تحديات تدريس اللغة العربية في فرنسا
لفرنسا تقليدٌ عريق في تدريس اللّغة العربيّة، فهي أوّل بلد في أوروبا الغربيّة أنشأ كرسيّاً أكاديميّاً لتدريس هذه اللّغة في “مدرسة القرّاء الملكيّين” Collège des lecteurs royaux التي ستُصبح في ما بعد المعهد العريق المعروف بـِ “كوليج دو فرانس” (1530).
وفي عهد الملك لويس الرّابع عشر تأسَّست “مدرسة الشباب للّغات” L’École des Jeunes de Langues (1669) التي أصبحت في ما بعد “المعهد الوطنيّ للّغات والحضارات الشرقيّة” المعروف بمعهد اللّغات الشرقيّة Inalco، حيث كانت اللّغة العربيّة في هذه المؤسّسة تحظى بمكانة الشرف، وقد مَنَحَ المعهدُ إجازةَ تدريس اللّغة العربيّة منذ العام 1906 (شهادة الأستاذيّة باللّغة العربيّة Agrégation).
استُكمل هذا المَسار عام 1975، عندما بدأت وزارة التعليم باختيار مدرّسي اللّغة العربيّة من ضمن مسابقة التعليم الوطني، المعروفة بـ CAPES (شهادة الكفاءة). وعلى الرّغم من أنّ العربيّة، كما يتّضح، عريقة في المدارس الفرنسيّة، علاوة على أنّها تُمثّل اللّغة الثانية في فرنسا اليوم، حيث يتحدّثها، بالفصحى والعاميّة، ما يزيد على 4 ملايين نسمة، وتمّ الاعتراف بها رسميّاً عام 1999 كإحدى لغات فرنسا، فإنّ تعليمها في المؤسّسات التربويّة الرئيسة يُعاني من إشكالات كثيرة وجدّيّة.
- أوّلاً – ما هو واقع اللّغة العربيّة في فرنسا؟
ارتبط تدريس اللّغة العربيّة منذ نشأته بقضايا دينيّة في مرحلة أولى وبقضايا استعماريّة في المرحلة الثانية وبقضايا الهُويّة في أيّامنا هذه. بعد المرحلة الاستعماريّة، وابتداء من سبعينيّات القرن الماضي، تطوَّر تدريس اللّغة العربيّة في فرنسا، لكنّه للأسف التصقَ بمسألة الهجرة.
في تلك الفترة حصلَ ضغطٌ حقيقيّ تولَّد عن وجود العديد من التلاميذ من أصل عربي في الإعداديّات والثانويّات. غير أنّ هذا “الضغط الاجتماعي” الذي تتزايد قوّته في أيّامنا هذه، يبقى دائماً عِرضةً لتأويلٍ خاطئ؛ كما أنّ الأجوبة التي تقدّمها وزارة التربية الوطنيّة غير مُلائمة لواقع الحال، حيث يتمّ اختزال اللّغة العربيّة في بُعدها المُرتبط بالهُويّة.
ففي التعليم الأساسي والثانوي، ظلّ تعليم اللّغة العربيّة لفترةٍ طويلة لا يخضع للنظام التربوي الفرنسي، وإنّما تُرك لمُعاهداتٍ أجرتها فرنسا مع تونس والجزائر والمغرب لإرسال معلّمين يدرّسونها لأطفالٍ ينحدر آباؤهم من هذه البلدان من دون أيّ رقابة تربويّة، وعلى هامش دروسهم في المدارس الفرنسيّة، وفي أوقات راحتهم من ضمن برنامج “آليّة تعليم اللّغات والثقافات الأمّ” (ELCO)، حيث يُتابع خمسون ألف طالب حصصاً باللّغة العربيّة مع أساتذة يتمّ اختيارهم ويتقاضون أجورهم من دول المغرب العربي الثلاث.
أمّا في التعليم الجامعي، فتُعتبر الوضعيّة أقلّ إثارة للقلق؛ حيث يتمّ تدريس اللّغة العربيّة في جامعات فرنسيّة عدّة، وتتوافر في معظم هذه الجامعات شعبة مستقلّة للدراسات العربيّة. وتُشكّل جامعات باريس 4 وليون 3 وإيكس/ مارسيليا ثلاثة مراكز تحضيريّة لمُباراة شهادة الكفاءة للتعليم الثانوي والأستاذيّة.
وبحسب تقريرٍ للجنة التنسيق الجامعي بين أقسام الدراسات العربيّة CIDEA يبلغ عدد الطلّاب الذين يتابعون دروس اللّغة العربيّة في هذا الإطار حوالى 37.000.
- ثانياً – بين اللّغة والسياسة
بغية فَهْم الأمور، يجب العودة إلى ثمانينيّات القرن الماضي. ففي العام 1983، اندلعت أعمالُ شغبٍ في حيّ “لي مينغيت” Minguettes في ضاحية مدينة ليون؛ تلاها تنظيم “المسيرة من أجل المُساواة وضدّ العنصريّة” التي ستُعرف بـاسم “marche des Beurs” (“مسيرة أبناء المُهاجرين المغاربة”) التي اتّخذت بُعداً وطنيّاً.
وفي العام 1989، في مدينة “كراي” Creil ، طُردت ثلاث تلميذات من مدرستهنّ لرفضهنّ خلْع حجابهنّ. تصدّرت تلك الأحداث عناوين الصحف وأسهَمت في تغيير صورة المُجتمعات الإسلاميّة في فرنسا بصورةٍ جذريّة، لتحوِّل الهجرة المغاربيّة إلى تحدٍّ وطني، وتَجعل من اللّغة العربيّة في فرنسا، أوّلاً، لغة خاصّة مرتبطة بالهجرة، من السهل ربْطها بالغيتوهات، وبالقوميّة العربيّة وبالإسلام ثانياً. من هذا المنطلق، لا يُمكن لمسؤولٍ سياسي تأييد مسألة تدريسها من دون أن يتعرّض للهجوم.
حاولَ الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي تلافي هذا الواقع، وفي العام 2008، شجّع على انعقاد “مؤتمر اللّغة والثقافة العربيّة”. لكنّ جماعات اليمين المتطرّف كانوا بالمرصاد، وقد زاد خوفهم وقلقهم بعد اختيار امرأة من أصلٍ مغربي، هي نجاة بلقاسم، وزيرةً للتربية والتعليم العالي والبحث في الحكومة الفرنسيّة التي تمّ تشكيلها في أواخر شهر آب/ أغسطس 2014؛ فشنّوا على الوزيرة حملة واتّهموها باستغلال مَنصبها من أجل نشْر اللّغة العربيّة وخدمة أبناء المهاجرين العرب.
- ثالثاً – قرار بلقاسم التاريخيّ: “إدماج اللّغة العربيّة داخل المنظومة التربويّة الفرنسيّة”
في الواقع، اتّخذت نجاة بلقاسم القرارَ الجريء المُنتظَر منذ سنوات طويلة، بحيث قرَّرت وزارة التربية والتعليم في فرنسا يوم الثلاثاء 31 أيّار/ مايو 2016 إدراج اللّغة العربيّة بشكلٍ رسمي في المناهج ابتداء من العام 2017، وبذلك سيتمكّن التلاميذ الفرنسيّون من اختيارها كلغةٍ أجنبيّة.
أثارت هذه المُبادرة التي أعلنتها وزارة التربية والتعليم جدلاً كبيراً بين مُدافعٍ عنها، ومُعترضٍ عليها، علماً أنّ أطرافاً عدّة تَعتبر أنّ اللّغة العربيّة أصبحت مُقترِنة اليوم في الأذهان اقتراناً كبيراً بالإسلام نفسه. هل العربيّةُ لغةُ جاليةٍ مهاجرة في فرنسا؟ أم هي لغةٌ حيّةٌ أسوةً بالإنكليزيّة والألمانيّة والبرتغاليّة والصينيّة…؟
انتقلَ الجدلُ من البرلمان الفرنسي إلى وسائل التواصل الاجتماعي ليصل بعد ذلك إلى رجال السياسة يمينهم ويسارهم ووسطهم كما تسري النار في الهشيم. في الحقيقة ظلَّت اللّغة العربيّة مرتبطة في كثير من الأذهان بمسألة تصفية الاستعمار والهجرة، وصولاً إلى مسألة الدّين الإسلامي في المجتمعات الأوروبيّة.
كان يتعيّن على وزارة التربية والتعليم أن تستعيد زمامَ المُبادرة في تدريس اللّغة العربيّة وتحرص على أن تتمّ هذه العمليّة في إطارٍ منظّم وعامّ في الفضاء المدرسي ووفق ضوابط صارمة. لا شكّ أن بعض التقدُّم الملموس قد تحقَّق على هذا الصعيد، بدءاً من العام 2017، إذ أصبحت الوزارة تتدخّل مباشرة في تأطير دروس اللّغة العربيّة وتنظيمها، كما أقرّت دولُ المغرب العربي على وجه الخصوص بضرورة أن تتماشى هذه المَناهج العربيّة مع مقاييس البيداغوجيّة الفرنسيّة. وعلى الرّغم من ذلك تظلّ ثغرات ونواقص كثيرة تشوب عمليّة تدريس اللّغة العربيّة على الأراضي الفرنسيّة.
في العام 2018 أعلن وزير التربية الفرنسي جان – ميشال بلانكير Blanquer دعمه لاقتراحٍ قدَّمه معهد “مونتاني” للدراسات والبحوث والقاضي بتعليم اللّغة العربيّة في المَدارس العموميّة بهدف “مُحارَبة التطرُّف الإسلامي”.
وانطلاقاً من هذا التقرير، بدأت وزارة التربية والتعليم الفرنسيّة بتطبيق إجراءاتٍ جديدة من أجل التحكُّم بعمليّة تدريس اللّغة العربيّة من دون التخلّي عن الاستعانة بالمُدرّسين الأجانب لأسبابٍ دبلوماسيّة وماليّة. كما قرَّرت الوزارة أن تُدرج تعليم اللّغة العربيّة من الآن فصاعداً تحت “البرنامج الدوليّ للّغات الأجنبيّة”.
تلى ذلك التباحُث من أجل التوصُّل إلى اتّفاقيّاتٍ جديدة مع الدول المَعنيّة حتّى يتسنّى إدراج الضوابط الجديدة في تعليم اللّغة العربيّة وغيرها من اللّغات الأخرى على الأراضي الفرنسيّة. وقد اشترطت فرنسا في هذه الاتّفاقيّات الجديدة أن تتدخّل في عمليّة انتداب المُدرّسين ومُتابَعة عملهم وتقييم مستواهم الأكاديمي والمهني، فضلاً عن تقييم الطلّاب الذين يحضرون هذه الدروس أيضاً.
في العام 2020 خَطَتِ السلطاتُ الفرنسيّة خطوةً متقدّمة، تمثّلت بتقديم مشروع قانون “احترام مبادىء الجمهوريّة” الى مجلس الوزراء الفرنسي. مجدّداً، تسبَّبَ النصُّ المتعلّق بتعلّم اللّغة العربيّة في المدارس الفرنسيّة بجدالٍ واسع، وشنَّت التيّارات اليمينيّة حملةً مركّزة، مُعتبرةً أنّ مشروع القانون في نصّه الساعي إلى تقوية حضور اللّغة العربيّة في المدارس، يسعى إلى تعريب فرنسا، كما رَبَطَهُ البعضُ بالسماح بالتعليم الديني الإسلامي داخل مؤسّسات الجمهوريّة الخاضعة لمبادىء العلمانيّة.
في الواقع، وعلى الرّغم من كلّ الجهود التي تُبذل، نَلحظ تدهوراً في وضع اللّغة العربيّة في المدارس الفرنسيّة، حتّى أنّها تحتلّ المرتبة السابعة في قائمة اللّغات التي تُدرّس في المَدارس والمَعاهد الثانويّة الفرنسيّة وهي تأتي بعيداً وراء اللّغتَيْن الصينيّة والروسيّة على سبيل المثال. هناك سؤالٌ محيّر يفرض نفسه: ما الذي يجعل أعداد الطلبة الذين يدرسون اللّغة العربيّة متواضعاً ومحدوداً في وقتٍ يتزايد فيها أعداد المُهاجرين من بلدانِ المغرب العربي؟
من ناحية أخرى، نرى المُديرين في المَدارس لا يسعدون كثيراً بفتْحِ أقسامٍ لتعليم اللّغة العربيّة في مؤسّساتهم التعليميّة، ذلك أنّ مثل هذه الأقسام يُنظر إليها على أنّها أقسامٌ خاصّة بأبناء المُهاجرين، وما تحمله هذه العبارة من إيحاءاتٍ تشوِّه صورة المؤسّسة.
من هنا، لا بدّ من بلْورةِ تصوّرٍ جديد يقوم على نبْذِ جميع الأفكار المُسبقة التي تَختزل اللّغة العربيّة في بُعدَيْها الديني والهُويّاتي، وتشجيع تعلّمها في المدارس الرسميّة منذ المرحلة الأساسيّة ولِمَن يرغبون بذلك كافّة، أيّاً كان أصلهم أو دينهم، باعتبار أنّ هذه اللّغة هي “من لغات فرنسا”.
لا بدّ إذاً من أن تتحمّل الحكومة الفرنسيّة مسؤوليّتها في مُعالَجةِ مُشكلة تعليم العربيّة، بخاصّة أنّ ذلك سوف يُسهم في التخفيف من وطأة أزمة الاندماج.
ولكنْ ما هي مسؤوليّة الدول العربيّة، ولاسيّما بعضها الذي يملك في فرنسا استثماراتٍ بملايين الدولارات. ألَيس من واجبها الاستثمار في دعْمِ تدريس اللّغة العربيّة برعايةٍ من وزارة التربية الفرنسيّة، فتُسهِم في إشعاع العرب في أوروبا من زاوية لغتهم، لغة الأدب والثقافة والعِلم، بعدما تشوَّهت صورتهم بفعل التطرُّف الديني؟
د. جان جبّور: كاتب ومُترجِم من لبنان