إسهامات العرب القدامى في مجال الدراسات اللسانية
إنَّ صلة القُربى ليست فقط بين التُّراث اللُّغوي العربي واللسانيات، وإنَّما هي موجودةٌ أصلاً بين التُّراث اللُّغوي العالمي واللسانيات. هذه الحقيقة هي قانون علمي للظَّواهر الحضارية، ذلك لأنًّ اللسانيات لم تنشأ في فراغ لتخدم في فراغ، وإنَّما هي شيءٌ لاحِقٌ لشيءٍ سابقٍ.
فعملية التَّأثير والتَّأثر موجودةٌ، ليس بين اللسانيات وبين الدراسات التي سبقتها، وإنَّما بين الظَّواهر الحضارية كُلِّهَا.
ولكي تستطيع اللسانيات أن تكون عِلماً قائماً برأسه مُستقلاً عن بقية العلوم الإنسانية والطبيعية الأخرى، فلابد لها من أن تستفيد من المعارف والنظرات اللغوية والتراثية سواء أكانت عربية أم غير عربية. ولقد أثبت باحثون لِسانيون غربيون، مُعتدلون ومُنصفون (أمثال: روبنز، وتشومسكي، وكوك.
تأثر اللِّسانيات الحديثة بالتُّراث اللُّغوي العربي، وذلك عن طريق وسائل مُختلفة، سواءً أكانت مُباشرة (الاطلاع على التُّراث اللُّغوي العربي باللغة العربية) أم غير مباشرة (عن طريق ترجمة أعمال النُّحاة واللُّغويين والبلاغيين العرب إلى لغات أجنبية كثيرة؛ وخاصة اللغة الألمانية).
وفي مقال للباحثة جوليا كرستيفيا، اهتمَّت فيه بإبراز دور النُّحاة واللُّغويين العرب القُدامى في إثراء الحركة اللُّغويَّة، وإسهامهم في بحوثها، خاصةً منها ما تعلَّق بالنَّحو العربي، فإنَّ النَّاظر في المُصنَّفات والكُتب اللُّغويَّة المُتداولة بين المُشتغلين بالدَّرس اللِّساني الحديث لا يملك إلا أن يُسجِّل بكثيرٍ من الحَسْرَةِ والاستياء؛ إغفالَ أصحاب هذه المُصنَّفات، الحركة اللغوية التي قام بها اللُّغويون والنُّحاة العرب القُدامى.
ولعلَّ هذه الباحثة – وهي مَنْ هي في صُلب الدِّراسات اللِّسانيَّة والسِّيميائيَّة الحديثة – أحدُ الاستثناءات القليلة في كتابها: (Le Langage, cet inconnu Points-Seint, 1981).
حيث كتبت فقرةً لا يُستهان بها؛ حول إسهام العرب القُدامى في مجال الدِّراسات اللُّغوية، تُبيِّنُ فيها قيمة هذه المُساهمة؛ عنوانها (La grammaire arabe) (النحو العربي) (ص129-134) حيث تقول: ” يتبوأ النَّحو العربي مكانةً هامَّةً في صُلبِ مُكتسبات التَّفكير حول اللغة في العصور الوسطى… يقول المثل العربي السَّائر: إنَّ حكمة الرُّومان في ذهنهم، وحكمة الهنود في نزواتهم، وحكمة اليونان في رُوحهم، أمَّا حكمة العرب ففي لسانهم….،
وتتميز النَّظريَّة اللِّسانيَّة العربيَّة بفكرها الثَّاقب؛ حول أصوات اللغة، لقد درج هذا الفكر على تقسيم الأصوات إلى شديدةٍ ورخوةٍ من جهة، وإلى صفيرية وقلقلة من جهة أخرى…، لما كان العرب علماء تشريح كبارًا، مثل سيبويه، فقد كان لهم فضلُ السَّبق في وضع الأوصاف الدقيقة لجهاز النُّطق، التي أضافوا لها الأوصاف الفيزيائية لحركة الهواء.
وقد كان تحليلهم للنِّظام اللُّغوي من الدِّقّ-ة ما مَكَّنهم بعد – وربَّما كانوا الرُّوَّاد – من التَّمييز بين العنصر الصَّوتي (الحرف) والعنصر الكتابي (العلامة) للغة.
كما أمكنهم تمييزهم للصَّوامت والصَّوائت من الاهتداء إلى حصر مفهومي المصوت والمقطع. هذا وقد عُدَّت الصَّوامت جوهر اللغة، في حين عُدَّت الصَّوائت عوارض (accidents)… هذا وقد كان لسيبويه، تلميذ الخليل، الفضل في بلوغ النحو العربي قمته، ويُعدُّ مُصنَّفُهُ ” الكتاب ” أول تأليف (Systématisation) وتركيب له.
د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن