الأدب الرقميرقمنة ومعلوميات

نقد العقل الرقمي

  • ملخص

أصبحت استراتيجية الثقافة الرقمية تتخذ أبعادا متعددة غيرت الشيء الكثير في تمثلاتنا وطريقة عملنا اليومي وفي قيمنا وسلوكاتنا. بحيث اعتمدت على استراتيجية توجيه الرأي العام بمقاربة تواصلية ساعدت في سرعة الاتصال والتفاعل، باستعمال الحاسوب والهواتف الذكية و الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات متعددة.


أصبح المواطن قادرا على الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة بمختلف الأعمار. كما تم اعتماد الوسائط الرقمية للتعليم للتفاعل مع المتعلمين. هذا بالإضافة إلى القيام بالمعاملات التجارية من بيع وشراء في عالم الأعمال والخدمات والترفيه، والتي يمكن للمواطن القيام بها عن بعد.

لكن هذه الايجابيات والخدمات لا يستفيد منها الجميع، نظرا لواقع الفقر والهشاشة التي يعاني منها فئات اجتماعية عريضة. تفترض وجود سياسة رقمية عادلة وديمقراطية تنصف الجميع للاستفادة من الخدمات الرقمية في المدن والبوادي، لتجاوز واقع الإقصاء والتهميش.


لكن، بالمقابل أصبحت سلبيات التطور الرقمي تتصاعد أمام الاستعمال غير السليم لهذه التكنولوجيا. وخصوصا أمام مواطن لم يستفد بعد من الحداثة وقيمها، وتفشي الأمية المركبة، الأبجدية و التكنولوجية والرقمية  في صفوف المجتمع، حيث غياب قيم الحوار و الاختلاف والتسامح لا تزال متفشية بشكل يجعل شبكات التواصل الاجتماعي تساهم في تعميق هذه المظاهر السلبية، كالتشهير بالغير والمس بأعراض الناس وخصوصياتهم والمساهمة في نشر الأخبار الكاذبة بدون التحقق من مدى صحتها.


  • الكلمات المفتاح:

إستراتيجية ، الثقافة الرقمية ، الرأي العام ، الاتصال ، التفاعل ، الصورة ، التكنولوجيا ، الرقمنة.


  • Abstract

The digital culture strategy has come to take on multiple dimensions; it has changed a lot in our representations, the way we work daily, and in our values ​​and behaviors. So that it relied on the strategy of directing public opinion with a communicative approach that helped in the speed of communication and interaction, by using computers, smartphones, the Internet, social networking sites and multiple applications, the citizen became able to benefit from modern technology of all ages. Digital media has also been adopted for distance education to overcome the constraints of the Corona pandemic to interact with learners. This is in addition to carrying out commercial transactions such as buying and selling in the world of business, services and entertainment, which the citizen can do remotely. However, these advantages and services do not benefit everyone, given the reality of poverty and the vulnerability that broad social groups suffer from. Which assumes the existence of a fair and democratic digital policy that equates everyone to take advantage of digital services in cities and villages to overcome the reality of exclusion and marginalization.

On the other hand, the negative aspects of digital development are escalating in the face of the improper use of this technology. Especially in front of a citizen who has not yet benefited from modernity and its values and the spread of illiteracy combined alphabetically, technology and informatics in the ranks of society, where the absence of the values of dialogue, difference and tolerance are still rampant in a way that makes social networks contribute to deepening these negative aspects such as defamation of others and harm to people’s symptoms and their privacy and contribute to spreading Fake news without validation.

Key words: strategy, digital culture, public opinion, communication, interaction, image, technology, digitization.


  • مقدمة

أصبح المجتمع المعاصر يعيش تحت سيطرة وهيمنة العقل الرقمي من طرف دول و شركات رقمية عالمية تمتلك بيانات ضخمة،  هي حصيلة استعمالات مستخدمي الهواتف الذكية بتطبيقاتها المتعددة والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. هذه الشركات والدول  المتحكمة في العولمة تعمل على تخزين بيانات الجميع وإعادة استخدامها وفق مصالحها.

كما تعمل على هندسة و تشكيل المجتمع المعاصر باعتماد الهيمنة الناعمة التي أصبحت تهدد الديمقراطية وقيمها على الصعيد العالمي . ويؤكد كل من مارك دوغان وكريستوف لابي في كتابهما المشترك ” الإنسان المكشوف : الدكتاتورية الخفية للرقمية “[ ]على انبثاق ديكتاتورية رقمية من نوع جديد، تمارس سلطتها على العالم بطريقة لينة وشمولية تخدم مصالح الأوليغارشية العالمية الجديدة. الشيء الذي جعل من الإنسان كائنا مكشوفا ومبرمجا ومراقبا من طرف الشركات الرقمية العملاقة.  


فما هو العقل الرقمي ؟ وما هي  ايجابياته و سلبياته ؟ وما هي البدائل الثقافية و التربوية الملحة التي يمكن للدولة والمجتمع القيام بها، حتى يتمكن المجتمع أفرادا وجماعات من التعامل مع التدفق الهائل للمعلومات والتمييز بين المعلومات الزائفة والكاذبة والمفبركة والمعلومات التي يمكن الوثوق بها واستعمالها؟

ذلك ما سنحاول مقاربته في هذا المقال، بتناول موضوع العقل الرقمي و ثقافته  الرقمية واستراتيجيتها المتعددة في المجتمع المعاصر اعتمادا على المنهج الوصفي التحليلي مع تفكيك آليات هذه الثقافة  وعلاقتها بالقيم داخل المجتمع و إعطائها وظيفتها الحقيقية كرافعة أساسية تساهم في تنمية المواطن والنهوض بأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية. 


  • 1- الاستراتيجية التواصلية والمعرفية للعقل الرقمي

 يمكن تعريف العقل الرقمي باعتباره عقلا تكنولوجيا يستعمله الانسان لإنتاج الثقافة الرقمية كالهواتف الذكية والحواسيب وتطبيقات مختلفة و الانترنت والبرمجيات ومواقع التواصل الاجتماعي. و تتخذ استراتيجية هذه الثقافة أبعادا متعددة بحيث اعتمدت على الصورة بأبعادها الدلالية. خلقت متغيرات هائلة؛ غيرت الشيء الكثير في تمثلاتنا وطريقة عملنا اليومي وفي قيمنا وسلوكاتنا.

كما اعتمدت على استراتيجية توجيه الرأي العام بمقاربة تواصلية ساعدت في سرعة الاتصال والتفاعل،باستعمال الحاسوب والهواتف الذكية و الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات متعددة أصبح المواطن قادرا على الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة بمختلف الأعمار. كما تم اعتماد الوسائط الرقمية للتعليم و التفاعل مع المتعلمين.

وكذلك إعداد البحوث المدرسية أو الجامعية والاستفادة من الأعداد الهائلة للمراجع التي توفرها شبكة الأنترنت. هذا بالإضافة إلى القيام بالمعاملات التجارية، من بيع وشراء في عالم الأعمال والخدمات والترفيه، والتي يمكن للمواطن القيام بها عن بعد. لكن هذه الايجابيات والخدمات لا يستفيد منها الجميع، نظرا لواقع الفقر والهشاشة التي يعاني منها فئات اجتماعية عريضة، والتي تفترض وجود سياسة رقمية عادلة وديمقراطية تنصف الجميع للاستفادة من الخدمات الرقمية في المدن والبوادي لتجاوز واقع الإقصاء والتهميش.


في هذا السياق، يبقى دور الوسائط الرقمية حاسما بحيث حولت المواطن من مجرد مستقبل للمعلومات  إلى فاعل في تدبير استعمالها والتعليق عليها، بحيث يتفاعل مع الصورة والخبر إيجابا أو سلبا  و ما يحمله من خطاب. كما ينتج موقفا حسب مستواه وتكوينه و طبيعة وعيه صحيحا كان أم زائفا، في علاقته بالحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.

فأصبح االمحتوى والموضوع  الرقمي في شبكات التواصل الاجتماعي آلية العالم الافتراضي التي تساهم بشكل فعال في تشكيل الرأي العام وتوجيهه للتأثير والضغط وكذلك لممارسة النقد لواقعه الفعلي واهتماماته.


لكن، بالمقابل أصبحت سلبيات التطور الرقمي تتصاعد أمام الاستعمال غير السليم لهذه التكنولوجيا. وخصوصا أمام مواطن لم يستفد بعد من الحداثة وقيمها. وتفشي الأمية المركبة الأبجدية و التكنولوجية والرقمية  في صفوف المجتمع، حيث غياب قيم الحوار و الاختلاف والتسامح لا تزال متفشية بشكل يجعل مواقع التواصل الاجتماعي تساهم في تعميق هذه المظاهر السلبية كالتشهير بالغير والمس بأعراض الناس وخصوصياتهم والمساهمة في نشر الأخبار الكاذبة بدون التحقق من مدى صحتها.


كما أصبحت الوسائط الرقمية تسبب مشاكل كثيرة على تربية الأبناء وصحتهم الجسدية والنفسية وعلى دراستهم ، نظرا لصعوبة مراقبة وتقنين هذه التكنولوجيا، سواء من طرف الآباء والأمهات أو في فضاءات المدارس. كما ساهمت الثقافة الرقمية في تكريس العزلة وتقليص البعد الاجتماعي وإعادة إنتاج الفردانية بشكل ينعكس سلبا على ثقافة التضامن والتعاون في قضايا الحياة العامة.[]


  • 2- الاستراتيجية الاستهلاكية للعقل الرقمي

انتقد  الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز المجتمع المعاصر في كتابه ” الإنسان ذو البعد الواحد”[]، مبينا كيف استطاع التقدم الصناعي والتكنولوجي التقني من استغلال الإنسان المعاصر والسيطرة على الفرد وإخضاعه وحرمانه من حريته وسعادته التي أسس لها الفلاسفة المتنورون في عصر الأنوار.

واعتمادا على تحليل اجتماعي ونفسي يبين الكاتب كيف تعتمد الطبقات الحاكمة في الدول الرأسمالية على عقلانية مزيفة ومنقوصة. انحرفت بالعقل نحو الأحادية وخدمة مصالحها الخاصة باعتماد الوفرة في الإنتاج والاستهلاك من أجل الربح المستمر.

الشيء الذي يؤدي إلى الاستغلال  في العلاقات الاجتماعية ليصبح الإنسان مستغلا ومستلبا في المجتمع لأن الرأسمالية لا تنتج سعادته بل بالعكس تنتج شقاءه الدائم لأن كل شيء في هذا المجتمع تحول إلى بضاعة و عملية تسليع مستمرة.


 ومن بين الأسباب في ذلك، نجد الثقافة الرقمية التي تعمل على تنميط الوعي وجعله استهلاكيا وزائفا باعتماد الوسائل الرقمية و الدعاية والإشهار التي تنتج خطابا ثقافيا لفرض نوع من الاحتياجات الموجهة، عوض أن تكون نابعة من إرادة المواطن وضرورياته. كما تعمل التكنولوجيا الرقمية على تسليع الإنتاج الثقافي فيفقد الأفراد إمكانية التفكير النقدي. 


بهذا الشكل، أنتجت العولمة الرقمية مجتمعا أحاديا واستهلاكيا بثقافته وأدبه وفنه في ظل مجتمع طبقي يخضع للسيطرة والتوجيه، بعد تحويل الإنسان إلى أدوات في معادلة الإنتاج والاستهلاك. كما ينتج المجتمع الرأسمالي إنسانا مشيئا ومستغلا ومسلوب الإرادة بواسطة  الدعاية و الإشهار في الوسائط الرقمية.

وذلك بتوظيف الآلة الإيديولوجية لهذا الغرض و باستعمال الثقافة والأدب والفن وإفراغهم من وظيفتهم الإنسانية النبيلة إلى خطاب يكرس الواقع ويفرغ الإنسان من قيمه الرفيعة، كالحرية والتضامن والتعاون والتعايش. فتصبح الفردانية ضاربة جذورها في المجتمع تكرس عزلة الفرد وانطوائه الرقمي عوض تطوره وانفتاحه على المواطنة وقيمها والاشتراك مع الآخرين لمناقشة قضايا الشأن العام من منظور نقدي يقف في وجه الاستغلال وسياسة الاستلاب الرأسمالي ووعيه الزائف.


لقد عمل المجتمع الرأسمالي على تشييئ وتبضيع الثقافة الرقمية في عالم تحول فيه الفرد و المجتمع الإنساني إلى مجتمع استهلاكي. تتحدد قيمته الفردية في قدرته الاستهلاكية واندماجه في صفوف المستهلكين. فعندما تتمكن آلة الدعاية والإشهار الرقمي  من المواطن يصبح إنسانا مستلبا بشكل مضاعف، يتم استغلاله في عملية الإنتاج  والاستهلاك بشكل دائم. 


في هذا السياق، لم يعد الإنسان يكتفي بشراء الضروريات، وما يحتاجه من أجل العيش، بل تراه يكلف نفسه عناء الاقتراض المستمر، ليساير إيقاع الاستهلاك؛ في مجتمع ترسخت فيه ثقافة الخضوع، واخترقته خطابات الإشهار والدعاية بدون استعمال الفكر النقدي، لتفكيك اختلالات المجتمع والوقوف على ثغراته المتعددة، نظرا لتعميم التفاهة في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والثقافية والأدبية والفنية.[]

وتشييئ  المعرفة وتسليعها وإخضاعها لعملية العرض والطلب، وإدماجها بشكل تبعي في النسق الاقتصادي المهيمن على المجتمع المعاصر باعتباره مجتمعا رقميا.

وبالرغم من ايجابيات الرقمنة، أصبح العالم الرقمي ينتج سلبيات عديدة بحيث يجعل الإنسان يفقد تدريجيا ذوقه  وقيمه الإنسانية؛ و يستهلك نوعا من الثقافة الاستهلاكية من أدب وفن ومواد دعائية ورقمية تعمل على تكريس عزلته الاجتماعية، والحد من فعاليته الواقعية.

كما تقوم بتسطيح وعيه واهتمامه لتجعله يعيد إنتاج الواقع الاستهلاكي بشكل مستمر. هذا في الوقت الذي تعرف فيه نسبة القراءة ضعفا كبيرا تتطلب تصالحا مع  الكتاب من طرف وعينا الجمعي والفردي يبدأ من الأسرة و المدرسة ودورهما التربوي في الفضاء العمومي. 


3 – المراقبة في المجتمع الرقمي و استراتيجية توجيه الرأي العام

أصبحت الطفرة الرقمية التي يعيشها المجتمع المعاصر تسائل الجميع من مثقفين وتربويين ومختصين ومواطنين على السواء. وذلك نظرا لما آلت إليه أوضاع الإنسان من مراقبة وهشاشة نفسية واجتماعية وثقافية في عالم يعرف أزمة اقتصادية واجتماعية ووبائية. فالإنسان يعيش مراقبا أكثر من أي وقت مضى في حياته اليومية بحكم استفادته من التكنولوجيا الرقمية واستعمالها.

هذه الأخيرة ونظرا للتطور التقني الهائل، أصبحت قادرة على ضبط الجميع  والوصول إلى المحتويات والمضامين انطلاقا من الهواتف الذكية والحواسيب وتطبيقاتها وبرمجياتها المتطورة. 

كما تقوم المواقع الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي والشركات باستغلال معطيات المشاركين والزبناء وتصنيفهم حسب اهتماماتهم  و ميولاتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، واستغلال هذه المعطيات لتوجيه مواد ومضامين اشهارية ودعائية بغرض الاستهلاك الاقتصادي و التوجيه الثقافي أو السياسي.

وبذلك تقوم الوسائط الرقمية باختيار ونشر المضامين الاستهلاكية الرقمية وبخلفيتها الثقافية والإيديولوجية المضمرة، وبتنوعها الفكري والأدبي و الفني من أجل إنتاج وإعادة إنتاج النسق الثقافي والسياسي[].

وذلك اعتمادا على توجبه الرأي العام نحو الأهداف والاستراتيجيات للشركات الكبرى بما فيها شركات التواصل الاجتماعي والرقمي. 

وإذا كان العقل الرقمي قد أنتج ثقافة رقمية لها ايجابيات عديدة ومتنوعة تفيد الإنسان في حياته اليومية والعملية، فإن إقبال المواطن على هذه الوسائط الرقمية واستعمالها بشكل مكثف عبر نشر وتقاسم معطياته الشخصية وخصوصياته الذاتية، تجعله في متناول هذه التكنولوجيا من حيث الرصد والمراقبة سواء كان واعيا أم لا بذلك.


 بالمقابل، تؤدي هذه الوسائط الرقمية بالإنسان إلى ممارسة نوع من الرقابة الذاتية للتحكم في تدبير استعمالات الثقافة الرقمية. الشيء الذي يفقده حريته أمام هذه التكنولوجيا وعالمها الرقمي عندما لم يعد متحكما فيها، وفق إرادته وتجويد استعمالها بطريقة سليمة. تتيح له إمكانية الاستفادة من إيجابيات هذه الثقافة بمجالاتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية أو خدمات تتعلق بالعمل و التسوق والترفيه. 

لقد أصبح الإنسان مراقبا في جميع جزئيات حياته اليومية واتصالاته وما يتقاسمه مع الآخرين داخل المجتمع واقعيا ورقميا. كما أصبح المجتمع الرقمي يتميز أيضا بالهشاشة الثقافية. وترجع أسبابها إلى الأمية والجهل والتخلف و لطابعها الاستهلاكي والسطحي الذي لا يهتم بجودة المضامين والمحتويات الرقمية، بحيث يهيمن عليها النسق الثقافي النيوليبرالي وما ينتجه من تفاهة.

هذا الأخير يهدف إلى إنتاج وإعادة إنتاج وجوده وقيمه الليبرالية مع إعطاء الأسبقية لكل ما هو فردي من أجل الربح في معادلة قانون السوق والعرض والطلب وتشجيع ثقافة الاستهلاك. انعكس سلبا على المجتمع وخلق وضعا هشا أكثر ما كان عليه سابقا.


في هذا السياق، يرى الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس في كتابه “العلم والتقنية كايديولوجيا”[] أن المجتمع المعاصر بنزعته التقنية والتكنولوجية قد أصبح مستلبا، بحيث أصبحت هذه التكنولوجيا تمارس سلطتها على حياة الإنسان. وذلك يرجع إلى العقل الأداتي البورجوازي الذي جعل من الإنسان كائنا معزولا عن واقعه وقضاياه في المجتمع الرأسمالي.

هذا الوضع ازداد تفاقما في ظل جائحة كورونا، بحيث فقد الإنسان، على إثرها، بعده الاجتماعي المتمثل في التواصل المباشر وتبادل الزيارات وحضور الأنشطة الثقافية والمشاركة فيها. كما أثرت على بعده التضامني والاهتمام بالشأن العام.


 كما يعمل العقل الرقمي على خلق الشعور بالاغتراب حين يقلص من حرية الإنسان في المجتمع الرقمي، بشكل كبير، ويجعل خصوصياته الشخصية في متناول العالم بإرادته أو بدونها، حين يستعمل المنصات الرقمية بالرغم من ايجابيات العالم الرقمي وثقافته المتعددة والغنية.

وإذا كان الإنسان المعاصر قد حقق طفرة رقمية هائلة، فان التكنولوجيا المتطورة تمارس بدورها ديكتاتوريتها عليه ليصبح ضحية لها، حين أصبح شبه عاجز عن التحكم في سيرورتها المركبة وما تفرزه من سلبيات جعلته يفقد إرادته بأبعادها النفسية والاجتماعية.[]


  • 4– بدائل من أجل ثقافة رقمية هادفة ومسؤولة

تتطلب الثورة الرقمية وما أحدثته من تطور، تصورا واضحا لآليات المعالجة سواء من الدولة أو المجتمع في إطار قانوني  يحترم حرية التعبير للمواطن،  وبدون المس بهذا الحق الكوني و الدستوري الذي يعد من الحريات الأساسية التي تشكل أسس المواطنة و قيمها  التي تنظم الحقوق والواجبات.

هذا بالإضافة إلى البحث عن معالجة ثقافية  في التعاطي مع هذا التطور الهائل في المجال التكنولوجي والتواصلي، وأن لا يقتصر الأمر على المقاربة الأمنية فقط. فالمقاربة الثقافية بأبعادها الديمقراطية والعقلانية التي تساهم في تنوير المجتمع قادرة على الحد من انتشار التفاهة والرداءة والشعبوية واستفحال الظواهر السلبية والتجاوزات في المجال الرقمي .[]


إن المقاربة  الثقافية الهادفة والمسؤولة من شأنها إعادة بناء الثقافة الرقمية بشكل إيجابي وفعال، كامتداد لثقافة المواطنة وقيمها التي تنصف الإنسان وتصون كرامته في جميع المجالات. وهذا يفترض القبول بحتمية التغيير البناء كضرورة العصر ومتطلباته والأخذ بأسباب التقدم وبسيادة مجتمع العلم والمعرفة المبني على سلطة العقل للحد من واقع الفوضى الرقمية التي نعيشها مع احترام المواطن وحقه في حرية التعبير.

لذلك، فالفاعل الثقافي الواقعي والرقمي مطالب بأدوار تربوية وثقافية و إستراتيجية مهمة، للنهوض بالثقافة الرقمية التي تساهم في إنتاج المواطن الصالح الذي يساهم في بناء مجتمعه بشكل مسؤول. وذلك وفق استراتيجية محددة تهدف إلى تحقيق التطور والتقدم و ترسيخ قيم المواطنة و الديمقراطية و حقوق الإنسان و الإسلام المتنور، لبناء المواطن الصالح والمتصالح  مع ماضيه وحداثته.

ويساهم في نشر ثقافة رقمية قوامها ترسيخ ثقافة الاختلاف والتعدد والاعتراف والتضامن والعيش المشترك، في مجتمع ينصف الجميع ويحصنه من الإقصاء والتهميش والقمع الرمزي والمادي. كما تفترض متطلبات العصر تنمية  شاملة وحقيقية في المدن والبوادي لمسايرة المتغيرات التكنولوجية و الطفرة الرقمية التي يشهدها العالم.


وهذا لا يمكنه أن يتحقق إلا من منظور تصور ديمقراطي جديد للثقافة الرقمية يؤسس لبناء مجتمع رقمي عادل، مجتمع العلم والمعرفة و التواصل، بمضمون تنموي يساهم في بناء المستقبل وتحدياته المركبة.

إن ثقافة الصورة الرقمية أصبحت تفرز قيم وظواهر و سلوكات إيجابية وسلبية في نفس الوقت. هذا الواقع يفرض القيام بمجهودات تربوية وثقافية جبارة للنهوض بالتربية الرقمية المندمجة مع العملية التربوية التي تقوم بها المدرسة العمومية.

هذه الأخيرة تتطلب بدورها تحديثا ودعما ماديا؛ يجعلها النواة الصلبة للمجتمع. تعيد تشكيل الوعي المجتمعي بقيمه وثقافته ، يؤسس لمجتمع  متصالح مع ذاته ومع حداثته ويتجه نحو المستقبل بخطى واثقة لبناء مجتمع حداثي  يؤمن بالتعدد والاختلاف والتضامن لمواجهة كل التحديات ومن بينها بناء ثقافة رقمية ديمقراطية وعادلة تستفيد منها جميع الفئات الاجتماعية.


  • خاتمة

إن الفائض في إنتاج واستهلاك المعلومة والمعرفة الرقمية التي يوفرهما العقل الرقمي يجعل المتلقي أو المستهلك يعيش في فوضى العالم الافتراضي. تتطلب منه امتلاك الفكر النقدي لتفكيك ما يشاهده وما يقرأه من مواد ومضامين حتى يستفيد ايجابيا من هذه الوسائط والمنصات.

ويحسن استعمالها، ليس لأنه مراقبا فقط، ولكن تأسيسا لمواطنة واقعية ورقمية توفر قيما ثقافية تصون للإنسان كرامته وحريته من الاستلاب. وتكون مدخلا لعقلنة الاستفادة من الثورة التكنولوجية ووساثطها  الرقمية  المتعددة حفاظا على حرية الإنسان وحقه في التعبير والمعلومة الصحيحة، في مجتمع يطمح إلى العلم والمعرفة والتنمية.


  •  المراجع :

1-                Gilles Lipovetsky. L’ére du vide. Essais sur l’individualisme  contemporain.       Gallimard. 1983                                                                                                                      

2 – هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، الطبعة الثالثة، بيروت. 1988 .

3-              Marc Dugain. Christophe Labbé. L’ homme nu. La dictature invisible numérique. Plon. 2016.

Alain Deneaut. (2015). La médiocratie. Montréal. Lux Editeur. Canada.                               – 4

5- عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، الدار 

     البيضاء، المغرب، 2005.

6- يورغن هابرماس، العلم والتقنية كايديولوجيا، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا، 

ألمانيا.2003.      

7-      Marc Dugain. Christophe Labbé. L’ homme nu. La dictature invisible numérique. Plon.-

8-     Eric Maigret. Sociologie de la communication et des médias. Armand Colin, 2015. Paris. 

France.

المصطفى رياني

المصطفى رياني: أستاذ باحث، حاصل على الدكتوراه في الترجمة القانونية من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى