأقدام، ليتشرد هناك ثم يسفّر، ويعود إلى تلمسان ليتشرد، لتنتهي حياته باكرا في ملجأ العجزة بمدينة سيق في ضواحي وهران.

تعلم الفرنسية وأتقنها لكنه اختار الكتابة باللغة القبائلية على العكس من جيل الكتاب من أمثال مولود فرعون ومولود معمري وجان عمروش وآخرين الذين فضلوا الكتابة بالفرنسية.

وتعد روايته “ولي الجبل” التي ترجمت مؤخرا إلى اللغة العربية، ترجمة متينة وصادقة من قبل الدكتور بوجمعة عزيري ونشرتها دار الأمل، أول رواية تكتب باللغة الأمازيغية، كان ذلك العام 1946، أي قبل ولادة جيل عمداء الرواية بالفرنسية من أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب وآسيا جبار وفرعون ومعمري.

وفي هذه الرواية يحقق بلعيد آيث أعلي نقلة أسلوبية مثيرة بل فارقة، حيث سينقل الخطاب السردي من بنية خطاب الحكاية إلى خطاب السرد الروائي المعاصر، وسيدخل اللغة الأمازيغية في تجربة أسلوبية جديدة، امتحان جديد.

بلعيد آيث أعلي، على عكس أبناء جيله، اختار الكتابة باللغة الأمازيغية وعاش حياة تشرد مفتوحة على المغامرة
بلعيد آيث أعلي، على عكس أبناء جيله، اختار الكتابة باللغة الأمازيغية وعاش حياة تشرد مفتوحة على المغامرة

 

وبسهولة، نتلمس من خلال الشخصية الرئيسية في الرواية بعض ظلال السيرة الذاتية خاصة في ما يتصل بالحفر في شخصيات الهامش في مجتمع مستعمَر لا يرحم، تغيب فيه العدالة والحرية ويعم الفقر والجهل.

تتأسس رواية “ولي الجبل” لبلعيد آيث أعلي على ما يشبه بناء سردية “ألف ليلة وليلة”، أو تقنية “الدمية الروسية”، حيث الحكاية تخرج من حكاية أخرى لتوصلنا إلى أخرى، ويبدو الروائي مطلعا على “ألف ليلة وليلة” التي اخترقت العالم الأمازيغي والأوروبي وغيرهما، فهو يجيء على ذكرها في نهاية النص، إذ يعترف بأنه حاول أن يحكي على هذه الطريقة.

رواية “ولي الجبل” هي أيضا رواية فلسفية في شكل حكاية، تذكرنا كثيرا بفلسفة “كليلة ودمنة”، وتذكرنا أيضا برواية “الحمار الذهبي” لأبوليوس الأمازيغي، التي تعتبر أول رواية في تاريخ الآداب الإنسانية.

في رواية “ولي الجبل” يؤسس الروائي للخرافة لمناهضتها، لتفكيك الوعي الشعبي الزائف ونقده، كل ذلك من خلال تتبع حياة شخصية تسمى في البداية “بولغطوط” (معناها بالعربية صاحب الأذنين الطويلتين)، شخصية ساذجة، قريبة من صورة مجنون القرية أو حكيمها، قرية تاقمونت التي ينتمي إليها، وهو في ذلك يذكرنا كثيرا بتقاليد كتابة صور مجانين القرى على شاكلة “عرس الزين” للطيب صالح مثلا، يمارس بولغطوط (واسمه الحقيقي أحمد) رعي أغنام أهل القرية دون مقابل، يتبعه الأطفال ليستهزئوا به ويقذفونه بالحجارة، يصبح مهزلة القرية وتضحي الحياة جحيما بالنسبة إليه، فتقترح عليه زوجته “فاطمة” أن يغادر القرية للبحث عن عمل ولو في بلاد العرب.

 بعد تردد، يحمل ما خف ومع صباح باكر يغادر القرية، يمشي في طريق لا يعرف إلى أين ستوصله، وبعد سير أيام وليال وهو على مشارف قرية تسمى تيزي ن تقلكوت، وقبل أن يدخلها يحدث أمر غريب فيها حيث يتوفى إمام مسجدها الوحيد، ويختلف طرفا القرية على من سيتولى إمامة المسجد، فأصحاب الطرف السفلي يقترحون شخصا منهم وأصحاب الطرف العلوي في القرية يقترحون اسما منهم، وتكاد الحرب تندلع بين الطرفين، إلا أن حكيما سيتولى تقديم اقتراح للفرقاء لحل هذه المعضلة مضمونه هو أن أول غريب سيدخل القرية سينصب إماما للمسجد، ويحدث أن يدق بولغطوط أبواب القرية في تلك الليلة، فيحتفلون به معتقدين أن السماء بعثت به إليهم.

تأملات فلسفية دون حس أخلاقي أو ديني
تأملات فلسفية دون حس أخلاقي أو ديني

 

بين عشية وضحاها يصبح بولغطوط المتشرد هو الشيخ أحمد وعلي (وهو اسمه الحقيقي الذي نسيه الجميع في قريته الأصلية مسقط رأسه) شيخ قرية تيزي ن تقلكوت، إلا أن مشكلته أنه لا يعرف لا الكتابة ولا القراءة، وعليه أن يؤم الصلاة ويؤذن في الناس أيضا، ومع ذلك ونظرا إلى المكانة المقدسة التي احتلها مباشرة بعد دخوله القرية، فقد استطاع أن يؤذن مرة واحدة مستذكرا بعض ما كان قد سبق له أن سمعه وحفظه من مؤذن مسجد قريته، وحين أطلق صوته وكان له صوت لا مثيل له، صعقت القرية، وسجد رجالها ونساؤها، وهو ما سمح له بأن يضع الإمامين المتخاصمين تحت تصرفه ويكلفهما بتولي الإمامة والأذان نيابة عنه، أما هو فينسحب إلى البيت الذي وفروه له بخدم يقوم على راحته وطلباته، وتبدأ شخصيته الأسطورية في التشكل داخل اليومي في حياة الناس العاديين.

وتصل شهرته إلى الأنحاء مقرونة بقوته في توقيف حرب بين طرفي القرية، وذات مرة يدق أحدهم بيته، وهو يركب حصانا وإلى جانبه حصان آخر، حاملا رسالة شفوية من سلطان القرية المجاورة والمعروف بعنفه وجبروته واسمه بوقرو، ومضمون الرسالة هو تلبية طلب الملك بالحضور وعلى الفور، فما كان من الشيخ أحمد وعلي إلا أن ركب الحصان وانطلق خلف المرافق في اتجاه قصر السلطان بوقرو.

يطلب منه السلطان أن يعالج بنته سكورا التي أصيبت بالبكم، فينجح في ذلك، ويجازى جزاء ماديا كبيرا، ويستدعى ثانية من قبل السلطان نفسه للبحث عن خاتم ابنته سكورا التي ضيعته وهي مستعدة للانتحار إذا لم تسترجع خاتمها وهذه المرة يستعين الشيخ أحمد وعلي بزوجته التي التحقت به فيتمكن من العثور على الخاتم، ويجازى جزاء ماديا كبيرا أيضا.

وهكذا تتحول شخصية أحمد وعلي إلى شخصية أسطورية، يجتمع حولها الآلاف من المريدين، وتتحول الرواية في الأخير إلى تأملات فلسفية دون حس أخلاقي أو ديني على طريقة “كليلة ودمنة” و“أساطير” لافونتين.

تستعمل رواية “ولي الجبل” لبلعيد آيث أعلي تقنية الحكي الكلاسيكي البسيط لإدانة جميع أشكال التخلف ولتعرية الفكر الخرافي والبحث عن بقع النور التي يمكنها أن تكون منارات للعقل والتقدم بعيدا عن الاستثمار في الدين الشعبي الذي يحول المواطنين إلى رعايا أو قطيع.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى