سرديات

القصة القصيرة في المغـرب

 

إن التاريخ القصير لفن القصة القصيرة عموما؛ وتاريخِها في المغرب على وجه الخصوص؛ ليس سوى مسارِ تعلُّمٍ على درب التأسيس الفعلي لمقومات هذا الجنس الأدبي الوليد. فالباحث في تاريخ ومفهوم القصة، سيجد نفسَه في ما يشبه المغارة المتعرجة والملتبسة والمؤذِنة بوجود إشكال مفهومي واصطلاحي في تحديد هوية هذا الجنس الأدبي عربيا. هذا الإشكال نتج عن تداخل هذا الفن الوليد مع ظلالِه وتجلِّياتِه في التراث العربي القديم كالمقامة والمقالة القصصية والصورة القصصية والقصة القصيرة والحكاية والأقصوصة والنادرة والطُرفة ..، حيث يتحرك بعض هذه الأنواع في حدود اللاوعي القصصي، وينزل بعضُها الآخر منزلة بين المنزلتيْن، فيما يُجسّد بعضها الآخر القصة في مفهومِها الكلاسيكي التراثي. لذلك يُعتبر التحديد الزمني المضبوط لنشأة هذا الفن عربيا من القضايا الشائكة والملتبسة وغير المحصورة، ويجد الباحث المغربي صعوبة أكبر في وضع خط تاريخي فاصل لميلاد القصة القصيرة المغربية بمفهومِها الحديث.

نفترض في صيرورة تحولات جنس القصة في المغرب، أنها تطورت صعودا حسب الباحث “محمد القاسمي” وبرزت تجلِّياتُها الواضحة في أربعينيات القرن الماضي، من خلال أعمال القاص المغربي مصطفى الغرباوي سنة 1938 … وهو ما أكده الناقد “أحمد المديني” حيث يعتبر هذا التاريخ أي أواخر الثلاثينات ومطلع الأربعينات فراشا تمهيديا لهذا الفن[1]، في حين نجد نجيب العوفي يحيل على أواسط الخمسينيات كأرضية خصبة لنمو بذرة هذا الجنس الأدبي الوليد.

  • هوية القصة القصيرة في المغرب

سواء عَزَوْنا منطلق القصة القصيرة وعدنا بالمؤشرات الأولى للوعي القصصي إلى عقد الأربعين أو الخمسين، فإن ذلك لا يغير من الدلالة التاريخية والمغزى العام  شيئا، المهم أن القصة القصيرة في المغرب ارتبطت في بداياتها بالوعي الوطني، فكانت تعبيرا عن “صدمة الحداثة” التي هزت الكيان المغربي، وهزت بشكل خاص النخبة المثقفة. ويمكن القول إن جنين القصة المغربية قد شرع في استكمال نموه واستيفاء شروطه، وأصبح كيانا أدبيا يحمل اسما ورسما بدءا من الأربعينات، ففي هذه المرحلة يمكن القول إنها مرحلة بداية الانفصال عن اللاوعي القصصي، أي عن الأشكال والأطر القديمة والهجينة  (المقامة والمقالة القصصية …)، وبداية الاتصال بالوعي القصصي، أي بشكل القصة القصيرة Short Story حسب ما هو متعارف عليه في المرجعيات الأدبية الغربية.

 وقد حاول التقصي النقدي في تتبعه  للمدونة القصصية، اعتماد معيار أو آلية للإمساك بمفاصل المسار الخطي لمشروع القصة القصيرة المغربية بدءا من (لحظة التشكل والتأسيس إلى لحظة التجنيس ثم الانفتاح)، فكان الميل إلى افتراض وجود مؤشر دال واتخاذه مقياسا لمرحلة معينة كتحديد مجموعة من السمات والخصائص الواصفة للقصة القصيرة كعلامة فارقة. إلا أن المدونة القصصية في أشكال إنتاجها وتلقيها تأبى الخضوع لمقاييس التجييل القائمة على سمات تراكمية، ذلك أن إمكانيات الحضور الجمالي التي تم على أساسها تأسيس تجليات القصة القصيرة وموقعها من النسق الثقافي والإيديولوجي العام؛ هي إمكانات موسومة بالدينامية وعدم الاستقرار[2]، الشيء الذي استدعى اعتبار مؤشرات أخرى تراعي حيوية النوع الأدبي واستجابته  للتفاعل التاريخي مع المرحلة التي يعيشها، ومن تم كان التركيز على تبدل  نوعية الكتابة القصصية وتغير هموم  أسئلتها ارتباطا بوعيها و بواقعها .

 فالقصة القصيرة المغربية قد تدرجت في أسئلتها خلال صيرورتها الزمنية من “سؤال الوطن” إلى “سؤال المجتمع” إلى “سؤال الذات”.

  • مرحلة التأسيس والبحث عن الهوية أو “صدمة الحداثة[3]:

يشير الناقد “نجيب العوفي” في كتابه مقاربة الواقع في القصة القصيرة إلى أن مرحلة التأسيس هذه، تعتبر مختبرا كيميائيا معقدا للقصة القصيرة، ومخاضا شاقا للوعي القصصي.

 فنقطة بداية تشكل هوية القصة القصيرة المغربية؛ ارتبطت بالبحث عن الهوية الوطنية، فبينما كان الوعي الوطني يؤسس هويته ويشرع السؤال على المستقبل كان الوعي القصصي كذلك في علاقة جدلية معه يؤسس ذات الهوية ويشرع ذات السؤال. ففي كنف الحركة الوطنية ترعرعت وتفتحت الحركة الثقافية، وبعون هذه نشطت واغتنت تلك.  يقول د عباس الجراري:” ولعل أهم متغير طرأ على الحقل الثقافي وحركة ثوابته، ولعب دورا أساسيا في نشأة القصة القصيرة والمقالة كنمطين أو جنسين أدبيين، كان يتمثل في ظهور الصحافة وانتشار الجرائد والمجلات التي كانت أداة إيديولوجية ونضالية للحركة الوطنية”[4] .

 وفي خضم هذا السياق التاريخي القلق، تلمست القصة القصيرة أولى خطواتها على أعمدة الصحف والمجلات، وسطرت بأحرف مرتعشة شهادة ميلادها،  فقد ساهم انتشار النص القصصي في عكس الواقع بأدق تفاصيله، وتميزت المرحلة بكتابة القصة السياسية التي رسمت ألوان المقاومة،  حيث طفا على السطح سؤال الوطن والشوق إلى التحرر من الاستعمار، وحل السؤال السياسي محل السؤال الأخلاقي والديني. وخير مثال على ذلك ما جسدته قصة “أبحث عن بربري” لمحمد حصاد، ومجموعة “وادي الدماء” لعبد المجيد بن جلون …و غيرها من الأقلام التي أغرتها المغامرة الإبداعية الجديدة رغم ما يعتورُها من تعثرات.

  • مرحلة التجنيس أو إثبات الهوية:

يمكن القول؛ إن مرحلة الستينيات (الاستقلال) هي بمثابة المرحلة الثانية للقصة القصيرة المغربية، بل ربما المرحلة الحاسمة والحقيقية لها،  كما قال “محمد برادة”. وذلك راجع إلى خصوصية المرحلة واختلافها  بحكم الظرفية التاريخية التي كان تمر بها المغرب، والتي كانت القصة سباقة للانخراط فيها والاستجابة لأسئلتها، حتى باتت الناطق الرسمي باسم  المرحلة. ومن تم يمكن القول أنها انتقلت من مرحلة البحث عن الهوية إلى إثباتها وتجنيسها سواء على مستوى الشكل أو المضمون ، فقد أصبحت أكثر وعيا بمقومات القصة القصيرة  وبمادتها وموضوعها وتنحو بهويتها صوب أفق جديد.

إن ارتباط القصة القصيرة بأسئلة عصرها وواقعها؛ جعل منها منبرا للتعبير عن هموم الإنسان وما يعانيه في المجتمع في ظل هذه المرحلة، فقبل اكتمال نشوة التحرر والاستقلال طفقت التناقضات الاجتماعية في الظهور، فكانت الرومانسية والواقعية، بما هما تياران فنيان، ملاذا للقصاصين لترجمة انخراطهم كفاعلين في الحراك الاجتماعي. ومن تم  حل “سؤال المجتمع محل سؤال الوطن”، وعُوِّض سؤال تحرير البلاد من المستعمر الأجنبي بسؤال تحرير البلاد من جشع البورجوازية الوطنية ومن الظلم والفساد والقهر، وبذلك صار النص القصصي هو المنتقد والمناقش لهذا الواقع، والذي ترجمته كتابات كل من (مبارك ربيع، عبد الجبار السحيمي، إدريس الخوري، محمد زفزاف، محمد شكري، محمد زنيبر، الخمليشي، محمد إبراهيم بوعلو ….)

  • مرحلة النُّضج والاستواء

يمكن القول أن هذه المرحلة؛ تعتبر الفترة الذهبية واللبنة الرئيسة لنضج ثمار هذه الكرامة، لأن هذه الحقبة أو المرحلة عرفت إنتاجا قصصيا ضخما، تميز بالعكوف على الذات، خاصة بعد هزيمة 1967، حيث انهار الحلم العربي، ولم يملك الكاتب غير طرح مشاعره وأحاسيسه، بالإضافة إلى هيمنة النزعة الليبرالية التي أخذت في الاتساع مكرسة المزيد من الفردية . فقد حل سؤال الذات محل سؤال المجتمع، واستبدل سؤال الحرية الفردية بسؤال تحرير المجتمع، فكان التعالي عن هذا الواقع لاستشراف أفق مغاير وممكن، ويمكن القول بدون تحفّظ؛ إن القصة القصيرة في المغرب في هذه المرحلة، لم تعد منشغلة فحسب بإثبات هويتها القصصية والاجتماعية، بل أصبحت منشغلة بتحديث هذه الهوية وعصرنتها، وهو ما يضفي عليها قوة ومتانة، فالاشتغال على تيمات مجددة ومخصبة، وتوليد أشكال نابضة برؤى مشخصة للواقع ومتساوقة معه، هي من مظاهر الجدة والتحديث، حيث راهنت النصوص السردية على سؤال التجريب، باعتباره  محفلا يمكِّن النص من إنتاج أبعاد دلالية جديدة تحقق مظهره الانسجامي الخاص به صياغة وتشكيلا، فكان التنصيص على اقتحام ما وراء الواقع والاشتغال  على دواخل الذات.

لقد شقت القصة القصيرة المغربية لنفسها في هذه المرحلة خطا مغايرا، اكتسبت من خلاله نسقا جديدا يمكن تسميته – كما أشار إلى ذلك القاص ” أحمد بوزفور” في كتابه “الزرافة المشتعلة” – “بالنسق الداخلي[5].، الذي أصبح ميسما لها حيث بدأت في:

  • الدخول إلى ذات الكاتب.
  • الدخول إلى الذات اللغوية.
  • الدخول إلى الذات الثقافية.

وخط المغايرة في هذا الدخول؛ يتمثل في وعي الكتابة بذاتها من خلال اختبار المخزون الثقافي؛ عبر استدعاء مختلف القيم الرمزية والتخيلية، وإعادة الاعتبار للمهمش والمنسي والإفادة من الاستخدامات الجديدة للغة عبر  التشخيص اللغوي المشبع بالصور والأخيلة والاستيهامات، وعكوفُها على توسيع دائرة تقنياتها  بوصفها فعلا لعبويا وأفقا للمحتمل والمتخيل. وعلى هذا الأساس فهي تجازف إلى تخليق وعي قرائي من خلال ارتيادها لمناطق الظل في الكينونة، مستوعبة التناقضات والتداخلات والتعارضات وتعدد الاحتمالات والنوايا المضمرة والمعلنة والمونولوجات والأحلام والتأملات.[6] ومن أبرز رواد هذه المرحلة نجد : (محمد برادة، مصطفى المسناوي، محمد هرادي، محمد شكري، مصطفى بعلى، خناتة بنونة، رفيقة الطبيعة، مليكة مستظرف..) وغيرهم من الأسماء اللامعة والمتألقة في ميدان القصة.

  • خلاصة

إن أهم ما يمكن أن نتحدث عنه في سياق ما نعتبره إيجابيا؛ تحولات القصة في المغرب هو نجاحها  رغم قصر عمرها ومحدودية تراكمها وعدم انتظام وتيرتها  في القبض على النغمة المغربية في فن القص[7] ، وهي نغمة قطعت بشكل حاسم مع نزعات تقليد بلاد المشرق العربي؛ التي لازمت البدايات الأولى للنشأة لجنس القصة في التربة الأدبية المغربية، وبمراجعتنا الخاطفة لتضاريس تشكلها عبر مسارها التطوري، نقف على أنها ما كانت لتنتهي إلى ما انتهت إليه اليوم، لولا التقلبات والتغيرات التي واكبت نموها. ومن تم يمكن القول إن مبدأ التحول؛ صفة ملازمة للقصة القصيرة، وعلامة دالة على تفردها، وعدم اسقرارها الفني؛ جزء لا يتجزأ من عدم الاستقرار النفسي والفكري والاجتماعي السائد في معظم البلدان العربية ومن بينهم المغرب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] محمد أمنصور ،” شهوة القصص” ، ص 24

[2]محمد الزموري، “فخاخ الحلم والمرايا “(درسات القصة القصيرة) ص 31 -40  

[3] نجيب العوفي  ، “مقاربة الواقع في القصة القصيرة”  ص49

[4] -الجيراري عباس، الادب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، ج1، ط1،1979،مكتبة المعارف،ص198.

[5] أحمد بوزفور، الزرافة المشتعلة ، ص 26.

[6] محمد الزموري، فخاخ الحلم والمرايا ، ص 124

سميرة مصلوحي

سميرة مصلوحي؛ أستاذة باحثة في اللسانيات التطبيقية، حاصلة على شهادة الدكتوراه في اللسانيات بجامعة محمد الخامس الرباط. نَشرت العديد من الأوراق العلمية في مجلاَّت عِلمية مُحكمة، كما تَنشُر باستمرار في عددٍ من المواقع العربية الإلكترونية.

‫2 تعليقات

  1. احب …اخوتي في المغرب ايما حب ..انتم اخوتي احبكم بكل عنفوان ..ولكني اكره نظام المخزن المستبد ..الخاين للامة ..؟؟!!.. سامحوني …

  2. مقال في المستوى شكرا للدكتورة سميرة مصلوحي على هذه المشاركة
    للاشارة حبذا لو يتم تحديد المرجع رقم 7 المشار اليه في الخلاصة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى