الأدب الرقمي

مصير الكتابة الأدبية في زمن التقنية

 

“الأدب الرقمي”.. ثراء المكاسب الجماليَّة: التحريض على نشوء آليات جديدة لإنتاج النصوص، إبداع الذات الاجتماعية للمثقف، وعي متنامٍ بدور القارئ، وتحرر من سلطة المؤلف.

  • الأدب والتكنولوجيا

لم يكن الحديث حول مصير الأدب في عصر التكنولوجيا جديدًا، فمنذ بدأ العالم يأخذ بالتغيير بفضل الدور الذي لعبته التقنية وانغراسها في أدق تفاصيل حياة الأفراد والمؤسسات على اختلافها، والسؤال يُلح داخل المؤسسة الأدبية حول مستقبل الأدب الذي بدأ شفهيًّا، وانتقل كتابيًّا ورقيًّا، وها هو الآن يتحول لمرحلة جديدة عبر الوسيط التقني كتابة ورواجًا، بكل ما يحمله هذا الوسيط من سمات تطبع “النص الرقمي” بمحددات السرعة، ومساحة النشر، والمؤثرات، والتلقي… إلى الحد الذي انبثقت معه أجناس أدبية جديدة، كالنص المتفرّع، والنص التفاعلي، ورواية الواقعية الرقمية … وغيرها من أنماط كتابية رقمية، سيتم الحديث عنها لاحقًا.

إن دخول الأدب عالم التكنولوجيا ليس لمجرد أن لا يبقى الأدب بمعزل عن العالم المتغير من حوله، بل لأن المسألة أخذت أبعادًا أخرى تتعلق بتغير أنماط المستهلكين الجدد للأدب، وتغير أنماط القراءة والعادات الذهنية في التلقي. فالمستهلكون عادة هم الذين يقودون التغيير، لذلك وجب الاقتراب من المستهلكين الرقميين، الشباب على وجه الخصوص، وإبقاء الاتصال معهم. (رولاندز، نيكولاس، 2011، ص 298). إلى جانب ما للتقنية، بشكل عام، من جانب سيادي سلطوي على الإنسان وعلى الطبيعة، إذ لها منطقها الأيديولوجي في السيطرة بكل أوجهها، (هابرماس، 1999، ص 77، 78) و (ماركوز، 1988، ص37 – 54).

  • المستهلكون الجدد للأدب

يشير منهج القراءة وجمالية التلقي إلى أن “الذات المتلقية قادرة على إعادة إنتاج النص بوساطة فعل الفهم والإدراك، ومتمكنة بذلك من تكثير المعنى وتشقيق وجوه لا نهائية من بنيته، مما يجعله قادرًا على الديمومة والخلود بفعل الحوارية المستمرة بين بنية النص وبنية التلقي” (بشرى صالح، 2001، ص 52)، وينبغي الاعتراف بأن قارئ المستقبل، على وجه الخصوص، “لن يكون بنفس الطواعية والتلقائية والاتكالية الذي اعتدناه في السابق. فستتحول وتتبدل العلاقة التقليدية بين القارئ والكاتب وكذلك مع الناشر، فهي إن كانت في اتجاه واحد حتى الآن ويغلب عليها طابع التلقي السلبي، أي نموذج الأستاذ بالتلميذ، فستكون مستقبلاً تفاعلية (Interactive)، بل ومتعددة الجوانب من خلال مجموعة من المستفيدين (User Groups)، وستقوم على الاتصالات الإلكترونية السهلة والسريعة …” (أحمد بشارة، 2004، ص 80).

مهما تعددت الأصوات النقدية بشأن النص الرقمي المنشور عبر الوسيط الرقمي، فإنه لا يمكن للنقد الأدبي أن يظل متبنيًا دور المتأمل عن كثب لكل ما يحدث حوله من متغيرات طالت الأدب منذ دخوله عالم التكنولوجيا، ولقد باتت هناك حاجة ماسة لوجود نظرية أدبية جمالية تستوعب تلك التغييرات وتحدد إطارها، لاسيما وأن تلك “النصوص التفاعلية” المنشورة عبر الوسيط الإلكتروني تتقاطع في أهدافها مع اتجاهات ما بعد البنيوية على النحو الذي ورد عند ميشال فوكو Michel Foucault وجاك دريدا Jacques Derrida وأمبرتو إيكو Umberto Eco في جهودهم حول النص المفتوح Open Text والدور المحوري يلعبه القارئ بوصفه منتجًا للمعنى لا مستهلكًا، فضلاً عن استجابة النصوص التفاعلية لمبدأ ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin “تعدد الأصوات” حيث القراءة الإيجابية للنصوص، وفكرة رولان بارت Barthes Roland في كتابه (Z/S) في حديثه عن “النص المتعالق”، بوصفه نصًّا يمثل كوكبة من الدوال لا بنية من المدلولات، ليس له بداية، قابل للتراجع، ويمكن الولوج إليه من مداخل متعددة (زرقاوي عمر، 2011، ص 185، 186)، فالنص المتعالق في محدداته يشبه النص الرقمي التفاعلي، خاصة النص المتفرّع Hypertext .

لقد أكد “بيل جيتس” bill gates بأن التكنولوجيا هي التي ستغير وجه العالم، وهي التي ستفرض نظامًا جديدًا للحياة والعمل، لا يمكن لأفراده الاستغناء عن التقنية والحواسب، وسيظهر ما يعرف بأسلوب حياة الشبكة Web life style وأسلوب عمل الشبكة Web work style وهما مصطلحان جديدان اخترعهما “بيل جيتس” ليعبر بهما عن الحياة القادمة وطبيعة العلاقات المتبادلة بين ناس الزمن القادم (محمد سناجلة، 2003، ص 54، 55). وقد بدت تتشكل ملامح هذا الزمن بما يعاش اليوم ويشاهد.

  • أسرع بتمهل!!

يتجه العالم اليوم إلى توظيف التكنولوجيا في شتى مجالات الحياة، وغدا هذا التوظيف معيارًا لتفاوت المجتمعات. ويشير مصطلح الثقافة الرقمية Digital Culture “إلى معطيات ثقافية جديدة، تتأتى عن استخدام التكنولوجيا الإلكترونية، والهوّة التي تفصل الدول المتقدمة عن الفقيرة في هذه التكنولوجيا. ويشار إلى هذه الهوة أحيانًا باسم “الفجوة الثقافية”” (هيام الدهبي، 2012) و لقد كان من البدهي أن تطال هذه الثقافة الأدب بكل تفريعاته بما يتلاءم وترسانة العصر الفائقة السرعة.

إن استجابة الكتابة الأدبية لإيقاع الحياة السريعة في زمن التقنية أحد أهم المحاور التي شغلت المهتمين بالأدب قبل أكثر من ربع قرن “نحن الآن في سنة 1985 خمس عشرة سنة – تقريباً – تفصلنا عن بداية ألفية جديدة … قد تكون علامة قرب انتهاء هذه الألفية هي وتيرة الأسئلة المطروحة حول مصير الأدب والكتاب في عصر التكنولوجيا” (كالفينو، 2008، ص 22)، وكانت “السرعة” واحدة من الوصايا الست التي اقترحها المؤلف للكتابة الأدبية “بما أنني اقترحت في كل محاضرة من هذه المحاضرات أن أوصي للألفية المقبلة بقيمة عزيزة على نفسي، فإن القيمة التي أوصي بها اليوم هي كالتالي: في عصر انتصرت فيه وسائل إعلام أخرى أكثر سرعة وذات مجال واسع للحركة، والتي تهدد بتسطيح وتحويل أي تواصل إلى قشرة متشابهة ومنسجمة، فإن وظيفة الأدب إذن هي التواصل بين ما هو مختلف بما أنه مختلف، دون أن يُثلِّم اختلافه، بل يرفع من شأنه، بحسب النزعة الخاصة للغة المكتوبة” (كالفينو، 2008، ص63)

و”السرعة” في الكتابة الأدبية التي يقصدها الكاتب بما يتلاءم مع زمن التكنولوجيا التي تقوم في مجملها على الإيقاع السريع للزمن، ليست تلك التي تنتج لنا نصوصًا سطحية تافهة، إنما التي تجنح إلى إعمال العقل، مع التأثير السريع والعميق في آن معًا، أو على حد وصفه “الصعقة غير المتوقعة” ممثلاً لتلك المعادلة، غير الهينة، بالفراشة والسرطان اللذين يرمزان للشعار “أسرع بتهمل” في مجموعة رموز القرن الخامس عشر للكاتب “باولو جوفيو” “Paolo Giovio” (كالفينو، 2008، ص 65) مشيرًا في الوقت نفسه، إلى أن قرن التكنولوجيا قد فرض “السرعة” بوصفها قيمة قابلة للقياس، ومستدركًا بأن السرعة التي يوصي بها في الكتابة الأدبية هي السرعة العقلية، وهي التي “لا يمكن قياسها ولا تسمح بمقارنات ولا منافسات، ولا يمكن أن توجه نتائجها انطلاقًا من منظور تاريخي. تعتبر السرعة العقلية قيمة في حد ذاتها، في اللذة التي تحدث عند من له حساسية بهذه اللذة. وليس في المنفعة التطبيقية التي تمنحها لنا. إن التفكير السريع ليس بالضرورة أحسن من التفكير المتروي، ولكنه يعبر عن شيء خاص يكمن بالخصوص في خفته”(كالفينو، 2008، ص63).

وإذا كان مصطلح “الأدب الرقمي” يشير إلى “كل شكل سردي أو شعري يستعمل الجهاز المعلوماتي وسيطًا، ويوظف واحدة أو أكثر من خصائص هذا الوسيط” (فيليب بوطز، 2011، ص 103) فإن “النص الرقمي” تحديدًا هو النص الذي يكتب على شاشة الكمبيوتر بواسطة اللغة الثنائية للحاسب الآلي، وينشر عبر وسيط إلكتروني. والنصوص الرقمية نوعان، الأولى بسيطة والثانية المركبة. فـ”البسيطة” هي التي نشرت إلكترونيًّا على شبكة الإنترنت دون أن تعمد إلى توظيف تقنية الوسائط أو المؤثرات، بينما النصوص “المركبة” هي التي تنشر على شبكة الإنترنت مع توظيف تقنية الوسائط أو المؤثرات المتعددة، وفي هذه الحالة يكون من المتعذر الحصول على نسخ ورقية من هذا النوع من الأعمال (محمد أسليم، 2012) .

وتتعدد أنماط النصوص الأدبية الرقمية المركبة التي تستعين بالوسائط والمؤثرات حتى تبدع جنسًا أدبيًّا مستقلاًّ ومنبثقًا عن مدى تأثر الأدب بالتكنولوجيا، لعلّ أشهر هذه الأنماط ما اصطلح على تسميته بـ”النص المفرّع أو المتفرّع” (Hypertext) في علم الحاسوب و”هو تسمية مجازية لطريقة في تقديم المعلومات يوصل فيها النص والصورة والأصوات والأفعال معًا في شبكة من الترابطات مركبة وغير تعاقبية، مما يسمح لمستعمل النص أن يتصفح (Browse) الموضوعات ذات العلاقة دون التقيد بالترتيب، الذي بنيت عليه هذه الموضوعات، وهذه الوصلات تكون غالبًا من تأسيس مؤلف وثيقة النص المفرّع، أو من تأسيس المستعمل، حسبما يمليه مقصد الوثيقة”. (حسام الخطيب ورمضان محمد، 2001، ص 50) وكذلك “الأدب التفاعلي” (Interactive Literature) وهو “الأدب الذي يوظّف معطيات التكنولوجيا الحديثة في تقديم جنس أدبي جديد، يجمع بين الأدبية والإلكترونية، ولا يمكن أن يتأتّى لمتلقيه إلا عبر الوسيط الإلكتروني، أي من خلال الشاشة الزرقاء. ولا يكون هذا الأدب تفاعليًّا إلا إذا أعطى المتلقي مساحة تعادل أو تزيد عن مساحة المبدع الأصلي” (فاطمة البريكي، 2006، ص 49). وفي “الرواية التفاعلية” يسهم المتلقي في إكمال أو إنعاش النص التفاعلي على نحو ربما فاقت قدرة الكاتب الأصلي الذي طرح بالنص عبر الفضاء الإلكتروني أولاً. أو أنه يختار النهاية أو مسار الأحداث أو الشخصية التي ينطلق منها في قراءة النص بناء على توظيف الأدب التفاعلي لخصائص “النص المتفرّع” (Hypertext) من صوت وصورة وأشكال وخرائط وموسيقى … (فاطمة البريكي، 2006، ص 126) و”رواية الواقعية الرقمية” التي تعتمد على الخيال المعرفي وتجمع بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي، تستخدم في بنائها تقنية الـ links المستخدمة في إعداد صفحات الويب، إلى جانب المؤثرات والوسائط المتعددة البصرية والسمعية والفيديو والخيال… التي يتيحها الوسيط الإلكتروني، وتنشر رقميًّا على شبكة الإنترنت (محمد سناجلة، 2003، ص 60- 66)

وفيما يتعلق بمدى إفادة الأدب من التكنولوجيا فإن ثمة عاملين مؤثرين برزا في نهاية القرن العشرين أسهما إلى جانب عوامل عديدة في تطور مرجعيات النص الأدبي وهما: “جماليات التلقي والوعي المتزايد بدور القارئ المفترض في مرجعية النص. (حسام الخطيب، 2001،ص48). إلى جانب “الدور المتعاظم للمعلوماتية وثورة الاتصال في إيجاد مناخ الذات الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى مكملة للأولى، دور الحاسوبية والمغامرة التكنولوجية في هز مرجعية الخيال الأدبي، والتحريض على نشوء آليات جديدة، لإنتاج النصوص ربما تحمل معها مرجعيتها النوعية.” (حسام الخطيب، 2001، ص48، 49). فالوعي المتنامي بدور المتلقي، وتضخم دور الذات الاجتماعية التي وجدت لها منبرًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن وسائط التكنولوجيا المتعددة من صوت وصورة ومؤثرات شكَّلت مرجعية جديدة في مقابل الخيال الأدبي، الذي يلعب دور المحور في النصوص التقليدية، أو الأخرى البسيطة التي لا توظف تلك الوسائط والمؤثرات وتشتغل على دلالة الكلمة، إلى جانب جاذبية الآليات الجديدة التقنية لإنتاج النصوص، كلها عوامل أسهمت في دخول الأدب عالم التكنولوجيا والإفادة منه.

وعلى الرغم من الاعتراف بالتأثير التقني الجديد على الأدب إنتاجًا، واستقبالاً، إلا أن المسألة لا ينبغي أن تؤخذ مبررًا للانفلات من الانضباط والتقاليد الأدبية، ومن قيمة الفن بوصفه حالة إبداعية جديرة بالظهور والتلقي فقد “نرفض المؤسسة والسلطة الأدبية القائمة إذا كانتا فعلاً موجودتين. لكن هذا الرفض يؤدي بالضرورة إلى الدفاع عن مؤسسة جديدة وسلطة مختلفة. وليس الدفاع عن الفوضى. وإذا شئنا استبعاد هذين المفهومين قلنا لابد من وجود “تقاليد” أدبية محددة نستند إليها في فهم الأدب وتقويمه. قد نختلف في تعيين هذه التقاليد، ولكن لا يمكن إلا أن نتفق حول جملة من المعايير التي بمقتضاها يتم التمييز بين “الإبداع الحقيقي” و اللاإبداع” (سعيد يقطين،2002، ص23)، ربما كان الخوف من غياب مظلة السلطة الأدبية بمعاييرها التي تحفظ للفن قيمته وهويته ومن ثم اندلاع الفوضى في النصوص هو ما غيّب إلى حد كبير دور النقد فيما ينشر إلكترونيًّا، إذ يبدو عند كثيرين، أن في تمرير أدوات الناقد على هذا النوع من الأدب اعتراف بشرعيته، وربما آثر بعض المشتغلين بالنقد الأدبي التزام الصمت حيال الأدب الرقمي، بوصفه موقفًا حياديًّا مترددًا، بانتظار ما تسفر عنه التجربة.

  • كل أدب جديد هو عدائي!!

الكاتب المسرحي الروماني “أوجين يونسكو” يقول: “كل أدب جديد هو عدائي” لذلك تفاوتت آراء النقاد في استقبال النصوص الرقمية، لاسيما تلك التي تفيد من الوسائط والمؤثرات التي وفرتها التكنولوجيا، من صوت وصورة وروابط مركبة والوصلات التي تحيل إلى هوامش لا محدودة كما في النص المتفرع.

بعض الآراء انطلقت في عدائيتها للنص الرقمي الأدبي من تلك الهالة القدسية التي يملكها الأدب بوصفه نشاطًا إنسانيًّا، فرأت أن الآلة “الوسيط الإلكتروني” حين تنتج أدبًا، فإن ذلك يثير أحيانًا الشعور بحالة من التدنيس للجزء الأشد إنسانية فينا، وهو الجزء المعبر عن جميع أحاسيسنا ومشاعرنا، الذي كنّا نستشعره عند مزاولة الكتابة على الورق على نحو شخصي ومعبر وصادق(بوطز، 2011، ص102). هناك من يذهب إلى أبعد من تلك المسألة في وصفه النصوص الرقمية عبر الوسيط الإلكتروني “بأنها نصوص بلا أجساد، ظلال قلقة تتجول إلى مالا نهاية في الفضاء الرقمي، لذلك تبدو أشباحًا نصيّة مخيفة، بمقابل حميمية النصوص الورقية التي تتنفس في أجساد مادية” (عبير سلامة، 2011)

ويستند الناقد سعيد بنكراد في نقده للنصوص الرقمية، وبخاصة المتفرّع أو المتشعب (Hypertext) على فكرة أن بناء النص الجمالي “لا يتم من خلال تجميع لعدد لا محدود من الملفوظات [كما هو في النص المتفرع]. بل يتم من خلال بناء عالم استنادًا إلى عدد محدود من الملفوظات. وتلك هي القاعدة الأساسية التي تتحكم في كل تجربة فنية. فالفن لا يتميز بقدرته على قول كل شيء، بل يتميز بقدرته على بناء سياقات لا تحتمل كل قول”(بنكراد، 2011) ويشير، في الوقت نفسه، كي يبرهن على منطقية ما ذهب إليه إلى مسألة لعبة توظيف الصوت والصورة والمؤثرات التقنية في النص المتفرع أو التفاعلي، فيقول: “إننا نمسك في القراءة بلحظة إبداعية من خلال محدودية السياقات، التي يمكن أن يحيل عليها النص. لذلك سيكون من العبث أن يرسم الشاعر بالكلمات عوالم للفرس، ويضع أمامنا للمزيد من “الشعرية” فرسًا يصهل، أو فرسًا مصورًا أو يأتي بكل الأفراس الممكنة المنتزعة من سياقات ثقافية، تتبوأ الخيل داخلها موقعًا مميزًا. فهو في جميع الحالات يقلص من حجم التدلال، ويفرض عليه لحظة شعرية هي من انتقائه وحده، وليست عوالم يمكن أن يبدعها الشعر… إن غياب الفرس أقوى بكثير من حضوره، فالغياب استثارة ذهنية لكل الأفراس الممكنة. أما الحضور فحالة مخصوصة نرى من خلالها ما يبيحه الماثل أمام العين المبصرة وحدها”(بنكراد، 2011) فليست البراعة الفنية، وفق ما أشير، في احتمال قول كل شيء، ولا في المقابل، في الحد من المعنى المتشكل في خيال المتلقي، بفعل مؤثرات الصوت والصورة والحركة، على النحو الذي يرمي إليه النص الرقمي المتفرع والتفاعلي.

  • جماليات النصوص الرقمية

كما تم التطرق لبعض الآراء النقدية التي اتخذت موقف العدائية للنصوص الرقمية تحت مبررات أشير إليها، فإن ثمة من يرى في هذه النصوص جماليات مخبوءة تتفاوت مرجعياتها. لعلّ أحدها يراهن على أن تعود الإنسان على التعامل مع المواد المنشورة إلكترونيًّا سيرسِّخ لديه عادات جديدة: تصفحًا وقراءة وبحثًا. إلى جانب كون هذا النوع من النشر وسيلة طيّعة وسهلة تتجاوز حدود النشر الورقي، فضلاً عن أمور أخرى تتعلق بالإيجاز وجاذبية العرض، وهما خاصيتان مهمتان يتسم بهما النشر الإلكتروني. كما أن التفاعل الإيجابي والحيوي لما ينشر عبر الوسيط الإلكتروني يكسبه امتيازًا يتفوق به على جمود المطبوعة (أحمد بشارة، 2004، ص83، 84، 85).

وهناك من يتحيّز للنصوص الرقمية لأنها يراها، من وجهة نظره، الشكل الأكثر ملاءمة لإيقاع العصر “إنّ الكتابة رعب لأنها دخول في اللامعروف، في الطرق المجهولة الوعرة، والرّواية الموجودة بشكلها الحالي قد ملتها الكتابة وملّها القراء والقلوب. إنّ الرواية بشكلها الحالي قد عداها الزمن، ذلك لأنّ الزمن لم يعد نفس الزمن، والجغرافيا لم تعد نفس الجغرافيا والناس لم يعودوا نفس الناس” (محمد سناجلة، 2003، ص 35)

ويبدو أن حضور المتلقي في النص الرقمي ودوره الفاعل في إنتاج المعنى، والتحرر من سلطة المؤلف من أبرز الأسباب التي جعلت الكثير من النقاد ينحاز إلى القول بجمالية النصوص الرقمية. فإذا كان آيزر، أحد منظري فكرة التلقي، يرى أن المعنى هو نتيجة للتفاعل بين النص والقارئ، فالمعنى، وفق هذا التصور، أثر يمكن ممارسته وليس موضوعًا يمكن تحديده داخل النص (روبرت هولب، 1994، ص202)، فإن المساهمة في تشكيل هذا المعنى تتحقق في النصوص الرقمية التفاعلية بشكل أو بآخر، فهناك متعة يحصل عليها مستعمل الحاسوب “من خلال لعبة المشاركة في (قراءات) النص الإبداعي التي تتم في أحيان كثيرة بتعاون مع منتج النص الأصلي، وكذلك من خلال جلسات الحوار الجماعية التي يحررها الوسيط الإلكتروني من الشكليات والإحراجات، التي ترافق الحوار العادي. وهنا طبعًا يتحرر النص نهائيًّا من سلطة المؤلف تحقيقًا لحلم النظرية الأدبية المعاصرة، وربما برضا المؤلف نفسه، كما قد يتحرر من أي مرجعية ملموسة”(حسام الخطيب، 2001، ص 56). إذ يمكن على هذا النحو تسمية جمالية النص الرقمي “بالجماليّة السريَّة التي يشترك فيها اللون والحرف والصوت والحركة، والتقاليد الأدبية وحدود الأجناس الأدبية تختفي مع سيولة العالم الجديد، والإبداع خيال لغوي وتقني، والمبدع أديب مبرمج، والقراء جزء جوهري من عملية الإبداع وشركاء فاعلون فيها”(صالح الزهراني، 2011). فهي جمالية “كرنفالية” متعددة المصادر وتحتفي بالمتلقي إلى حد كبير.

وإذا كان منهج التلقي يشير إلى ضرورة افتراض وجود قارئ ضمني لكل نص، يمثل بذاته حالة نصيّة وعملية إنتاج للمعنى في آن معًا، وحضوره، من وجهة نظر آيزر، أمر مؤكد ومن دون الحاجة إلى الإشارة إلى وجود قراء حقيقيين أو فعليين، إذ هو راسخ في بنية النص الذي يتطلع دائمًا إلى حضور متلقٍ ما، دون تحدده بالضرورة (هولب، 1994، ص 204، 205) إذا كان الشأن كذلك، فإن “القارئ الضمني” وفق ما ذُكر، يتماس في ملامحه مع “القارئ الافتراضي” في “النص الرقمي” لاسيما النص المركب الذي يراهن على الجانب التفاعلي عبر الوسيط الإلكتروني.

  • الأدب الرقمي والمؤسسة العلمية والأدبية

استطاع الأدب الرقمي ليس، فقط، في أن يفرض جاذبيته في تحديد “الوسيط” الذي ينشر من خلاله الكاتب نصّه الأدبي، أو في تشكيل ذائقة المتلقي، والإطار الذي يستقبل من خلاله الفن بأنواعه، وفي تغيير عادات القراءة، بل تجاوزت الهيمنة إلى المؤسسات العلمية والأدبية الأخرى، التي، تلعب الدور المحوري في شرعنة العديد من الفنون والوسائط، والاعتراف بها كـ”واقع” قبل أن تكون جنسًا أدبيًّا متأصلاً، من خلال ما تعقده تلك المؤسسات من ملتقيات ومؤتمرات ومسابقات تحت مظلة “الأدب الرقمي” في شقيه البسيط والمركّب.


د. أميرة علي الزهراني
أستاذة مشاركة (السرديات الحديثة) – جامعة الأمير سلطان – الرياض

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى