بعيداً عن ثقة الناقد
من المتفق عليه أن الحياة البشرية ظلّت وستظل في تحولات وتغيرات مستمرة ولن تتوقف أبداً، كل يوم جديد هنالك اكتشافات ومسارات وآفاق ووسائل جديدة لاستيعاب حركة الحياة ومنجزاتها الآنية واليومية والدائمة والعمل الدؤوب من أجل ابتكار أدوات جديدة تساعد في تسهيل وتطوير سبل الحياة وعيشها وممارستها واختصار الصعوبات العديدة التي يواجهها الإنسان،
ومن هنا انخرط الأدب كسائر أنواع النشاط الإنساني في المنظومة الرقمية ومنجزاتها العظيمة التي ابتكرتها من حاسب آلي وهواتف ذكية وطابعات وشبكة اتصالات وشبكة عنكبوتية وغيرها بحيث صارت كل هذه المخترعات وسائط وأدوات ووسائل ومنصات تستوعب كل ما يمكن أن يخطر على بالنا من عطاء في مختلف المجالات والكاتب والأديب دائماً هو المغامر والعابر والمفتون بالتجريب من أجل أن يذهب بالأدب إلى أبعد المسارات وأجملها وأكثرها إشراقاً وما كان له أن يتقاعسَ أمام الدخول بكتابته ونصه الأدبي إلى تلك الحقول الرقمية التي اجتاحت كل شيء وأضافت له.
الأدب بطبيعته الإبداعية ومن داخل هذا التصنيف الذي يندرج تحته فهو يبحث عن الجديد والمبتكر حتى على مستوى الكتابة وبالتالي ينحاز لكل منجز إبداعي يتقاطع مع فكرة الأدب وتوفير أدوات ووسائل جديدة تُسهم في عملية الكتابة نفسها وتجعلها أكثر مرونةً وقدرة على إعادة الكتابة والتعديل والحذف واستخدام جماليات بصرية والنشر والتواصل مع المنابر المختلفة، لهذا مثَّلت هذه الفتوحات بوابة جديدة للأدب واستطاع استخدامها الكُّتاب والأدباء بما يخدم مشاريعهم الأدبية منخرطين في فضاء ما اُصطُلحَ على تسميته بالأدب الرقمي.
لا أرى أن هنالك خصائص محددة تشير إلى فروقات بين الأدب الرقمي والآدب الورقي أو المسموع وغيرها على مستوى النص المكتوب نفسه وفكرته ومحتواه الإبداعي سوى اختلاف أدوات الكتابة والتدوين وسطح الكتابة نفسه مثال ذلك شاشة بدلاً من ورقة وكذلك وسيلة النشر وخصائصها الخاصة بها كما في الفضاء الرقمي، إذ إنها أكثر تداولاً وانتشاراً وإتاحة وفي مقدور أعداد هائلة من البشر الوصول إليها بسهولة وبأقل التكاليف، هذه كلها ميزات جليلة حيث مكَّنَ الأدب الرقمي القارئ من التعاطي بيسر مع المنشور الأدبي وتخزينه وتداوله وهدم سلطة المركز الذي كان يستحوذ على كل شيء بحكم تمركز الخدمات ووسائط ومنابر النشر داخله وانزاحت هذه السلطة مع الأدب الرقمي لتغطي الهامش ويصبح الكل مركزاً، وكذلك هدم المسافات الصارمة بين المؤلف والنص والقارئ حيث إنه كثيراً ما يتحرك النص بواسطة القارئ وليس المؤلف في العديد من المواقع الرقمية وقد يعود مرة أخرى نصاً ورقياً على يدي القراء وقد يترجم إلى لغات أخرى من خلال هذه الحركة المستمرة للنشر والتداول مما جعل الأدب الرقمي واقعاً حياً وملموساً وله أفقه الكامل وصار مصدراً سهلاً ويسيراً للتداول والبحث بل هنالك كتاب ومبدعون كُثُر ظلوا يكتبون مباشرة على شاشات الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية وتخلّوا تماماً عن كتابة النصوص الأدبية ورقياً وكذلك ينشرون كامل منتوجهم الأدبي رقمياً ولا يهتمون بوسائل النشر الأخرى، مما عظم من أهمية الأدب الرقمي وجدوى الانحياز له.
على الجهة الأخرى لم يتعاطَ النقد الأدبي مع الأدب الرقمي بجدية واهتمام حيث ما زال الناقد يفضل الأدب المنشور ورقياً وجل الكتابات النقدية ما زالت تتحاشى التعاطي النقدي مع الأدب الرقمي ربما لعدم ثبات مرجعيته في كثير من الحالات وكذلك عدم الوثوق في الملكية الفكرية، وأيضاً يرى البعض أن النص الأدبي الرقمي قد يكون ما زال أقرب للمادة الخام وقابلية التعديل عليه والإضافات والحذف لم تنتهِ بعد، بمعنى أنه قد لايكون تحول إلى نص مكتمل مثلما يحدث مع نشر الأعمال الأدبية في الكتب والمجلات الورقية وغير ذلك من الحالات التي تجعل من الأدب الرقمي إلى حد ما لا يرتكز على أرض صلبة تمنح الناقد وثوقاً كي يتعاطى نقدياً مع هذا النوع من الأدب.
مع كل تلك الإيجابيات وأيضاً السلبيات التي تم التطرق والإشارة إليها يظل مستقبل الأدب الرقمي هو الأفضل والأكثر جدوى، ويظل ما حدثَ هو خطوة ضمن مسيرة التطور والإضافات المستمرة التي يقدمها الإنسان لمسيرته وحياته.