جمهور كرة القدم وجماهيريتها
كلما ثم الحديث عن جمهور كرة القدم إلا و تذكرنا مفهوم “تأثير الحشد” أو “سيكولوجية الجماهير”، ( غ. لوبون، س. فرويد ، ك. يونغ…)، هذا المفهوم الذي يعتبر أن الفرد يصير أقل تعقلا وسط الجماعة، وقد يُقدِم على أفعال لا يستطيع الإقدام عليها لوحده، ذلك أن “سلوك الحشد” لا يقتصر على المواقف السياسية في المظاهرات العشوائية وغير المنظمة.
بل هناك من يرى أن الأمر يتعدى ذلك، فقد يظهر هذا السلوك أيضا أثناء مباراة في كرة القدم، عندما تندفع الجماهير في حماس طاغ نحو تأييد فريق معين أو الغضب من قرار الحكم فينفلت عقالها و تندفع في خطورة بلا ضابط أو رادع.
لكن بالمقابل، نلاحظ بوضوح أيضا أن جمهور كرة القدم ليس جماعة متجانسة، لأن الملاعب أصبحت من الأماكن القليلة و النادرة التي نرى فيها إعادة إنتاج المجتمع بكل تناقضاته الإجتماعية، كما يتجلى ذلك من خلال الاختلافات الواضحة في أثمنة كل منطقة من مناطق المدرجات.
بالإضافة إلى التباينات العمرية لفئات المشجعين، كما بينت ذلك الدراسات الميدانية التي وجدت أن سقف أعمار “الإلتراس” مثلا يتراوح بين 16 و26 سنة، و سقف “المشجعين النشيطين” بين الثلاثينات و الأربعينات، أما “المتفرجين التقليديين” فتصل أعمارهم إلى حدود الستينات فما فوق.
ولذلك فلا يمكن أن ندّعي بسهولة أن كل هذه الجماهير المتباينة، ذهنيا و سلوكيا و عمريا هي تحت تأثير مفهوم “الحشد”، بمعناه في علم النفس الاجتماعي، رغم بعض الخصائص الإنفعالية النفسية للجمهور الرياضي، و التي قد تبدو مظهريا متشابهة.
هذا الأمر يجعل من هذا “النموذج التفسيري” لكرة القدم متجاوزا، لأن اللعبة اليوم أصبحت شديد التعقيد، نظرا لتداخل حقول متعددة: رياضة، إعلامية، اقتصادية، قانونية، ثقافية، سياسية و “سيكوسوسيولوجية”؛ الأمر الذي يتطلب بلورة مناهج و تخصصات متداخلة لدراسة هذه الرياضة و آثارها في المجتمعات المعاصرة،
ومع ذلك فإن الصعوبة الحقيقية تكمن في أن هذه الحقول المختلفة لا يمكن فهمها بشكل منفصل، لأنها تتشابك مع بعضها البعض، إذ لايمكن، على سبيل المثال، البحث في تاريخ اللعبة ذاتها دون دراسة تاريخ جمهورها و جماهيريتها، فاختراع البطاقتين الصفراء و الحمراء مثلا كان يهدف إلى ضبط اللاعبين و توسيع قاعدة الجمهور.
وكذلك فإن الرغبة في تجنب كثرة التعادلات لجعل اللعبة أكثر إثارة للاهتمام ، وبالتالي استقطاب جمهور أكبر، هو الذي كان وراء تعديل قانون التسلل سنة 1925، و دخول كرة القدم عالم الاحتراف أدى إلى تعديل اللوائح التقنية من أجل حماية أرجل اللاعبين و سلامتهم البدنية.
وهكذا دواليك إلى وصلنا إلى أكبر عملية تدويل لكرة القدم من خلال البث التلفزي وتنظيم المنافسات القارية و العالمية ابتداء من كأس العالم سنة 1930، و بالتالي ظهور فكرة تشكيل المنتخبات الوطنية التي أفرزت شحنة رمزية جديدة، ناتجة عن التسييس المفرط، تجاوزت النوادي المحلية.
إذ ارتبط فيها النجاح الرياضي بالنموذج السياسي لأمة معينة ليظهر الإنتماء الوطني ملموسا من خلال “فريق كروي”، يرمز إلى التكامل بين كل مكونات الأمة الواحدة و معبرا عن شخصية جماعية يدرك فيها المجتمع نفسه في أذهان جماهيره.
هكذا إذن شاهدنا، بالتدريج، كيف أدت هذه التطورات المرافقة لمسار كرة القدم، و كذا التعديلات القانونية المتغيرة باستمرار، إلى تجويد قواعد الكرة المستديرة و جعلها اللعبة الأكثر جماهيرية في عالمنا المعاصر من كل الأعمار و الثقافات و الأعراق و الأديان.