فكر وفلسفة

مشكلة قِدمُ العالَم وحُدُوثُه

يعدّ البحث في أصل الوجود وطبيعته موضوعاً مركزياً في الفلسفات اليونانية والإسلامية والوسيطة
وقد اختلف الفلاسفة في طبيعة الكون ، هل هو قديم أم محدث ؟ فوضعوا نظريات مختلفة حول قِدم العالم وحدوثه . ولكن قبل عرض النظريات ينبغي أن نتعرّف بعض المصطلحات الفلسفية الرئيسة التي تُستخدم في صياغة هذه النظريات وشرحها ومنها :

1- القديم : هو الموجود الذي لا بداية لوجوده ، وهي صفة تُطلق على الله تعالى ؟ لأن الله موجود منذ الأزل، وليس ثمة زمان سابق على وجوده .

2- الحادث : الحادث عكس القديم ، وهو الموجود الذي وُجِد في زمان ما ، ولم يكن قبل هذا الزمان موجوداً .

3- الحركة : هي كل تبدل أو تغيّر يطرأ على الموجود ، كانتقاله في المكان أو الزمان ، أو تغيّر صورته أو هيئته أو صفاته ، وهي حالة ملازمة لكل الموجودات ، إما داخلية كحركة الإنسان والنبات ، وإما خارجية كحركة العربة التي يجرها الحصان .

4- الزمان : هو عدد الحركة ، فالحركة مرتبطة بالزمان ؟ لأن التغيّر لايكون إلا في زمان .

5- الخلق : وهو نوعان ، إما إيجاد شيء من عدم ، وهو الإبداع ، وإما إيجاد شيء من شيء سابق عليه ، وجاء القرآن الكريم ( وخلقنا الإنسان من طين كالفخّار ).

6- الأزلي : هو الذي ليس له بداية في الزمان .

7- الأبدي : هو الذي ليس له نهاية في الزمان .

8- السرمدي : هو الذي لا بداية له و لانهاية ، وتطلق هذه الصفة على الله وحده .

أولاً – مشكلة أصل العالم : 1- تساءل اليونانيون القدماء عن أصل العالم والمبدأ الأول الذي تعود إليه كل الموجودات في الكون . واختلفوا في تحديد أصل العالم ، فأرجعه طاليس إلى الماء، و أنكسيمندريس قال أن أصله جوهر سرمدي غير محدد سماه ( الأبيرون – أو اللانهائي ) ، وهو مزيج من الأضداد ،ثم جاء أنباذقليدس ورأى أن العناصر الأربعة ( الماء والهواء والتراب والنار ) هي مبادئ كل الموجودات في الكون ، أما ديموقريطس يفترض أن الذرات هي المبادئ الأولى للوجود .

2- ورغم هذا الاختلاف في تحديد أصل العالم اتفقوا جميعاً على أن الكون لم ينشأ من عدم مطلق ، فلا يمكن أن يصدر شيء عن لاشيء

ثانياً – قِدَم العالم عند أرسطو : أ – قدّم أرسطو أول نظرية مكتملة في قدم العالم ، وتقوم على ثلاثة مفاهيم فلسفية أساسية هي : المادة والحركة والزمان .

1- المادة : افترض أرسطو أنّ الكون نشأ عن مادة أولية بسيطة ليست مركبة ، ليست متعيّنة في شكل ما، وليس لها صورة محددة ، ولمّا تحركت هذه المادة اتخذت صوراً متمايزة ، ونشأت عنها أصناف الموجودات المختلفة .

2- الحركة : اعتقد أرسطو أنّ الحركة تحتاج إلى محرك هو الإله ، وهو المحرك الأول اللا متحرك فالله علة الحركة ومسبّبها ، وهي معلولة له ، ويرى أرسطو أن العلة والمعلول يجب أن يكونا متساوقين (لا يسبق أحدهما الآخر ) وبما أن وجود الله قديم منذ الأزل ، فالحركة قديمة وموجودة منذ الأزل .

3- الزمان : الزمان مقرون بوجود الحركة ؟لأن الحركة لا تحدث إلاّ في زمان ، والزمان عدد الحركة ومادامت الحركة قديمة وموجودة منذ الأزل فالزمان قديم وأزلي .

3- مكرر ويبرهن أرسطو على قدم الزمان معتمداً المنطق الصوري والمحاكمة العقلية ، فيفترض أنه لو كان الزمان محدثاَ وليس قديماً ، سيلزم عن ذلك أن يكون قبل الزمان زمن سابق عليه ، ولكن (قبل وبعد ) تصوران يفترضان وجود الزمان ذاته ، فالزمان إذاً قديم لا بداية له.

ب – انتهى أرسطو إلى أنّ المادة والحركة والزمان مرتبط بعضها ببعض في الوجود ، فلا أحد منها يسبق الآخر ؟ لأنه إذا كانت الحركة فلابد من جسم متحرك ، ولكي يتحرك الموجود فلابد من زمان يتحرك فيه ، ولأن الحركة قديمة ، فإن المادة قديمة ، والزمان قديم أيضاً .

ثالثاً – نظرية الفيض عند أفلوطين : 1- ولد ” أفلوطين ” في مصر في القرن الثالث الميلادي ، اعتقد أفلوطين أن العالم قديم وليس مخلوقاً من عدم ، فهو أول من وضع نظرية الفيض وفسر فيها كيفية انبثاق العالم عن الله ، أو صدور المتعدد عن الواحد ، وقد تأثر بنظريته الفلاسفة المسلمون فيما بعد

2- رفض أفلوطين أن يكون الله قد خلق العالم المتعدد من عدم ، فالعالم يصدر عن الله كما يصدر الضوء عن الشمس ، وليُفسّر ذلك بدا بقضية عقلية أولية ، هي أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، فأول ما يصدر عن الله هو عقل كلي خالص ، ثم نفس كلّية تفيض عنها هيولى روحانية وأصول بذرية منهما تُوجد جميع الموجودات التي في الزمان والمكان . وهكذا فإنّ جميع الأشياء صدرت عن الواحد الأول في نظام تنازلي متدرج .

رابعاً – حدوث العالم عند الكندي : 1- هو أبو يعقوب يوسف بن إسحاق الكندي ، في زمن المعتصم
( القرن التاسع الميلادي ) لقبه ” فيلسوف العرب “؟ لأنه أوّل الفلاسفة المسلمين على الإطلاق ينتسب إلى قبيلة كِنده العربية .

2- عرف الكندي فلسفة أرسطو وتعمّق في دراستها فوافقه في نظريات كثيرة وخالفه في نظرية قِدَم العالم، حيث برهن الكندي في نظريته على أن العالم مخلوق وليس قديماً ، وأنّ الله هو خالقه ومبدعه من العدم .

3- ولكي يبرهن الكندي على نظريته في حدوث العالم ، استخدم نفس المبدأ الذي استخدمه أرسطو قبله، والذي يقول إنّ الحركة والزمان والمادة مرتبط بعضها ببعض ، و لايمكن لأي واحد منها أن يسبق الآخرين في الوجود ؛ فإثبات حدوث أي من العناصر الثلاثة يكفي لإثبات حدوثها جميعاً ، ومن ثمّ فهي مخلوقة وليست قديمة ، وبذلك يكون العالم مخلوقاً .

4- اعتقد الكندي أن كل قديم لا متناه ، لا بداية له ولانهاية ، والزمان ليس قديماً ، و لايمكن أن يكون بلانهاية؟ لأنه لو كان بلا نهاية لكانت الحركة بلا نهاية أيضاً ، ولكن بما أن الزمن الماضي ينتهي إلى الزمن الحاضر ، وتنتهي الحركة السابقة إلى الحركة الحالية .

إذاً فالزمان والحركة متناهيان ، وبما أنهما متناهيان فالجسم متناه مثلهما ، والعالم المكوّن من هذه الأصول الثلاثة متناه أيضاً ، وبما أنّه متناه ،فهو مخلوق بالضرورة ، خلقه الله من عدم ، فالله مبدع العالم وخالقه << الله مؤيس الأيسات عن ليس >> . و الأيس و الليس هما الوجود والعدم .

خامساً – قِدَم العالم عند الفارابي (نظرية الفيض ) : 1- الفارابي أول فلاسفة المسلمين الذين قالوا بقدم العالم ، وذهب إلى أنّ علة وجود العالم هي الله ، لكن العالم قديم مع الله وليس مخلوقاً ، والله لا يتقدّم على العالم بالزمان ، لأن كلاهما أبدي ، ولكنّ الله يتقدم على العالم بالرتبة والشرف وسبق العلة على المعلول .

2- من ناحية ثانية ، برهن الفارابي بطريقة عقلية أنّ الزمان قديم أيضاً ؟ لأنه لو كان الله متقدماً على العالم بالزمان ، فسيلزم أن يكون قبل العالم زمان كان العالم فيه معدوماً ، وكان قبل الزمان زمان آخر ، وهكذا إلى ما لانهاية ، وهذا ( خُلف ) أو تناقض لا يقبله العقل ، لذلك فالعالم والزمان قديمان مع الله ، ولكنهما دونه مرتبة وشرفاً .

3- ولكي يفسّر الفارابي وجود العالم ، عمد إلى تطوير آراء أرسطو في الموجود ، ونظرية الفيض الأفلوطونية، حيث قسّم الموجودات إلى قسمين : موجودات روحية و موجودات مادية ، وجعل لكل قسم مراتب خاصة به.

سادساً – قدم العالم عند ابن سينا :1- عالج ابن سينا مشكلة العالم من خلال نظرية الفيض التي يبيّن فيها علاقة واجب الوجود (الله) بممكن الوجود (العالم) ، وخالف أرسطو الذي قرّر قدم العالم بالذات وبالزمان، يقول ابن سينا أن حصول الممكن هو نتيجة لفعل الواجب ، وعليه يكون العالم قد صدر عن الله منذ الأزل .

2- وحسب ابن سينا : لايجوز أن يتأخر العالم عن الله بالزمان ؟ لأنه لو وجد الله ثم وجد العالم بعده لكان بين الموجودين زمان فيه عدم ، وستنتج عن هذا مشكلة السبب المرجح الذي أدى إلى الشروع في الخلق بعد الامتناع عنه ، وسيعني هذا أنّ الإرادة الإلهية أصابها التغيّر ، وهذا مما لايجوز على الذات الإلهية .

3- وينتهي ابن سينا إذاً إلى أن العالم قديم بالزمان مساوق لقدم الله الذي يتقدم على العالم بالذات والشرف و المعلولية .

سابعاً – حدوث العالم عند الغزالي : 1- اتخذ الغزالي موقفاً نقدياً من الفلاسفة القائلين بنظرية الفيض ؟ لأن العالم عنده كما عند الكندي مخلوق من العدم ، والله هو خالقه وموجده ، معتمداً على موقف العقيدة الإسلامية ، داعماً لها بالأدلة والبراهين العقلية التي تثبت أن العالم حادث وليس قديماً . ومنها:

1- إمكان صدور الحادث عن القديم : فالعالم مليء بالحوادث التي تصدر عن علل سابقة عليها ، ولو أن الحادث لا يصدر إلا عن حادث لاستمرت هذه السلسلة إلى ما لانهاية ، وهذا خلف مناقض للعقل ، إذاً لابد من علة قديمة سابقة عليها ، والقول بحدوث العالم عن علة قديمة هي الله لا يناقض التفكير الصحيح .

2- حدوث الزمان : انتقد الغزالي حجج القائلين بقدم الزمان ، واعتبره مجرد توهم لفظي لا يقوم على أساس منطقي صحيح ؟ لأن الزمان واحد ، وهو حادث بحدوث العالم ، ولأن الزمان حادث فلا يمكن أن يوجد زمان قبله .

ثامناً – التوفيق بين القدم والحدوث عند ابن رشد : 1- رأى ابن رشد أنه لايوجد في الآيات القرآنية على ما ينصّ على أنّ الله خلق العالم من عدم محض ، حيث تشير بعض الآيات إلى موجود سابق على خلق العالم، لذلك اعتقد ابن رشد بوجود مادة أولية قديمة خُلِق منها العالم ، والله هو خالق العالم وصانعه .

2- حاول ابن رشد أن يعيد الخلاف بين الفلاسفة و الأشعرية في قضية قِدَم العالم أو حدوثه إلى الاختلاف في اللفظ والتسمية ، حيث رأى أنّ كل الفلاسفة متفقون على أنّ الله قديم لم يسبقه شيء ولم يتقدمه زمن ، وأنه موجِد الكل وحافظه . والفلاسفة متفقون أيضاً على حدوث الأجسام التي ندركها بالحواس ، وأنها معلولة لغيرها ومسبوقة بزمن .

أما الخلاف بين الفلاسفة و الأشعرية فيقع على ما يتوسط بين الله والموجودات ، أي (العالم بكليّته أو الكون بأسره )، فذهب بعضهم إلى أنه قديم مع الله الذي أوجده ، ورأى آخرون أنه حادث ؟ لأنه شبيه بالأجسام المحدثة و قائم بها . لذلك انتهى ابن رشد إلى أن الكون ليس قديماً بالمعنى الدقيق ؟ لأنّ له خالقاً ، وليس محدثاً بالمعنى الدقيق ؟ لأنه ليس ثمة زمان متقدم عليه . فالعالم قديم في مادته محدث في صورته .

تاسعاً – المبادئ العقلية و البحث في أصل الوجود :

1- اعتمد الفلاسفة القدماء في نظرياتهم حول أصل الوجود على مرجعين اثنين ، هما : آراء ونظريات علم الفلك القديم أولاً ، والتأمل العقلي المدعوم بالملاحظة المباشرة لظواهر الكون ثانياً ،
وانتهوا جميعاً إلى أنّ العالم قديم ، وأنه لم يوجد من عدم ، وترتّب على ذلك أنّ المادة والحركة والزمان كلها قديمة ، لأنها موجودة مع العالم ومتصلة به .

2- أما الفلاسفة الإسلاميون فقد أضافوا مرجعاً جديداً حول أصل الوجود ، هو العقيدة الإسلامية
و ما تضمنته آيات القرآن الكريم ، فوضعوا نظريات موسعة حاولوا التوفيق فيها بين الأدلة النقلية من القرآن الكريم و الأدلة العقلية في الفلسفات القديمة .

وانتهوا إلى ثلاث فرق : الأول فريق وافق القدماء في القول بقدم العالم مثل الفارابي وابن سينا ، والثاني خالف القدماء ووضع نظرية تقول بخلق العالم ، وأنّ الله هو صانعه ومبدعه من عدم مثل الكندي والغزالي ، وفريق ثالث حاول التوفيق بين الحدوث والقدم مثل ابن رشد.

3- ورغم اختلاف النظريات الإسلامية في أصل العالم ، فإنها اعتمدت جميعها على الأدلة العقلية والتفكير المنطقي في إثبات وجهات نظرها المتباينة ، فلم يكتف القائلون بالقدم بالنظريات الفلسفية السابقة عليهم،بل طوّروها و أضافوا عليها ، ولم يكتف القائلون بالحدوث بالأدلة النقلية من القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية ، بل برهنوا عليها بالمبادئ العقلية والحجج المنطقية .


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى