نقد

التاريخ حكاية سردية

   يصح قولنا إن قلنا أننا لا نستطيع العيش بلا سرد، فهو قديم قدم الإنسان الذي احتاج دوما للفهم والتواصل مع ذاته وعالمه، وقد يشق قليلا البحث عن ما يمكن اعتباره مادة سردية خالصة بقلب كتاب تاريخي، هذا إن لم نعتبره كليا نوعا خاصا من السرد، إذ أن التاريخ نفسه أو حكاية السقوط في الزمن كما سماه “سيوران” عبارة عن أحداث حاصلة، تختلف طرق سردها وزوياه وتثوي خيوطا من سرديات متعددة ومختلفة بل وترتكز عليها.


يعد التاريخ علما خاصا، يبذل أقصى الجهد لإعادة تسلسل الأحداث كما وقعت، كما أن الغاية من الكتابة التاريخية هي الوقوف على تفاصيل الصيرورة، ورسم معالم التطور على تنوعها وتداخلها وتناسبها، واستحضار الماضي بكل ما اتصفت به الأوضاع.[1] وبينما يركز التاريخ على تواريخ قصصه وأحداثها البارزة، ينشأ السرد بين مفاصله ليلين حركته وليسهل إنتاجه على شكل خطاب، فيتشكل هذا التجلي الخطابي من توالي أحداث مترابطة، تحكمها علاقات متداخلة بين مختلف مكوناتها وعناصرها.[2]


يعتبر الكثيرون التاريخ علما قائما بذاته، يملك قوانينه وأسانيده الخاصة، ويتجرأ غيرهم باعتباره سردا لكن من نوع خاص، الأمر الذي يجعله أحيانا يدنو من الحقيقة، وأحيانا أخرى من الحكايات، بدعوى أنه معرض على الدوام لرياح الايدولوجيا  والأهواء الذاتية، مما يعدم مفهوم الحقيقة التاريخية ويضيء زاوية الاختيار لدى المؤرخ.


  • اختيار المؤرخ/المؤلف :

   يعتبر السرد من المصطلحات المشتركة والعابرة للأدب ومختلف العلوم الإنسانية، والتي نجد التاريخ يندرج ضمنها، فهو كما ذكرنا سابقا يتأسس على سرد الأحداث واستحضار الماضي لغويا، أي أنه عملية تخطيب للحاصل.  ويرتبط شكل السرد ارتباطا وثيقا بالزمن والحدث، لأنهما ما يكسبه معناه وشكله، سواء شكله المتقطع الذي يعتمد فوضى الأحداث، أو شكله التناوبي الذي تتناوب فيه الحكايات المختلفة في الظهور، أو شكله التسلسلي الذي يميل لأن يظهره طبيعيا وسلسا.

تبلورت مفاهيم السرد في ظل تكاثر التراكم المعرفي النقدي وغيره، وتم تصنيف عدة وظائف له                والكشف عنه من خلالها، ونذكر منها: الوظيفة التعبيرية والوظيفة الإيديولوجية والوظيفة الانطباعية… وغيرها، ثم الوظيفة الاستشهادية التي تعنينا هنا، والتي تخول للسارد تضمين سرده بسرد غيره، كمصدر أو كإثبات وتقوية، وبهذا فقد تحوي الوظيفة الاستشهادية وظيفة إيديولوجية غير معلنة. والسؤال الذي يطرق أذهاننا منذ البداية هو: ما مدى براءة الاستشهاد كوظيفة سردية من ذاتية المؤرخ ؟ 

يعتبر إدراج نص (كاستشهاد) وإهمال آخر مجالا حرا للاختيار، كما أن إدراج النص أو عدم إدراجه يخضع للاختيار نفسه كذلك، فالمؤرخ لما يكون بصدد سرد حكاية التاريخ الطويلة والمتراكبة، لابد له من الوقوف على الكثير من المصادر لاستخلاص الاستشهادات منها، كما أن انتقاء المصادر التي تدعم أو تعارض توجهه أو طرق استعمالها يبقى مجالا مفتوحا على ذاتيته وتوجهه.

وبهذا فالحقائق المسماة بالحقائق الأساسية والتي تكون متماثلة بالنسبة لجميع المؤرخين، تنتمي بصورة عامة إلى فئة المواد الخام بالنسبة للمؤرخ لا إلى التاريخ ذاته، فالتاريخ يتكون من مجموعة من الحقائق المؤكدة والمتوفرة من خلال الوثائق والنقوش و غيرها، ويقوم المؤرخ بجمعها واصطحابها معه إلى منزله حيث يقوم بطبخها ومن ثم تقديمها في أسلوب يروق له.[3]   

لا يمكن نفي  مصداقية مصادر المؤرخ، غير أنها لا يمكن أن تملك حقائق بحتة، كما أنها قد لا تصل إلينا  كما هي بصورة حقة، وهنا يتجلى الخيط الرابط بين الأدب والتاريخ، باعتبار المؤرخ ساردا يبني الخطاب السردي ويشكله ويندرج ضمنه كأحد عناصر الوضع السردي، و يقع بالضرورة على المستوى القصصي نفسه.[4]

ويصير هذا الأمر جليا من خلال دراسة اختيارات النصوص وانتقاءات المؤرخ الناتجة على ضوئها، والتركيز على النتيجة المتحصلة لمؤرخين أو أكثر، الأمر الذي يوذن بأن التاريخ يرجح كفة كونه فنا لأنه كعلم لا يدرك الحياة كما تجري في الواقع، والنتيجة لهذا هي الرؤية الجمالية، فهو كالروايات التاريخية التي تكون شبيهة بالإنتاج الفني أو بتصوير الإنسان أو الطبيعة. ويتغير هذا التصوير تبعا للمسافة الفاصلة والمنظور والتقنية المستخدمة وكذا الاختيار.[5]

ونتيجة لذلك فمن الطبيعي القول بأن الدراسات التاريخية تعج بالكثير من النصوص المدرجة على مختلف الألسنة، والمخطوطات والتقارير والمقتطفات التي غالبا ما تكون مؤيدة لما يجيء به المؤرخ وداعمة لتوجهه. و التاريخ سواء أ كان تاريخ زمن ما، أو تطور ما.. فإنه يظل تاريخ مجموع،  لكن إذا تعلق الأمر بشخص ما فنحن لا نتصرف إلا بمعلومات جزئية، ولما كان المؤرخ مرغما على إعادة بناء الجملة فإنه يقدم أو يعرض كائنات أرق حاشية وأكثر نمذجة، وأقل تلوينا من أولئك الذين ندركهم مباشرة ونحن نعرف ماذا فعلوا والوظيفة التي قاموا بها، وبما انتسبوا إلى زمانهم، و لكننا لا نعرف ما إذا كانوا هم جوهريا.[6].

لذا فسيكون من الجميل الاستمتاع باعتبارهم مجرد شخصيات سردية، تم تلوينها بما شاء لها السارد من لون. وهنا بالذات نكون قد وضعنا العين على ما يمكن أن نسميه اختيار المؤلف/السارد(المؤرخ).


 ريمون ارون ، فلسفة التاريخ النقدية، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق،1999، ص173و 176[1]

 سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، الطبعة3، بيروت 1997،ص 46[2]

 إدوارد كار، ماهو التاريخ، ترجمة وتحقيق ماهر كيالي وبيار عقل، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، الطبعة3، ص25و 30[3]

جيرار جنيت، خطاب الحكاية، ترجمة محمد معتصم و عمر حلى و عبد الجليل الأزدي، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة2، 1997، ص268  [4]

 ريمون ارون ، فلسفة التاريخ النقدية، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق،1999، ص204 بتصرف[5]

 ريمون ارون ، فلسفة التاريخ النقدية، ترجمة حافظ الجمالي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق،1999، ص191[6].

مريم فرح

طالبة باحثة في سلك الدكتوراه؛ تخصص: "النقد الأدبي"، جامعة مولاي إسماعيل مدينة مكناس / المغرب. مهتمة بالمطالعة والتأليف، وطرح نوع من التساؤلات التي تجعلنا لا نُسلم بما هو متعارف عليه، بل نفكر ونعيد النظر في كثير من المفاهيم وأمور الحياة ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى