التداولياتلسانياتلسانيات النص - تحليل الخطاب

قياسية الخطاب الطبيعي عند طه عبد الرحمن

انطلق طه عبد الرحمان في معالجته لقياسية الخطاب الطبيعي، من فرضية مفادها، أن القياس هو البنية الاستدلالية لكل قول طبيعي، وقصد بـ”القول الطبيعي”، كل قولٍ سواء أكان حقيقية أو مجازا، وميَّز في القول المجازي بين نوعين من المجاز، “القول الاستعاري” و”القول غير الاستعاري”.


وفي هذا النوع بالذات تبرز قيمة أو صفة القياسية، إذ يتم قياس القول المستعار من القول الحقيقي، واعتبر القول غير الاستعاري راجعا إلى دلالة المفهوم في القياس. أما بالنسبة للقول الحقيقي فهو البنية القياسية الصريحة.


قد عمد طه عبد الرحمان إلى توضيح المقصود بالاستدلال القياسي، وحدده بكونه “هو كل ما يتضمن الآليات الضرورية لتوليد الخطاب الطبيعي بشتى أنواعه”. ليخلُص في النهاية إلى أن القياس ضرورة يفترضها الخطاب الطبيعي، الذي يستجيب لمعيار الالتباس الذي تعرفه اللغات الطبيعية.


فالقياس بهذا المعنى، يعطي لكل قول أساسَه الاستدلالي، فأقوالُنا ليست بريئة من القياس، وبالتالي فالقياس الاستدلالي آلية تُشتَقُّ بها الأقوالُ بعضُها مِن بعض، وتُوَّلَدُ الواحدة منها مِن الأخرى، وهذا ما عبَّر عنه طه عبد الرحمان بكونه “يفتح آفاقا قياسية أخرى”.


وقد حدد عناصر الاستدلال القياسي انطلاقا من علاقة المشابهة التي تقوم عليها، ومن ثمة اعتمد مبدأ المماثلة كعنصر أساسي لتحقيق القياس.

والطريقة التي اعتمدها في معالجة هذا الطرح، انطلقتْ من تحديده للخصائص المنطقية لعلاقة المماثلة التي قد تتحول إلى مشابهة، وقد عرّف المماثلة بكونها: “علاقة الذات بالصفات، وعلاقة الصفات الإنسانية بالصفات الإلهية”. وليُوضّح هذا الأمر استعان برأي أهلِ الكلام الذين تفرقوا إلى مذاهب شتى في مسألة إثبات الصفات أو إنكارها، فنجد:

  • أن أهل التمثيل: يُجوِّزون على الخالق سبحانه بعضا من أوصاف الخلق.
  • أن أهل التعطيل: يتميزون بسلب الصفات.
  • أن أهل التأويل: يُخرجون الألفاظ من معانيها الحقيقية إلى معاني أخرى.
  • أن أهل الإثبات: يتقيدون بما جاء في الكتاب والسنة.

ليخلُص طه عبد الرحمن مِن كل هذه التَّبايُنات الــى:

  • أن إشكال المماثلة وربطها بالصفات الإلهية يقوم على شروط عقلية ومنهجية تفرض التقصي والتقويم.
  • العلاقات المنطقية التي تصاغ في إطار هذه النظرية يمكن نقلها إلى مجالات أخرى، على سبيل المثال، ربط تراثنا الإسلامي بالإنتاج الغربي، والاختلاف إنما يَكْمُنُ في تحديد الصفات التي نتماثل بها مع ثقافة الآخر.

وقد تَدَرَّجَ الدكتور طه عبد الرحمان في فك رموز هذه النظرية، في محاولته لعرض التنسيق المنطقي الذي وضعه لنظرية المماثلة الكلامية، وميَّز في هذا الصدد بين مجموعة من المتغيرات:

– متغيرات الذوات: والتي يَقْصِدُ بها الأفراد ومتغيرات الصفات أو المحمولات، ووظَّفَ مجموعة من الرموز للدلالة على الجهات.

بدأ بتحديد خصائص المماثلة المشتركة بين النظريات الكلامية، وانطلق في ذلك من مسلمة مفادها أن:

  • كل ذات تتصف بصفات.
  • المماثلة بين الذوات تثبت بطريق الصفات.

أما عن خصائصها فقد لخصها في أربع خصائص هي:

  • خاصية الانعكاس: وتتجلى في مبدأ الهوية، وعبر عنه بلفظ هو.
  • خاصية التناظر: وهي أن كل مايماثل غيره، فهذا الآخر أو الغير يماثله كذلك.
  • خاصية التعدي: وهي أن مِثْلُ المِثلِ مِثْلٌ.
  • خاصية التبادل: وهي أن كل المِثْلَيْنِ ينوب أحدهما منابَ الآخر.

وتحدث طه عبد الرحمان عن مسلمة أخرى تفيد استحالة الجمع بين المِثْلَيْنِ، وهذا رأي المتكلمين، وسماه طه بالهَذِيَة، وقصد به كون الشيء هو الذات المتعيِّنَة، ووظف مفهوم آخر ليعزز طرحه وهو مفهوم الحَيْثِيَّة.

ليخلُص في النهاية إلى: أن المِثليْن يمكن أن يتساويا في الحيثية ويختلفان في الهذية، لذلك دعا إلى وجوب إخراج صفات الزمان والمكان المحددة للهذية، والاقتصار على الصفات المكونة للحيثية.

وانتقل للحديث عن أصناف المماثلة الكلامية حسب ما يقتضيه الخطاب الطبيعي، وأشار إلى اختلافها وأرجع هذا الاختلاف إلى تباين واختلاف شروطها، وبالتالي حدد أصنافها في ما يلي:

  • المماثلة الكلية: وهي أن يكون الأمران أو الشيئان مشتركان في جميع الصفات: وحددها طه عبد الرحمان في النقط التالية: ما وجب، وما جاز، وما استحال. ويرى أنه يمكن الاقتصار على إحداها وقياس الآخرين بها.
  • المماثلة الجزئية: وهي أن يشترك الشيئان في بعض الصفات.
  • المماثلة الذاتية العامة: أن يشترك الشيئان في صفات ذاتية أو ما يسمى بالصفات النفسية من غير الصفات المعنوية. والمتكلمون يخرجون منها صفات العموم.
  • المماثلة الذاتية الخاصة: أن يشترك اللفظان في أخص الصفات.

وبعد عرض الدكتور طه لأصناف المماثلة الكلامية، انتقل إلى النظر في الأنساق المنطقية للتراكيب ليبرز خصائصها، ولخص أصناف المماثلة في الخطاطة التالية:                

وقد ميز بين مجموعة من الأنساق التي تتكون منها المماثلة الكلامية، وعمد في تحديده لكل نوع من الأنساق إلى الانطلاق من مسلمات، وهذه الأنساق هي:

  • نسق المماثلة الجزئية: ولتوضيح المقصود بهذا النوع من النسق، انطلق من مسلمة مفادها أن المتماثلين تماثلا جزئيا أحدهما يسد مسد الآخر في صفات معينة. إذ أن وجود صفة وقعت بها مماثلة فهي بالضرورة محددة لصفات هي بمثابة أوجه لتحقق هذه الصفة في الشيئين المتماثلين.

فهذه المسلمة في مقام برهانٍ يدل على تميز المماثلة المهملة الجزئية بمجموعة من الخصائص والمبادئ وهي:

  • مبدأ اتحاد أوصاف المثلين.
  • مبدأ تماثل متحدي الأوصاف.
  • خاصية الانعكاس.
  • خاصية التناظر.
  • خاصية التعدي.

وهذه الخصائص الأخيرة هي نفسها الخصائص التي حددها للمماثلة الكلامية في شموليتها.

  • نسق المماثلة الكلية: والمسلمة التي تتصدر هذا النسق، هي أن هناك نسق يجمع بين المماثلة الكلية والمماثلة الجزئية، وهذه الأخيرة هي لازمة عن المماثلة الكلية.
  • نسق المماثلة المقيدة العامة: هذا النسق يعتبر المثلين مشتركين في كل الصفات الذاتية .
  • نسق المماثلة المقيدة الخاصة: وفيه يشترك المتماثلان في أخص الصفات ويستوجب تحديد العلاقات القائمة بين الصفات، ويدخل ضمنه مبدأ التداخل والتكافؤ.

وبالتالي فإن المماثلة الذاتية الخاصة، ترجع إلى المماثلة الذاتية العامة.

بعد هذا العرض لخصائص وأنساق المماثلة الكلامية خلص طه عبد الرحمان إلى استنتاجات من قَبيل:

  • أن بعض دواعي المماثلة تقارب مقاربة شديدة ما جاء به المعاصرون في المسألة نفسها.
  • أنها تقارب الاجتهاديْن العلميَّيْن، الإسلامي والمعاصر، وهذا طبيعي إذا ما اعتبرنا مسألة المماثلة، أثارت اهتمام مجموعة من المفكرين والمناطقة، الذين عدد طه أسماءهم كـ(فريجه، وراسل، وجيش..)، وذلك من خلال تفكرهم في مجموعة من القضايا الفكرية الهامة.
  • واستخلص كذلك أن من بين القضايا المشتركة، قضية الاثنية وما تعرفه هذه القضية من إشكالات.

وإلى جانب ما ذكرناه سالفا فقد تطرق طه عبد الرحمان كذلك إلى إشكالات أخرى تلتصق بنظرية المماثلة وهي:

المماثلة والخرق الكلامي، حيث تحدث عن علاقة الصفات بالذات، وتكون هذه العلاقة في ثلاث حالات هي، (مماثلة للذات/ أو مباينة لها/ أو لا مماثلة ولا مباينة). وهذا يستدعي مبدأ الثالث المرفوع، ويعني به، أن القول كيف ما كان نوعه، لا واسطة بين صدقه وكذبه. وخرقُ هذا المبدأ يجعله تمييزا له في المنهجية المنطقية لعلم الكلام. ومثال ذلك ما قدمه الدكتور طه في قوله “الاسم لا هو عين المسمى ولا غير المسمى…”

فعلى الرغم من المعارضة الشديدة التي تلقاها مبدأ الثالث المرفوع، فإن طه عبد الرحمان يرى أن هناك أحوالا كثيرة للموجود، يكون فيها بين الإثبات والنفي، ولا يرتفع فيها الثالث. وهذا ما أطلق عليه اسم “منطق القيم الكثيرة”، وينتقد طه المتكلمين في اعتمادهم قيما ثلاثة وهي: الصدق، الكذب، الواسطة.

ويعتبر أن أنسب نسق منطقي لصوغ أو بناء مبادئ المنهجية الكلامية، هو أن لا يبطل في مبدأ الثالث المرفوع، وكذلك مبدأ عدم التناقض. ويضيف إلى مبادئ المنطق الكلامي أصحاب القول.

يقترح طه عبد الرحمن لصوغ نسق يلغي عمل المبدأ الثالث المرفوع مع مراعاة عدم السقوط في التناقض، العمل وفق خطوتين:

  • تعيين ثلاث قِيَّمٍ لمواقفَ قوليةٍ ثلاثةٍ معلومة.
  • يَشترط في التراكيب أمورا هي كالآتي:
  • أن يكون القول صحيحا، إذا نال قيمة الصدق لكل القيم التي تستند إلى أجزائه.
  • أن يُبْطَلَ مبدأ الثالث المرفوع، ويكون مبدأ عدم التناقض كذلك باطلا.

من الأمور التي تطرق إليها طه عبد الرحمن هي: المماثلة وعلاقتها بنظرية العوالم الممكنة، وحدد مفهوم العالم الممكن في كونه الحالة الشاملة للموجودات، فكل عالم ممكن هو بمثابة مجموعة من القضايا تتميز بالاتساق والاستيفاء.

أهم ما تعالجه هذه النظرية، هو وضع الذوات فيها، وهذا يطرح مسألة المماثلة، فهي تجسيد لتماثل الذوات وتباينها عبر العوالم. وهنا نجد تعارض الموقف الكلامي مع المُحْدَثِين الذين يعتبرون تغير العوالم يفضي لا محالة إلى تغيير الذوات.

حصَّل الدكتور طه عبد الرحمان في كتابه الماتع (في أصول الحوار وتجديد علم الكلام) مجموعة مهمة من الاستنتاجات، أشار فيها إلى أهمية القياس في السياق التخاطبي، وأنه  يستمد مسلماته من الخطاب الطبيعي، وفيه تتم جميع العمليات، وأن المعالجة التي قام بها المتكلمون لعلاقة الذات بالصفات تتسم بالقصور، وأنه لا بد من استرجاع واستعادة بعض الجوانب المنهجية في علم الكلام، لأهميتها في تمثل الدراسات الحديثة.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى