نقد

ذكرياتي الطفولية مع عيد العمال.

 

كانت ولا تزال بداية شهر ماي. أقصد الفاتح منه مناسبة كبيرة. يحتفل خلالها العمال بعيدهم العالمي. كانت بالفعل مناسبة مميزة بالنسبة لي، أنتظرها بكل شغف. تكرراها كل سنة لم يفقدها زخمها وقوة تأثيرها على نفسي. اعتادت أمي أن تأخذني معها ذلك اليوم إلى مقر النقابة التي تنخرط فيها .. في الصباح الباكر تحممني ثم تغير ملابسي. تحرص على أن أكون في أبهى صورة ممكنة، تختار لي أجمل ما أملك ملابس، تضمخني بالعطر، ثم نغادر البيت، نتوجه نحو باب معمل تلفيف البرتقال.

نقف هناك في انتظار أن يلتحق بنا باقي العمال الذين أكثرهم نساء. لأن الرجال يقتصر دورهم في الإشراف على العمل أو نقل بعض الحمولات الثقيلة، لذا فعددهم محدود، عكس النساء اللواتي يقمن بكل العمل الأساسي تقريبا .. تباعا تحضر العاملات يرافقهن أبناؤهن وبناتهن، وقد تزيوا بأزهى الملابس وأجملها، نتحلق هناك في أعداد تزداد تدريجيا مع مرور الوقت. تصل الحافلة، تبتلعنا في جوفها الهائل وسط تعليقات النساء الضاجة محاولات أن يخلقن جوا حميما ، يعد امتدادا للعمل الذي يحيين في كنفه باستمرار.. حافلتنا خاصة بالنساء والأطفال. فيما يركب الرجال حافلتهم الخاصة. يرتفع الصخب وسط الهيكل المعدني الضخم. وما إن تتحرك الحافلة حتى يتسيد الصمت للحظات وكأن الجميع أخذ بالمفاجأة، مفاجأة تحرك الحافلة بعد أن استبطؤوها، وظنوا أنها لن تتحرك أبدا. حين يستقر لهاث الحافلة تدب الحياة في جوفها من جديد. تنطلق التعاليق الساخرة، وترتفع قهقهات النساء متجاوبة معها.أغلب التعاليق ينصب على المشرفين على العمل ومناديب العمل، بعد أن تأكدت النساء من تواطؤهم المفضوح مع المشرفين على العمل .

كن يضحكن بُعيد كل تعليق مهما بدا غير مهم. فهن وحدهن يعرفن حق المعرفة ما يتحدثن به. لهن رموزهن الخاصة التي لا يفهمها غيرهن. تكفي إيماءة لتهتز الحافلة بالضحك، وسط استغرابنا نحن الصغار المأخوذين بهذا الجو غير المألوف. كن يحفلن بنا نحن الصغار بشكل مبالغ فيه، حتى أن كل منهن تحرص على إمطارنا بالكلمات المحتفية الجميلة، تلك التي تحدثنا بها أمهاتنا حين نكون في البيت. كنت أنال قسطا كبيرا من العناق والتقبيل والتعاليق المحتفية، ربما تفوقي في دراستي هو السبب في ذلك. لأنهن كن يشرن إلى ذلك كثيرا في كلامهن. كل ذلك كان يرسخ في ذهني أنني حقا أجمل طفل في العالم. لم أكن أحفل بكون أمي تقوم بنفس الشيء تجاه الأطفال الآخرين المرافقين لأمهاتهم، فقط كنت أشعر بأنني مميز بشكل ما.

تصل الحافلة إلى مركز المدينة، فنجد المكان غاصا بالعمال والعاملات، يتزينون بأزياء مختلفة، تشي بنوع العمل الذي يمتهنونه … ينتظمون في مجموعات بارزة، يحملون لافتات، أجهد الذهن في قراءة العبارات المخطوطة عليها. أقرأ بعضها ويستغلق علي بعضها الآخر .. الباعة المتجولون منتشرون في كل مكان. يبيعون البالونات الملونة، والحلويات، والفواكه الجافة والطرية، واللمجات السريعة، وغير ذلك من البضائع التي يحتاجها الصغار والكبار في ذلك اليوم المميز…تتنافس النساء في اقتناء كل شيء تقريبا. كل ما يصلح للشراء، ويقدمنه لنا نحن الصغار بكثير من الحبور .. تتكدس الحلويات في جيبي، وبالونة في يدي.. الحرارة ترتفع تدريجيا. تشتري لي أمي قبعة ورقية مزينة بشعار عيد العمال. أضعها على رأسي اتقاء للحرارة. شهر ماي غالبا ما يكون حارا، وشمسه تكون قريبة من الرؤوس، تلقي عليها بثقلها، وتصب عليها شلال أشعتها الحارقة. تنتظم الصفوف وتبدأ المسيرات.أحافظ على مكاني بجانب أمي ، ألتصق بها حتى لا تتقاذفني الأمواج البشرية المتدفقة. تدريجيا ترتفع في الأجواء شعارات منددة ومطالبة ومستغيثة. يتقدم المتظاهرون ببطء تحيط بهم وتسيجهم البنايات الشاهقة على امتداد شوارع المدينة الواسعة.

حركة السير متوقفة، فقط تحتل الأقدام الإسفلت ماضية في طريقها المحدد مسبقا. نصل إلى مكان محدد، نتوقف، نلتفت يسارا حيث أقيمت منصة ظليلة على عجل. يجلس هناك مسؤولو النقابة الكبار. تخبرني أمي ببعض أسمائهم وخاصة اسم الزعيم الخالد الذي لم تعرف النقابة زعيما غيره. أحملق فيه وفي مرافقيه، يبدون لي من عالم مختلف . سيماء الرخاء تبدو على ملامحهم.يشبهون أولئك الناس الذين أراهم في الصور وعلى شاشة التلفزيون. أنيقين كانوا وبعيدين بشكل كبير… كانوا يتفاعلون مع شعاراتنا رغم أن بعضها تنتقد تواطؤهم مع أرباب العمل. أجهد نفسي من أجل رؤيتهم أكبر وقت ممكن. لا أفلح في ذلك.. سرعان ما يتحولون إلى أطياف متراقصة تترنح في الذاكرة، بعد أن ما يلتهمني السيل البشري الخارق، ويصبح أولئك الرجال أكثر بعدا، ثم يتحولون إلى مجرد ظلال باهتة لا تقوى على الصمود في الذاكرة سوى لحظات معدودة. في أحد الاحتفالات السنوية تلك أتذكر أنني حين وصلت إلى تلك المنصة ،وبذلت مجهودا كبيرا لكي أتطلع إلى تلك الوجوه البعيدة، القابعة هناك في الأعلى .. الحرارة المرتفعة كادت تخنقني والمأكولات الكثيرة التي أجهزت عليها بعد أن اقتنتها أمي وزميلاتهاأثقلت على معدتي .

في تلك اللحظة التي رفعت فيها بصري، لأحتضن به الرجال المتربعين على كراسيهم الظليلة، وهم يحيوننا بأياديهم النظيفة. جثم على نفسي غثيان مفاجئ، أحسست بالدوار، ثم طفقت أفرغ ما استقر في معدتي. بعد التقيؤ أحسست بكثير من الوهن. لم تستطيع أمي الاستمرار في المسيرة.فانسلت منها، وقادتني نحو مكان ظليل. بحثت عن سقاء، فغسلت وجهي ويدي ورجلي، ثم نزعت قميصي ورشتني ببعض الماء، ثناولتني بعض الجرعات من الماء عببتها بلهفة.بعد ذلك توجهنا نحو الحافلة العمومية لتنقلنا إلى البيت.

مصطفـى لغتيـري

مصطفى لغتيري: كاتب وروائي مغربي؛ عضو اتحاد كُتاب المغرب سابقا، صدرت له العديد من الأعمال الأدبية في القصة والرواية. إضافة إلى عددٍ من المقالات والدراسات النقدية. حاصل على جائزة النعمان اللبنانية في القصة القصيرة، جائزة ثقافة بلا حدود السورية في القصة القصيرة جدا، وجائزة دار المغربية في الرواية. كما صدرت عن تجربته الأدبية مجموعة من الكتب والدراسات المهمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى