رياضة

من جديد .. العالم العربي تحث المجهر

إن تنظيم “قطر” لمونديال كرة القدم، اللعبة الأكثر جماهيرية على الإطلاق، و وصول “المنتخب المغربي” إلى النصف النهائي، جعل العالم العربي، من جديد، تحث مجهر الإعلام الغربي، بعد مرور عقد كامل على أحداث ونكسة ما سمي ب ” الربيع العربي”.


حيث كانت لهذا الإعلام صولات و  جولات، و فرصة ذهبية لوضع العالم العربي تحت مجهر النقد والتشويه لنشر استيهاماته حول الصورة النمطية للعربي والمسلم، باعتباره ينتمي إلى ثقافة خارج العصر الحديث، ولا يمكن لها أن تستوعب قيم الديمقراطية والعقلانية  و العدالة والحرية.


لأنها مجرد ثقافة دالة على ماضي الإنسانية الغريب و “العجائبي”، إذ تكمن قيمتها في كونها أصبحت ترمز فقط  إلى ثقافة فلكلورية فرجوية، ولم تعد بإمكانها أن تقول شيئا للتاريخ و تحافظ، في نفس الوقت، على ثقافة أصلية.


لكن هذا الإنجاز التنظيمي المبهر و الكروي المتألق في محفل عالمي، كنهائيات كأس العالم، من طرف دولتين تنتميان إلى ” العالم العربي”، وضع تلك الصورة النمطية الدعائية في مأزق أمام الجميع، إذ لم يعد العربي في الإعلام الغربي ذلك الكائن الحامل للحزام الناسف، و المسكون بالقدرية و الطاعة، و اللاعقلانية و الجنسانية ووو…، أي كل الصفات التي اعتاد “الغرب” أن  يلصقها ب “الشرق”، و هو ما سبق أن سماه المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” ب ” مشرقة الشرق”.


قد يقال إن كرة القدم مجرد لعبة، لكن اللذين يعرفونها جيدا يدركون أنها أشمل من ذلك بكثير، فقد كتب يوما أديب إنجليزي  قائلا: “من يقول عن كرة القدم مجرد كرة من الجلد، يركض خلفها إثنان و عشرون رجلا، كمن يقول عن شكسبير مجرد حبر و ورق”.

ولذلك فالتفوق الكروي تنظيميا على المستوى التدبيري، و تكتيكيا على المستوى الميداني، سيكون له بطبيعة الحال امتدادات وتداعيات أخرى “غير كروية”، و لذلك لاحظنا سريعا أن تلك الصورة الاستشراقية التنميطية لم تعد، في التقارير الصحفية الغربية، قابلة للتسويق الإعلامي السهل و السريع،

بل شاهد العالم كيف أن العرب مثل غيرهم قادرون على التألق والبحث عن التتويج، سواء على المستوى التنظيمي أو على أرضية  اللعب في الميدان، كل ذلك تمّ في استحقاق و منافسة عالمية تطلبت الكثير من قيم التخطيط و التنظيم العقلاني، من المثابرة الفردية و الفعالية الجماعية.

من التكتيك الواقعي و القدرة التنافسية، وهي قيم رُوِّج طويلا أنها تنتمي حصرا إلى الثقافة الغربية، كما كان يكرر باستمرار الإعلام المذكور على مسامعنا وما يزال، و يعتبرها أوروبية المنشأ والروح،

ولا يمكن استعارتها إلا بالذوبان ضمن منظومة قيَّمه، إذ لم يتوقع أن تتوفر هذه القيم في غيرهم، و تتجسد في من ينتمي، في نظره، إلى ثقافة خرجت من التاريخ، كما كان يدعي باستمرار. لذلك لم يستسغ هذا الإعلام، و معه الجمهور الأوروبي، كثيرا أن تبدع قطر تنظيميا و تُذهل، وتحافظ في نفس الوقت على خصوصية الشخصية العربية-الإسلامية، رغم الضغوط الشديدة  و الهجوم الإعلامي الشرس.

 لم يتوقع أيضا هذا الإعلام الاستعلائي/ الدعائي أن يزيح المغرب من هذه المنافسة العالمية ثلاث مدارس كروية أوروبية كبرى دفعة واحدة، و ذلك في مباريات متسلسلة لا مكان فيها للصدفة، إذ تطلبت من المدرب المغربي تكتيكا واقعيا وعقلانيا صارما، ومن الطاقم التقني فعالية إنجازية وفق منظومة احترافية تحلل وتجمع المعطيات والبيانات التقنية والبدنية والسلوكية للمنافسين.

وتطلبت كذلك من اللاعبين مثابرة فردية و انضباطا جماعيا للفريق. و مع ذلك ما زال هذا الإعلام الغربي يُروِّج و يقول: “إن قطر نجحت تنظيميا في المونديال، لكن الأمر مجرد ” غسيل رياضي” لتخلف ثقافي، ولا غرابة أن تعنون بعض الصحف صفحتها الأولى ب ” مونديال الكراهية” وتهاجم رئيس “الفيفا”، لأنه كان عليه ” أن يكون مهتما أكثر بحقوق الإنسان و ملتزما بالقضايا الإنسانية”.

كذلك الأمر بالنسبة للمغرب، فحتى وإن كان قد حقق، بالفعل، إنجازا كرويا تاريخيا، لكنه، حسب الإعلام المذكور، يلعب “كرة قدم تقليدية”، بل الأكثر من هذا فقد ذهب بعيدا في تأويلاته لصور فرحة الأمهات بأبنائهم، التي تحولت إلى أيقونات عالمية، بالقول أنه خلف تلك الصور، التي نشرها اللاعبون المغاربة، عن ثقافة “تقديس الامهات” يوجد هضم كامل لحقوق النساء وتعسف يومي على حريات الزوجات و الأبناء. 

لاشك أن نعت العرب والمسلمين ب “برابرة اليوم” كان جاريا في الأوساط الأكاديمية قبل أن يستعمل الكلمة بعض الساسة و بعض الإعلاميين، ولذلك فالمتتبع للإعلام التلفزي، اليميني خاصة، يلاحظ بسهولة كيف أنه لا يهتم كثيرا بالإنجاز الرياضي المغربي و لا بالنجاح التنظيمي القطري، باعتبارهما ناتجين عن تخطيط دقيق و عقلاني.

و تنفيذ متقن و فعال من طرف كل من المسؤولين عن التدبير التنظيمي في قطر، و المسؤولين عن التأطير الرياضي في المغرب،

بل لا يركز هذا الإعلام، طيلة أيام المونديال، سوى على غياب التسامح داخل الدول ذات الأغلبية المسلمة، من خلال التركيز على المثلية وعلى ما يسمونه “ثقافة الشرب” و “القيمة الرمزية للكحول”، التي تستخدم عادة لتمييز الغرب عن البلدان الإسلامية، وذلك بهدف “تقطير الشمع” على رئيس الفيفا باعتبارها جاحدا لقيم أوروبية حديثة كالانفتاح و الحرية والعدالة… 

أما حصة الهجوم على المغاربة، فقد كانت من خلال تركيز كاميراتهم على الإنفلاتات الأمنية في الشوارع الأوروبية لجمهور المهاجرين العرب وللمسلمين، اللذين يتهمونهم باستغلال مثل هذه المناسبات للعودة إلى هويتهم المفضلة: “إتلاف ما ليس لهم”، وذلك دون أية إشارة إلى كونها ظاهرة عامة تخترق كل الثقافات و الهويات.

ألم يتساءل الايطاليون، في مناسبة كروية، بعد أعمال شغب ل “الهوليغانز الإنجليز”: “أهذا هو الشعب الذي ادّعى أن القدر اختاره ليقود البشرية و يحكم المعمورة، والذي طالما رمانا بالجهل و الكسل و القذارة ؟” .

استدعت محطة تليفزيونية باحثا، مختصا في العنف الاجتماعي، لشرح أسباب ذلك الشغب الانجليزي فتاه في التأويلات قبل أن يختم مبرراً: “إن العقل عاجز أمام هذه الأحداث”. فجأة أصبح هذا العقل الغربي عاجزاً عن التفسير، خاصة عندما يواجه في مرآته بعض مظاهره اللاعقلانية.

أما في حالة العرب فالمنظور “الاستشراقي” التعميمي جاهز: ” هذه المنطقة غير حضارية و لا تستحق تنظيم حدث عالمي، فكأس العالم له أصول أوروبية و يحمل قِيَّمه في ذاته لا يمكن تجاوزها”،

لكن الحقيقة التي أفرزها “مونديال قطر” و روّجها على نطاق واسع هي  أن العرب أظهروا للعالم قدرتهم على استضافة البطولات الرياضية الكبرى و توفير البنيات التحتية اللازمة، وأن كرة القدم رياضة عالمية تتجاوز أوروبا و أمريكا الجنوبية، قد تمتلك الفيفا العلامة التجارية، لكن الإرث اصبح الآن عالميا  و يخص الجميع، ولقد نجح العرب، من خلال قطر والمغرب، في وضع بصمتهم عليه تنظيما ولعبا وجمهوراً…


الآراء والأفكار الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتِبها فقط

حسن زهير

كاتب وباحث من المغرب؛ أستاذ مادة الفلسفة، حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة في شعبة الفلسفة، تخصص: "فضاءات الفكر في الحضارة العربية الإسلامية" من جامعة محمد الخامس بالرباط. كاتب مقالات حول علاقة الفكر بالسياسة، والثقافة بالمجتمع في المجلات والمواقع الإلكترونية و الصحف المكتوبة والمنصات الرقمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى