لسانيات
أخر الأخبار

الجُملة في اللغة العربية (2)

تطرقنا في الجزء الأول من هذا المقال؛ للمعايير التي اعتمدَها كلٌّ من سيبويه والمبرَّد والزمخشري في تمييز وتعريف كلٍّ من الجُملة والكلام. وسنواصل في هذا الجزء عرضَ المعايير التي اعتمدَها النحاة الأوائل في تحديدِهم لمفهوم الجملة والكلام والفرق بينهما.


للعودة إلى الجزء الأول من هذه الدراسة


لقد حدد الرضي الاستربادي الكلام بقوله: “الكلامُ؛ ما تضمن كلمتيْن بالإسناد. ولا يتأتى ذلك إلا في اسميْن أو في فعلٍ واسم”[1]. ويقول أيضا في سياق تفريقِه بين الجملة والكلام: “والفرق بين الجملة والكلام؛ أن الجُملة ما تضمن الإسناد الأصلي، سواءً كانت مقصودة بذاتها أو لا، كالجملة التي هي خبرُ المبتدأ وسائر ما ذكر بين الجمل …، والكلام ما تضمن الإسناد الأصلي وكان مقصودا لذاته، فكلُّ كلامٍ جملةٌ ولا ينعكس”[2].


نُميز في كلام الرضي بين نوعين من الإسناد: الإسناد الأصلي المقصود لذاته: وهو الذي يتكون من الفعل وفاعله، أو من المبتدأ وخبره، أو ما كان بمنزلتهِما. ويكون هو المقصود بالإخبار، أي هو الذي يَقصدُ المتكلمُ إخبارَ السامعِ به. والنوع الثاني: هو الإسناد الأصلي غير المقصود لذاته. وهو عند الرضي ستة أنواع، يمكن أن نُجمِلها على النحو الآتي:


1- الإسناد الذي في خبرِ المبتدأ: كقولنا: “زيدٌ قامَ أبويهُ”.

2- الإسناد الذي في الحال كقولنا: “جاء زيدٌ يركبُ فرساً”.

3- الإسناد الذي في الصفة كقوله تعالى: “هذا ذِكْرٌ مبارَك أنزلناه“.

4- الإسناد الذي في المضاف إليه؛ كقوله تعالى:” هذا يومَ ينفعُ الصادقين صدقُهُم“.

5- الإسناد الذي جاء في الصلة كقولك: “الذي جاءَ زيدٌ“.

6- الإسناد الذي جاء في القَسَم.

بناء على ما سبق؛ يتبين أن الجملة جزءٌ من الكلام، لذلك قال الرضي: “إن كلَّ كلامٍ جملة؛ وليست كلُّ جملةٍ كلاماً“. لأن الإسناد فيها غيرُ مقصود، وهذا ما عبر عنه بقوله: “لا ينعكِس“.


إن الجملة عند الرضي  تَعرف انطلاقا من بِنيتها التركيبية القائمة على أساس العلاقة الإسنادية، فهي عنده ما تضمن الإسناد الأصلي سواءً أكانت مقصودة لذاتها أم لا. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام خلو البنية التركيبية من الإفادة، لأن المضمون لا يلزم أن يكون مضمونا كليا، وإنما يكفي أن يكون مضمونا قائما بذاته ضمن المضمون الكلي. قد يتقاطع الكلام والجملة عند الرضي عندما تكون الجملة بسيطة مثل “زيدٌ قائم”، فهي جملة وكلام في الوقت نفسِه.


يتخذ ابن هشام الأنصاري الإفادة المعنوية أساسا للتفريق والتمييز بين الجملة والكلام، فيقول: “الكلام هو القولُ المفيدُ بالقَصْدِ، والمُرادُ بالمفيدِ؛ ما دلَّ على معنىً يَحسُنُ السكوت عليه. والجملة عبارةٌ عن الفعل وفاعله كـقولِكَ: قامَ زيدٌ. والمبتدأ والخبر كـقولِكَ: زيدٌ قائمٌ، وما كان بمنزلة أحدهما نحو: ضُرب اللص، وأقائم الزيدان، وكان زيدٌ قائما، وظننتُه قائما”[3]. ويضيف: “وبهذا يظهر لك أنهما ليسا بمترادفيْن كما يتوهمُهُ كثير من الناس.


وهو ظاهرُ قولِ صاحبِ المفصل؛ فإنه بعد أن فرغ من حدِّ الكلام قال: ويسمى الجملة. والصوابُ أنه أعمُّ منه، يَشرط الإفادة بخلافها. ولهذا نسمعهُم يقولون، جملة الشرط، جملة جواب الشرط، جُملة الصلة، وكل ذلك ليس مفيدا ما ليس بكلام”.[4]


اعتبر ابن هشام الجملة أعمَّ من الكلام. ويمكن أن نستنتج كذلك من كلامِه ما يلي:

  • الكلامُ ينبغي أن يكون مفيدا، يُفيد فائدة يَحسُن السكوت عليها، وذلك بغض النظر عن مكونات هذا الكلام، من الناحية الفنية أو من حيث الإسناد فـ: “زيدٌ قائمٌ” كلام، و “زيدٌ أبوهُ قائمٌ” كلام، و “زيدٌ أبوهُ غلامُهُ قائمٌ” كلامٌ أيضا. أما الجملة؛ فهي الفعل وفاعلُهُ، أو المبتدأ وخبرُه، أو ما كان بمنزلتهِما، فهذه الصور بأمثلتِها تشتمل على علاقة إسنادية واحدة.
  • نستنتج أيضا أن الجملة شرطها الإسناد، أي اشتمالُها على علاقة إسنادية واحدة، وذلك في مقابل شرط الكلام الذي هو المعنى المفيد، سواءً تم بعلاقة إسنادية واحدة أو أكثر، ويمكن أن يتقاطع أو يتساوى الكلام والجملة عند ابن هشام في حالة ما إذا كانت الجملة بسيطة، نحو: “قامَ زيدٌ“، فهذه الجملة عبارةٌ عن فعلٍ وفاعل، وهي كذلك كلام؛ لأنها تفيد فائدة يَحسُن السكوت عليها، وهذا بناء على الشرط الذي حدده ابن هشام. بِقوله: “ألاَّ تَدُلَّ الجملةُ على قولٍ تام” وهذا ما يُفسر قولَه:” الجملة أعمُّ من الكلام، أي أنها قد تكون كلاماً وقد لا تكون“.

وقد تحدث ابن هشام أيضا عن أقسام الجملة وحددها في ثلاثة أقسام هي كالآتي:

واعتمد في تعريفِه لكل نوع من هذه الجمل على معيار الصَّدر الذي تتصدر به الجملة. ومن ثم عرَّف الجملة الإسمية: “بكونِها هي التي صدرُها اسمٌ. نحو: “زيدٌ قائمٌ”، و “هيهات العقيق”، و “قائمٌ الزيدان”[1]. وقد عرَّفَها العماري بالجملة التي تتصدر في الأصل باسمٍ يصلح أن يكون مُسندا إليه[2].

وحدد الجملة الفعلية بقوله: “التي صدرُها فعلٌ، كـ “قامَ زيدٌ وضُرِب اللصُّ، وكان زيدٌ قائماً، وظننتُه قائما، ويقومُ زيدٌ، و قُم“.

والجملة الظرفية: هي المصدَّرَة بظرفٍ أو مجرورٍ، نحو: أعندكَ زيدٌ، و أفي الدارِ زيدٌ.

ونجد تقسيما آخر للجملة يجعل من الجملة أربعة أنواع، وهو التقسيم الذي قدمه الزمخشري، حيث أضاف إلى الأقسام الثلاثة الأولى، قسماً آخر تمثله الجملة الشرطية كقسمٍ رابعٍ للجملة.

 يخضع التقسيم الذي أشرنا إليه؛ إلى اعتباراتٍ تُخوِّل القولَ؛ إن هذه الجملة اسمية والأخرى فعلية، وذلك بالنظر في:

  • صدر الجملة:

المسند والمسند إليه، ولا عبرة لما يتقدمُها من الأدوات والحروف. نحو:

  • المجموعة 1:
  • أقائمٌ الزيدان.
  • أزيدٌ أخوكَ.
  • مجموعة 2:

أ- أقامَ زيدٌ؟.

ب- وإنْ قامَ زيدٌ.       (والمثالان جملتانِ فعليتان).

 يتبين من خلال مثاليْ المجموعة الأولى (أ و ب)؛ دخولَ همزة الاستفهام على الجملتين الإسميتين، ودخولُها لا يُحدِثُ أيَّ تغيير في طبيعة الجملة، وهذا ما عبَّر عنه النحاة بقوبهم “اعتبارُ صدر الجملة”، مما جعلنا نعتبر (1- أ) و (1- ب) جملتيْن اسميتين. ونعتبر مثالي المجموعة الثانية (2- أ) و (2- ب): جملتيْن فعليتين، لأن صدرهما فعلٌ. والفعلُ في (2- أ) و(2- ب) هو: “قام”. ولا اعتبار للحرفيْن الداخليْن عليهما.

  • اعتبارُ ما هو صدرٌ في الأصل:

 والمراد باعتبارِ ما هو صدرٌ في الأصل، هو أنه للحُكم على طبيعة الجملة إن كانت اسمية أم فعلية، يجب النظر في تقلباتِها، والوقوفُ عند الرتبة الأصلية لها، قبل أن يقع تغيير في الرتبة لغرض في نفس المتكلم. وذلك نحو: قوله تعالى: “فأيُّ آياتِ اللهِ تُنكِرُون[3]. وأصلُها: “تُنكرونَ أيَّ آياتِ اللهِ”. فقد تم تقديم المفعول “أّيّ“. ولذلك صح القولُ إن تصدَّرَ الآية في الأصل، فعل، وبالتالي فالجملة فعلية في الأصل، والتغيير وقع في رُتَبِ مكوناتِها فقط. كما في المثال التالي: “كيفَ جاءَ زيد[4].

وقد يفترض في الجملة أن تكون اسمية أو فعلية، وذلك راجع إلى تقدير النحويين للجملة والاستدلالات التي يقدمونَها للبرهنة على حُكم قولهِم هذه جملة اسمية أو فعلية.

 ما أشرنا إليه أعلاه كان عن أقسام الجملة عامة. وسنحاول أن نتخذ نموذج لهذه الأقسام ونبين الأنواع التي تحتملُها، ونأخذ على سبيل المثال الجملة الفعلية العربية، فهي أنواع تحددها خصائص الفعل: – التركيبية، والدلالية، والصرفية، والمعجمية، والصوتية[5].                          وأن هناك نوعين من الجمل الفعلية:

1- جملة فعلية متصدرة بـ:  فعلٍ عاديّ: 

                       –  يدلُّ على حدثٍ أو ما يعُادله.

                       –  وعلى زمنٍ محدد أو غير محدد.

2- جملة فعلية متصدرة بـ:  فعلٍ غيرِ عادي:         

        – أو الفعل الناقص والمقصود به مجموعة من الأفعال التي تُمثل “كان وأخواتها”.

عموما؛ يمكن القول إن الجملة أقسام باعتبار الصدر والأصل، وهي أربعة أقسام، كما أقرَّها الزمخشري. والجملة الفعلية نوعان من حيث تصدُّرِها بـ: (فعلٍ عاديٍّ /و/ فعلٍ غيرِ عادي).

أما بخصوص الجملة الاسمية، فهي الأخرى تخضع إلى تقسيميْن، وذلك تبعاً للتقسيم الذي قدمَه ابن هشام الأنصاري في كتابِه “المغني“: (جملة صغرى // جملة كبرى).

ويَقصد بالجملة الكبرى: الجملة “الاسمية التي خبرُها جملةٌ نحو: زيدٌ قامَ أبوهُ، وزيدٌ أبوهُ قائمٌ. والفعلية التي فِعلُها ناسخٌ؛ والخبرُ فيها بحسب أصلِ الجملةِ؛ كقولِكَ: ظننتُ زيداً يقومُ أبوهُ[1]. أما الجملة الصغرى فيقصِدُ بها؛ “المبنيةَ على المبتدأ، أي التي هي خبرٌ عنه[2]. ويمكن أن تكون الجملةً كبرى وصغرى لاعتباريْن:

 

فجملة: “زيدٌ أبوهُ غلامُهُ منطلقٌ” عبارةٌ عن جملةٍ كبرى.  

وجملة: “أبوهُ غلامُهُ مُنطلقٌ”، هي كذلك جُملة كبرى.  

وجملة: “غلامُهُ منطلقٌ” عبارة عن جُملة صغرى.

وقد فصل ابن هشام في الجملة الكبرى؛ وبيَّنَ أنها تَنْقَسِمُ إلى قسمين[3]:

  • فالجملة ذات الوجه الواحد تكون إما:

– اسمية الصدر والعجز، نحو: “زيدٌ أبوهُ قائمٌ”.

– أو تكون فعليةَ الصَّدر والعَجُز، نحو: “ظننتُ زيداً يقومُ أبوهُ“.

  • والجملة ذات الوجهين نوعان:

1- اسميةُ الصَّدر؛ فعليةُ العجز، نحو: “زيدٌ يقومُ أبوهُ”.

2- فعلية الصدر اسمية العجز، نحو: “ظننتُ زيداً أبوهُ قائمٌ“.

عموما؛ يمكن القول إن معيار الإسناد يُعتبر دليلا على وجود الجملة، وإن كان لا يحددُها تحديدا دقيقا.


– ابن هشام الأنصاري: المرجع السابق، ص 810/811.[1]

– نفسه، ص 810.[2]

– نفسه، ص 811.[3]

-الأنصاري ابن هشام: المرجع السابق، ص803.[1]

– العماري، عبد العزيز: الجملة العربية دراسة لسانية، سلسلة من النحو إلى اللسانيات2، مطبعة آنفو برانت، فاس، ط 1، 2004، ص41.[2]

– سورة غافر، الآية 81.[3]

– ابن هشام الأنصاري: المرجع السابق، مج 2، ص804.[4]

– العماري، عبد العزيز: المرجع السابق، ص14.[5]

– الاستربادي، رضي الدين بن الحسن: شرح الكافية في النحو، مج 1، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، 1985م/1405هـ، ص 7. [1]

–  نفسه، ص8.[2]

– ابن هشام الأنصاري، جمال الدين: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج2، دار السلام، مصر، ط3، 2010م/1431هـ،ص 797/798.[3]

[4] – نفسه، ص798.

مليكة فكون

كاتبة من المغرب، متخصصة في اللغة العربية، باحثة في اللسانيات، حاصلة على الماجستير في المناهج التربوية والأدبية لتدريس اللغة العربية - المدرسة العليا للأساتذة - مكناس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى