قصة حصار لشبونة .. حينما تغير أداة النفي التاريخ
الكتاب: “قصة حصار لشبونة”
المؤلف: خوسيه ساراماغو
المترجم: عبدالرؤوف البمبي
الناشر: دار الجمل
عدد الصفحات: 486 صفحة
في كلّ رواية قدمها خوسيه ساراماغو (1922-2010)، كان يقترح على نفسه والقارئ لعبة جديدة. لعب صاحب “كل الأسماء” بالقصص الخرافية والواقع ولم يوفر التاريخ، وفي روايته “تاريخ حصار لشبونة” التي صدرت بالبرتغالية عام 1989 من أهم روايات ساراماغو. يقوم البطل ريموندو سيلفا بالتدخّل في قصة المدينة عام 1147 بأن يلعب في عبارة واحدة ويحوّلها من الإثبات إلى النفي، وبدلاً من أن يكون الصليبيون كما يذكر التاريخ ساعدوا البرتغاليين في حصار لشبونة والاستيلاء عليها، يكتب سيلفا أن الصليبيين رفضوا مساعدة البرتغاليين، وينطلق من هنا في سرد تاريخه البديل المتعلّق بواقعة الحصار وينسج شبكة من أعمال الحب والسياسة والحرب.
الرواية تعدّ اليوم مثالاً بارعاً على كتابات الميتافيكشن- تصدر ترجمتها عن “دار الجمل” في بيروت، بترجمة علي عبدالرؤوف البمبي، وبطلها ريموندو سيلفا، عازب في منتصف العمر ومدقق لغوي في دار نشر برتغالية معاصرة، يقع في حب رئيسته ماريا سارة، وتقترح عليه أن يسرد الأحدث كما يشاء وأن التاريخ مجرد فكرة يمكن التعديل عليها والتدخل فيها.
وهذه واحدة من الثيمات المكرّرة في أعمال ساراماغو، حيث التاريخ شكل من أشكال الأدب من خلال إعادة ترتيب انتقائية للأحداث، حيث تشكّل أفكار ساراماغو وليس المرويات التاريخية، بنية أساسية لتشكيل التاريخ البديل.
مع تطوّر الحب بين الاثنين تتصاعد أحداث الرواية، ويتداخل الحاضر والماضي المتخيّل مع بعضهما البعض في سرد مليء بالتحديات يتحول باستمرار بين الأزمنة الماضية والحالية بل والعابرة للقرون، سنجد رعاة البقر الأمريكيين إلى جانب فرسان القرون الوسطى، سيختبر ساراماغو كل شيء فيها من فرويد إلى ميكيافيللي، من قصف اليابان لبيرل هاربر إلى صورة الجيش البرتغالي وهو يبني برجاً لكسر مقاومة لشبونة.
يستكشف ساراماغو التعطش للسلطة والتعصب الديني والسياسي والشوفينية، مثلما يعود برفق إلى حاجة الإنسان للحب والرفقة. ورغم ما يبدو عليه الموضوع من أنه ثقيل وقد تكون الرواية صعبة القراءة، إلا أنها وصفت لدى صدورها بأنها قصة لا تخلو من جانب مسلٍ أيضاً ومن السرد المتدفق.
رغم ذلك، نجد تحليلات أدبية كشفت تأثر ساراماغو بتجربة جويس وأسلوبه فيها، مثلما تأثر بتجارب الحداثيين الآخرين في أوائل القرن العشرين، من هنا نجد “تاريخ حصار لشبونة” التي كتبها الحائز على جائزة نوبل عام 1999، رواية معقدة سياسيًا وتاريخيًا تعتمد على أشكال ومستويات متنوعة من السرد والتخييل.
ولد ساراماغو عام 1922. عمل كصانع أقفال، ثمَّ كصحافيّ لفترة طويلة قبل أن يتفرّغ للكتابة الأدبية. أصدر روايته الأولى “أرض الخطيئة” عام 1947، ثمّ توقف عن الكتابة لما يقارب العشرين عامًا، وعاد بعد ذلك ليصدر رواياته التي لا تنسى، مثل “العمى” و”انقطاعات الموت” و”كل الأسماء”… وغيرها، والتي ستقوده إلى نوبل. كما عُرف عنه وقوفه إلى جانب قضايا الشعوب، والانحياز التام للناس ضد مختلف أنواع الهيمنة، وقد قضى سنواته الأخيرة يدوّن أفكاره على الإنترنت في حالة تفاعل مع الأحداث الجارية. توفي عام 2010.
سئل ساراماغو: كيف أتتك فكرة “قصة حصار لشبونة”؟ فأجاب:
“فكرة كانت تراودني منذ 1972. فكرة الحصار لمدينة، لكن لم أحدّد ما هي المدينة. ثم تطورت لتكون قصة حصار حقيقية، والتي فكرت بأن تكون قصة حصار لشبونة من قِبل قشتالة في 1384. وأضفت إليها شيئًا من حصار آخر للمدينة ذاتها حصل في أواخر القرن 12، وكانت الرواية في النهاية خليطًا بين هذين الحصارين التاريخيين. تخيلت حصارًا مضى بفترة ما، وحال الأجيال المحاصرة، حصار اللاعقلانية، يمكنني أن أقول بأن الهدف لم يكن الوصف لحال الأناس المحاصَرة والآخرين المحاصِرين، أو أيًا كان ذلك.
في النهاية، انتهت الرواية كما أردت لها أن تنتهي، تأملًا في فكرة الحقيقة التاريخية. هل التاريخ حقيقة؟ هل ما نطلق عليه “تاريخ” يخبرنا بالقصة كاملة؟ التاريخ حقيقة هو خيال، لا أشترط القول بأن الوقائع مخترعة، بل إن الوقائع حقيقية، ولكن ترتيبها خيال.
التاريخ مركّب ببعضه بوقائع مختارة، وتعطي بعد ذلك تسلسلًا للقصة. ومن أجل صناعة التسلسل هذا ينبغي تجاهل الكثير من الوقائع، هناك الكثير من الوقائع التي لم تدخل التاريخ، والتي بدورها سترسم منطقًا آخرًا للتاريخ إن كانت متواجدة به. التاريخ لا يجب أن يقدّم كدروس صلبة، لا أحد يستطيع القول بأنه كذلك، أو يضمن بأن هذه هي الوقائع كاملة.
“قصة حصار لشبونة” ليست مجرد تدريب على الكتابة التاريخية، إنها تأمل للتاريخ كحقيقة، أو شكوك بالتعبير الأصح، فالتاريخ ليس كذبة لكنه مخادع بشدة، تتحكم به كثير من الأمور، حياتنا الشخصية مثلًا، أو حياة خيالنا، أو حياتنا الأيديولوجية والمذهبية”.