أزمة الفلسفة العربية .. بين الغموض والتعقيد
تعاني الفلسفة العربية من أزمة كبيرة ومزمنة. ويمكن الدخول إلى هذه الأزمة من أكثر من مدخل، ولهذا السبب توجد العديد من الدراسات التي تناولت هذه الأزمة بعدد هذه المداخل، وتنوعت بحسب تنوعها.
وفي كل الأحوال، فإن المداخل جميعها يمكن أن تندرج تحت مبحثين: الإبداع والتلقي. فقضايا الإبداع الفلسفي ترتبط بالتمييز بين دراسة الفلسفة وبين ممارسة فعل التفلسف، ويكون الحل دائما في البحث عن الكيفية التي يمكن أن يتحول بها المفكّر العربي من مرحلة الدرس الفلسفي إلى مرحلة التفلسف.
وهي مسألة من الصعوبة بمكان حيث وقفت معظم الدراسات التي عُنيت بهذه القضية عند حدود الدعوة إلى التفلسف دون أي محاولة حقيقية لممارسة فعل التفلسف. كما يدخل في سياق هذه القضايا ما تعلق بقضايا الترجمة وإشكاليات المصطلح الفلسفي، والطريقة المثلى لنقل المصطلح من لغة إلى أخرى ومن بيئة إلى أخرى.
وقضايا التلقي ترتبط بصعوبة الفهم، وعزوف القارئ عن تلقي الخطاب الفلسفي، خاصة في صيغته الأكاديمية المتخصصة، وهي مسألة تثير إشكاليات الغموض والتعقيد في النص الفلسفي. والحقيقة أن كلا المدخلين لأزمة الفلسفة العربية مرتبطان ببعضهما البعض، ذلك لأن أزمة التلقي تجد حلها في حل أزمة الإبداع.
وفي هذا المقال سنحاول إلقاء الضوء على أزمة الغموض والتعقيد في النص الفلسفي، وكيفية الخروج من هذه الأزمة، إيمانا منا بضرورة العمل على مد جسور التواصل بين الإبداع والتلقي الفلسفيين، حتى يمكن للفلسفة أن تقوم بدور فاعل في التغيير الاجتماعي والسياسي والفكري.
ولأن من أكثر النتائج سلبية لغموض الفلسفة وتعقيدها، هو بعدها عن واقع الحياة ومشكلات الإنسان اليومية، فقد وقفت عند حدود النظر والتجريد دون تحقيق أي مردود عملي على أرض الواقع.
ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليها أن أزمة الفلسفة بهذا المعنى، إنما هي أزمة عامة تخص المنجز العربي والغربي على السواء، لأن مسألتي الغموض والتعقيد هما من المسائل التي تطال النص الفلسفي الغربي على مدار تاريخه.
غير أن الفارق إنما يكمن في أن مفكري الغرب قد فطنوا إلى هذه الأزمة وقاموا بمحاولات عملية ناجحة في سبيل تبسيط الفلسفة للقارئ العام من ناحية، وفي الاقتراب بالفلسفة من قضايا الحياة اليومية من ناحية أخرى.
وبهذا المعنى فإنه بالرغم من تناولنا لأزمة الفلسفة العربية، إلا أننا سنستعين بالكتابات الغربية التي أسهمت في هذا السياق، من أجل استلهام الحل لأزمتنا الخاصة.
الغموض في اللغة هو الإبهام وعدم الوضوح. والغموض الفلسفي يأتي من أن عدة الفلسفة ليست سوى مفاهيم ذات دلالات محددة عن هذا الفيلسوف أو ذاك أو في الفلسفة عموما ولا يستطيع الجاهل بهذه المفاهيم وبما صدقها أن يفهم النص الفلسفي فتقع الشبهة في الفلسفة بأنها تقول ما لا يُفهم. (أحمد برقاوي، الكتابة والغموض، صحيفة العرب الإلكترونية، 6/6/2017).
إذا كان الغموض يرتبط بلغة الخطاب الفلسفي، فإن التعقيد يرتبط بمضمون هذا الخطاب. وإذا كان الغموض اللغوي يأتي من طغيان اللغة المفاهيمية الصعبة التي يستخدمها المشتغلون بالفلسفة، فإن التعقيد إنما يأتي من طغيان القضايا الكلية الكبرى على البحث الفلسفي.
فالقضايا الأنطولوجية وتلك ذات الطابع الميتافيزيقي من شأنها أن تصرف القارئ العام عن قراءتها فضلا عن استيعابها والتعاطي معها.
ويرى نيجل وربورتون، وهو واحد من المتخصصين في تبسيط الفلسفة للعامة، أن الوضوح هو أن تعبّر عن نفسك بطريقة تسمح للقراء باستيعاب ما تقول. فالوضوح يسهم في تقليل سوء الفهم، في حين أن الغموض يضع بعض القراء في حيرة من قصدك.
وإذا كانت هناك بعض الأنواع من الكتابة التي لا يُعد فيها الغموض عيبا، لأن بعض الكتاب يكون الهدف من كتاباتهم أن تُفهم بطرق متعددة، فإن كنت لا تفهم بالتحديد قصد من تحاوره، فكيف ستناقشه؟ (رقية التهامي، أهمية الوضوح في الفلسفة، الباحثون المصريون، 31/8/2017).
وفي المقابل يرى محمد عابد الجابري أن الفلسفة ليست غامضة كما يشاع، وإنما -على العكس- الفلسفة هي التي تعمل على إزالة الغموض. فالفلسفة ليست إذن خطابا غامضا،
بل هي خطاب ضد الغموض الذي يستتر وراء وضوح بادئ الرأي، ضد الوضوح الذي يقبله الناس مجانا من اللغة اليومية، لغة المشهور، لا بل لغة الإشهار والموضة. (محمد عابد الجابري، راهن الفكر الفلسفي).
وإذا انتقلنا إلى مفهوم التعقيد فلن نجد له أي حضور كبير لدى المعنيين بأزمة الفلسفة بنفس درجة حضور مفهوم الغموض. والتعقيد لغة هو تأليف الكلام على وجه يعسر فهمه لسوء ترتيبه وهو التعقيد اللفظي، أو لاستعمال مجاز بعيد العلاقة، أو كناية بعيدة اللزوم وهو التعقيد المعنوي. (معجم المعاني).
والتعقيد (Complexity) عكس التبسيط والبساطة. والتعقيد والمعقد يترافق دوما مع مصطلح المتركب والمركب (Complicated).
وعملية التعقيد تتضمن ارتباطا وثيقا بين عناصر مختلفة لتشكيل اعتمادية متبادلة وتشكل كلا واحدا يؤلف جسما له خاصيات جيدة، خصائصه أكبر من مجموع صفات المكونات. أما التركيب فهو عبارة عن عملية تطوي الأجسام لإخفاء أوجه من بعض المكونات وإظهار أخرى. (ويكيبيديا).
وربما يأتي الغموض من التعقيد، فكلما كانت المفاهيم الفلسفية المستخدمة أو المباحث موضوع التفلسف أكثر تعقيدا كانت أكثر عرضة للالتباس وإساءة الفهم. والاتجاه إلى محاولة التبسيط الفلسفي كان المحور الأساس في فكر ديكارت أبو التنوير في القرن الثامن عشر.
ويمكن النظر إلى مقولة التعقيد كمقولة فلسفية متداولة منذ ولادة العقلانية الديكارتية، حيث سيمنحنا ديكارت ولأول مرة فكرة جديدة عن البساطة، في مقابل التعقيد. وهذا الأمر يقوم بالأساس على استدلالين: يستند الأول للبساطة تبعا لقاعدة البداهة (الوضوح والتميز).
ويقوم الاستدلال الثاني على مبدأ الاستنباط. من خلال البرهنة على وجود حركات خطية متصلة، تعتمد على مبدأ العلية. (مصطفى قشوح، تطور براديم التعقيد).
والمدهش في الأمر أن هذا البراديم الديكارتي للبساطة تم تجاوزه في الفلسفة المعاصرة، وحل محله براديم التعقيد على يد إدغار موران، الذي يرى أن التعقيد جزء من أي ظاهرة، فلا يمكن أن تفصل الخاصية التعقيدية عن كل ظاهرة. ومن هنا يدعونا موران إلى ضرورة البحث عن فكر مركب أساسه التعقيد في مقابل البساطة.
فالتعقيد هو نسيج أو مجموعة من المكونات المتناثرة، والمجموعة بشكل يصعب التفريق بينها. وهذا البراديم هو وسيلتنا الوحيدة لتحقيق نوع من التداخل والتناهج المفتوح بين المعارف والعلوم.
والملاحظ أن قضية البساطة والتعقيد في التاريخ الفلسفي منذ ديكارت وحتى موران إنما هي إشكالية إبستيمولوجية تعنى بالكيفية التي يمكن أن تتحقق بها المعارف اليقينية.
ولم تكن إشكالية خاصة بالخطاب الفلسفي أو البحث الفلسفي، أي أن الفلسفة في حد ذاتها وأزمتها لم تكن هي المستهدفة من الأطروحات المعرفية التي قدمها الفلاسفة خلال القرنين الماضيين.
وبهذا المعنى يمكننا أن نعود إلى إشكاليتنا الخاصة لنعيد طرحها وفق فهمنا الخاص للأزمة، وفي ضوء الفكر الغربي الذي يمكن أن يمدنا بالدعم النظري المؤيد لوجهة نظرنا، فإذا كان الغموض يرتبط بلغة الخطاب الفلسفي، فإن التعقيد يرتبط بمضمون هذا الخطاب.
وإذا كان الغموض اللغوي يأتي من طغيان اللغة المفاهيمية الصعبة التي يستخدمها المشتغلون بالفلسفة، فإن التعقيد إنما يأتي من طغيان القضايا الكلية الكبرى على البحث الفلسفي. فالقضايا الأنطولوجية وتلك ذات الطابع الميتافيزيقي من شأنها أن تصرف القارئ العام عن قراءتها فضلا عن استيعابها والتعاطي معها.
من هذا المنطلق نقترح لونا من التفلسف يخاطب الإنسان العادي ويهتم بقضاياه اليومية. ونحن هنا لا نرمي إلى حصر الفلسفة في هذا الجانب الذي قد يبدو بسيطا وضيقا من الوجود، ولكننا نرمي فقط إلى تأسيس لون خاص من التفلسف بجانب التفلسف التقليدي في صيغته العلمية الأكاديمية.
ولكي نحقق هذا الهدف ينبغي أن نعمل على حل إشكاليتي الغموض والتعقيد سالفتي الذكر.
بالنسبة للغموض، فإن السبيل إلى تجاوز هذه العقبة إنما يكون من خلال الاستفادة من اللغة الأدبية، واعتماد السرد أسلوبا للتعبير عن الفكر الفلسفي أو المضامين ذات الأبعاد الفلسفية.
والحقيقة أن ارتباط الفلسفة بالأدب ليس بالأمر الجديد، فكثيرا ما كانت تحمل الأعمال الأدبية مضامين أو رؤى فلسفية ما كان من الممكن أن تصل للجمهور العام أو حتى المثقف لولا التعبير عنها في قالب شعري أو روائي أو مسرحي، وتاريخ الأدب العالمي يشهد بذلك.
وربما كان المثال الأبرز -في هذا السياق- هو الفلسفة الوجودية التي تحقق لها الانتشار الواسع بين القراء من خلال تجسيدها في أعمال أدبية ذات رواج وشهرة كبيرين، خاصة لدى سارتر وكامي، وبصفة أخص في أعمال من قبيل “الغثيان” و”الجلسة سرية” للأول، و”الغريب” و”الطاعون” للثاني.
غير أننا لا نقصد -تحديدا- إلى هذا اللون من الأدب، ولكن نقصد إلى الأسلوب، أي أن يكون السرد والصورة الشعرية هما الأساس حتى لو كان الشكل النصي بحثا أو مقالة، ولعل نيتشه من أكثر الفلاسفة الذين انتهجوا هذا الأسلوب في كتاباته الفلسفية.
خاصة “هكذا تكلم زرادشت”، الذي قيل في وصفه “لعل ما يميز هذا الكتاب عن المؤلفات الفلسفية جميعها تقريبا هو طابعه الأدبي الشعري الذي يجعل منه كتابا ‘للجميع′ كما يسميه صاحبه ولعله لا بد أن نعود أكثر من ألفي سنة إلى الوراء.
أي إلى أفلاطون كي نعثر على كتب فلسفية محررة بشكل أدبي يمكن أن يجعل منها كتبا للمطالعة تستطيع أن تكون في متناول الجميع″ (علي مصباح، توطئة الكتاب، 2007).
كما يعتبر زكي نجيب محمود -في رأينا- واحدا من الفلاسفة العرب القليلين الذين كانوا يكتبون الفلسفة بلغة أدبية جذابة، حتى أنه جعل بنية كتابه “المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري” مستمدة من الصورة الأدبية البديعة لوصف النور الإلهي على نحو ما وردت في القرآن الكريم.
والحقيقة أن المعنيين بالشأن الفلسفي في الغرب فطنوا إلى هذه الحقيقة، فصدرت العديد من المؤلفات التي تحاول أن تقرّب الفلسفة وتاريخها إلى القارئ العام بأسلوب أدبي يخلو من التعقيد مثل رواية “عالم صوفي” لجوستاين غاردر، و”فكر بنفسك” لينسن زونتجن و”تعلم الحياة” للوك فيري.
ويعد كتاب غاردر عملا روائيا بامتياز لأنه يحتوي على حكاية وشخصيات وحبكة، لكن الملفت أنه يطرح تاريخ الفلسفة كله في سياق هذه الحبكة بأسلوب أدبي بسيط وجذاب من خلال فتاة صغيرة تدعى صوفي أمندسون تكره الدروس المدرسية التقليدية والحياة اليومية الرتيبة في المنزل.
وتبدأ في طرح أسئلة فلسفية عفوية على نفسها، ثم -وبحيلة فنية-تتلقى الإجابات عن طريق رسائل تتلقاها عبر صندوق البريد من شخص مجهول، يعرف تاريخ الفلسفة وينقله إليها بأسلوب جذاب يناسب سنها.
والكاتب في الحقيقة عندما يقوم بهذا السرد إنما ينقل للقارئ العادي تاريخ الفلسفة وقضاياها المعقدة بطريقة تخلو من التعقيد. وأهم ما يميز هذه الرواية -رغم بساطتها- هو قدرة الكاتب على المزج بين ما هو فلسفي وما هو حياتي ويومي بطريقة مدهشة.
فيمكن أن نقرأ فقرة من هذا القبيل “ما هو الشيء الأهم في الحياة؟.. إذا ما وجهنا هذا السؤال لرجل لا يجد ما يشبع جوعه، سيجيبنا أنه الطعام.
الذي يرتجف بردا سيقول إنها الحرارة، أما الذي يعاني من الوحدة فسيجد أنها صحبة البشر الآخرين.. لكن هناك شيء آخر نحتاجه كلنا: هو أن نعرف من نحن، ولماذا نعيش؟”. (الرواية، ص 19).
وخلافا للتاريخ النظري للأفكار الفلسفية الذي يقدمه غاردر في روايته المشار إليها يهتم زونتجن، العالم الألماني الفيزيائي، بتطبيقات الفلسفة في المجالات المختلفة، ومن ثم بكيفية التفكير وبما يفعله الفلاسفة حين يتفلسفون.
وفي هذا الصدد يقول د. عبدالسلام حيدر (مترجم الكتاب في مقدمته) “.. فهو يوصل تطبيقات التفلسف الأكثر تأثيرا بشكل غير مجرد، وإنما مثل لعبة مسلية يدعو القارئ للمشاركة فيها، وهو يستخدم في هذا لغة طازجة لا يخشى الإفادة من اللهجات الألمانية المتنوعة، وقد اقتضى الأمر منا أن نجاريه”.
والحقيقة أن كتاب زونتجن تكمن أهميته بالنسبة إلى موضوعنا في أنه قام بإعادة كتابة كتاب “الجدل” لأرسطو بشكل عصري يمكن أن يفيد منه القارئ غير المتخصص، خاصة أنه تكثر فيه من الأمثلة والألعاب أو التمارين الفكرية التي تجعل من التفلسف مهارة عملية قابلة للتعلم والتطبيق.
وفي هذا السياق يقول “.. إن كل التطبيقات تهدف إلى إضعاف التبعية لآراء الآخرين، فهي تفتح مجالات للخواطر والأفكار، وتشحذ القدرة على الحكم. وفي هذا تكمن طاقتها المحررة، فهي تزيد القدرة على التفكير الذاتي وإعمال الفكر”.
وإذا كان غاردر يقدم لنا الفلسفة بلغة أدبية من خلال الإطار الروائي، ويقدم لنا زونتجن الفلسفة عبر الأمثلة والألعاب المسلية والنماذج التطبيقية، فإن لوك فيري في كتابه “تعلم الحياة” يقدم لنا الفلسفة من خلال الخطاب الشفاهي الذي اعتمد فيه على لقاءاته المباشرة مع الناس، الذين كانوا لا يستسيغون الفلسفة ويطالبونه بمزيد من الشرح والتبسيط.
وقد كان هذا الكتاب نتاجا لهذه اللقاءات الشفهية بعد إعادة تنظيمها وصياغتها في شكل كتاب، كما كان استجابة منه للشكوى المتكررة من القراء الذين كانوا لا يستطيعون فهم ما يكتبه في مؤلفاته السابقة.. فكيف استطاع فيري أن يصوغ نصا فلسفيا يخاطب عامة الناس؟
يجيب فيري بأن ذلك تحقق “.. بالذهاب نحو ما هو أساسي دون الاستعانة بكلمات أو اقتباسات معقدة، وكذلك بدون تلميحات إلى نظريات غير معروفة من المستمعين إليّ. ولدى تقدمي شيئا فشيئا في سرد تاريخ الأفكار أدركت أنه لا يوجد في المكتبات ما يعادل ذلك المقرر الذي كنت بصدد تكوينه كما تيسّر دون الاستعانة بمكتبتي”. (الكتاب، ص 13).
هذا، ويقدم فيري مجموعة من الأفكار الهامة في ما يتعلق بعلاقة الفلسفة بالجمهور العام، منها أن الفلسفة ينبغي أن تكون في عداد “الثقافة العامة” مثل تاريخ فرنسا وبعض المرجعيات الأدبية، والشذرات التي نجمعها من علمي الأحياء والفيزياء.
كما يرى ضرورة أن يلم كل إنسان -مهما كان تخصصه- بشيء من الفلسفة، لأن كل أفكارنا ومسلماتنا وقيمنا تندرج، دون أن ندري، ضمن رؤى للعالم تشكّلت وتماسك بنيانها عبر تاريخ الأفكار. ليس هذا فحسب ولكنها تستطيع أيضا، وببساطة، مساعدتنا على العيش بشكل أفضل وأكثر حرية.
هذا بالنسبة للشق المتعلق بتجاوز إشكالية الغموض، فماذا عن إشكالية التعقيد؟ كما ذكرنا، فإن التعقيد في الفلسفة، يرتبط غالبا بالمضمون، أي بالموضوعات التي تتناولها الفلسفة والتي تشكل قضايا ميتافيزيقية كبرى يعجز الإنسان العادي أو القارئ غير المتخصص عن استيعابها.
والحل هنا إنما يكون بتسليط الضوء الفلسفي على القضايا الصغرى، التي ترتبط -في الغالب- بالحياة اليومية وتتماس مع اهتمامات الرجل العادي. وأيضا لن نعدم كتابات عديدة في هذا السياق لدى التراث الفلسفي الغربي خاصة المعاصر منه.
وهنا يمكننا الاستعانة بثلاثة أمثلة هامة لفلاسفة كبار لهم باع طويل في الكتابة الفلسفية الأكاديمية والمتخصصة، ومع ذلك نجحوا في الخروج بتحليلاتهم الفلسفية العميقة إلى قضايا الحياة العامة الأرحب، وتناولوا قضايا يومية بسيطة.
والأمثلة هي “أساطير الحياة اليومية” لرولان بارت، و”في مدح الكسل” لبرتراند راسل، و”فلسفة الضحك” لهنري برغسون.
“أساطير الحياة اليومية” هي مجموعة من المقالات أو النصوص التي كتبها بارت منفصلة، بمعدل نص واحد كل شهر خلال عامي 1954 و1956. وأهم ما يشير إليه بارت في هذا الصدد أن اختيار الموضوعات كان عشوائيا ولا يخضع لأي خطة مسبقة، لأن الأمر كان يتعلق بالحالة الراهنة كما كان يراها.
وبهذا المعنى كانت الموضوعات شديدة التنوع بحيث كان من الممكن أن تتناول موضوعات من قبيل: مقالة صحفية، صورة من مطبوعة أسبوعية، فيلم، عرض مسرحي، معرض رسم.. إلخ.
وكان دافع بارت لتناول هذه الموضوعات هو البحث عن الدلالة المختبئة تحت السطح الظاهر في كل مظاهر الحياة الثقافية اليومية، فالرسالة التي ترسلها وسائل الإعلام هي رسالة مخادعة تظهر شيئا وتبطن شيئا آخر، وهي بذلك تصنع أسطورتها الخاصة.
فالأسطورة -كما يفهمها بارت- ليست تلك الموجودة في الأزمنة السحيقة، ولكن الأسطورة موجودة بيننا الآن، في كل ما هو مألوف ويومي. وفي هذا الصدد يقول “في هذا الكتاب شيئان: الأول عبارة عن نقد إيديولوجي للغة الثقافة، المسماة بالثقافة الجماهيرية.
والثاني تفكيك سيميولوجي أولي لهذا اللغة. لقد فرغت لتوي من قراءة سوسير، وخرجت بقناعة هي أننا حينما نعالج “التصورات الجماعية” باعتبارها منظومات علامات، يمكننا أن نأمل بالخروج من الإدانة الورعة وتوضيح تفاصيل الخداع الذي يحوّل الثقافة البرجوازية الصغيرة إلى طبيعة شاملة” (ص 9).
يطرح بارت قضية شديدة الأهمية والخطورة وهي “أسطورة الحياة اليومية”، فالأسطورة العصرية بهذا المعنى عبارة عن صناعة أيديولوجية محبوكة بمهارة من أجل تصدير الزيف وبناء عالم وهمي يستند إلى حواس بليدة وغير مدربة، غير أن أهمية كتاب بارت بالنسبة إلينا أبسط من ذلك بكثير.
وهي استمداد المشروعية من أجل إنتاج خطاب فلسفي يتناول أشياء شديدة البساطة والحميمية في حياة الناس من قبيل: عالم المصارعة، الحياة الزوجية، إعلانات المنظفات، النبيذ والحليب، المطبخ الزخرفي، الاستريبتيز، التنجيم، السيارة السيتروين.. إلخ.
أما أن تكون الدراسة سيميولوجية أو فينومينولوجية أو تفكيكية أو بنيوية.. إلخ، فهذه مسألة تخضع لحرية الكاتب في الاختيار طالما أن الموضوع – في النهاية- سيكون مما يرتبط بحياة الناس الواقعية.
في كتاب “في مدح الكسل” يقدم لنا الفيلسوف الإنكليزي الكبير الذي اشتهر بكتاباته الدقيقة والعميقة في مجال الرياضيات والمنطق، مقالا طريفا وجديدا في بابه. فهو يتحدث عن الكسل بوصفه فضيلة، وعن العمل باعتباره رذيلة.
ولأن راسل فيلسوف كبير، فهو لا يقدم مقاله على سبيل المزاح، لكنه يطرح قضية لا تخلو من أهمية وجدية. إن راسل يرى أن إنسان العصر الحديث لم يعد في حاجة إلا أكثر من أربع ساعات للعمل، وأن ينعم بعد ذلك بالفراغ الذي سيتحقق له بعد تقليل ساعات العمل.
وحجة راسل في هذا الطرح أن الثورة الصناعية، والتقدم العلمي والتقني الكبير الذي تحقق للبشرية كفيلان بتحقيق حجم الإنتاج المطلوب لأن يحيا البشر جميعهم في سعادة، خاصة إذا تحقق التوزيع العادل للثروات.
والمفارقة أن راسل عندما يتحدث عن الفراغ، لا يتحدث عنه بوصفه مرادفا للبطالة، بل على العكس، تعتمد رؤية راسل على استغلال وقت الفراغ في ممارسة أعمال أخرى يفضلها كل إنسان بحسب رغبته،
فمن يحب الموسيقى يستطيع تعلمها وممارستها بحرية ومتعة طوال وقت الفراغ الذي سيزداد حجمه إذا ما تحققت رؤية راسل، ونفس الشيء سينطبق على كافة المجالات سواء أكان رياضة أم فن أم علم.
ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليها أن أزمة الفلسفة بهذا المعنى، إنما هي أزمة عامة تخص المنجز العربي والغربي على السواء، لأن مسألتي الغموض والتعقيد هما من المسائل التي تطال النص الفلسفي الغربي على مدار تاريخه.
غير أن الفارق إنما يكمن في أن مفكري الغرب قد فطنوا إلى هذه الأزمة وقاموا بمحاولات عملية ناجحة في سبيل تبسيط الفلسفة للقارئ العام من ناحية، وفي الاقتراب بالفلسفة من قضايا الحياة اليومية من ناحية أخرى.
وتتلخص رؤية راسل في هذه الفقرة “يجب الإقرار بأن الاستغلال الحكيم للفراغ هو نتاج المدنية والتعليم وأن الإنسان الذي اعتاد على العمل ساعات طويلة يصيبه الملل لو أنه أصبح متعطلا بين يوم وليلة.
ولكن بدون جانب كبير من الفراغ يجد الإنسان نفسه محروما من الكثير من أطايب هذه الحياة. لم يعد هناك داع لكي يعاني غالبية الناس من هذا الحرمان. والتقشف السخيف الذي يحمل طابع التضحية هو الذي يجعلنا عادة نستمر في الإصرار على العمل بكميات ضخمة رغم أن الحاجة إليها لم تعد قائمة” (ص 28).
وليس هناك شك في أن القارئ العادي لن يفكر مجرد تفكير في أن يقرأ كتابا لراسل يدور حول الرياضيات أو المنطق، لكنه في المقابل لن يتردد في قراءة كتاب يتحدث عن الكسل والفراغ وكيفية توفير الوقت للاستمتاع بالحياة وممارسة الهوايات.
وإذا كان بارت يتحدث عن الثقافة بعامة من خلال بعض مظاهر تجلياتها في الحياة اليومية، وحدثنا راسل عن لون مهم من ألوان النشاط الإنساني وهو العمل، فإن برغسون يخوض تحديا فلسفيا أكبر عندما يقدم على دراسة ظاهرة الضحك بوصفها ظاهرة إنسانية بامتياز، فلا شيء هزليا خارج ما هو “بشري” بشكل خاص على حد تعبيره.
ورغم طرافة وغرابة الموضوع فإن المترجم يحرص على إبراز البعد الجدي فيه عندما يقول “.. فالضحك مطلب فردي واجتماعي، خصوصا في الأزمات المتمادية، ولكن كتاب الضحك هذا ليس أداة تسلية، الأولى أن يكون حافز تفكير.
هذا الكتاب لا يُقرأ إلا في حالة من النشاط قوية. فاللغة وأسلوب المعالجة ومضمون الأفكار يقتضي ذلك” (د. علي مقلد، ص 5).
وفي السطور الأولى من الفصل الأول يحدد برغسون أسئلته التي يشرع في الإجابة عنها في الكتاب، وهي: ماذا يعني الضحك؟ ماذا يوجد في عمق الشيء المضحك؟ ماذا يوجد من شيء مشترك بين تكشيرة المهرج، والتلاعب بالكلام، وغمز المسرح الهزلي، ومشهد الكوميديا الذكية؟
ما هو هذا التقطير الذي يعطينا روح العطر، الدائم الذاتية، والذي تأخذ منه المستحضرات المتنوعة: أما رائحتها المزعجة أو عطرها الناعم؟
ومن الواضح أنه بحث ماهوي يهدف إلى الوصول للمعنى الكلي للضحك، وللبنية الثابتة والمشتركة لمظاهر الضحك أو الهزل.
وهو بحث فلسفي بالمعنى الدقيق رغم غرابة الموضوع واقترابه من ذائقة القارئ العادي إلى درجة الابتذال، غير أن برغسون -مثل مترجمه- يحرص على إبراز جدية الموضوع بل احترامه له، فيقول “… إننا لا نهدف إلى حبس الأصالة الهزلية ضمن حد أو تعريف.
إننا نرى فيها، قبل كل شيء، شيئا حيا. ونحن نعالجها، مهما كانت حقيرة، بما يتوجب من احترام للحياة… ونحن لن نحتقر شيئا مما سوف نرى. وربما سنربح، من خلال هذا الاتصال المباشر، شيئا أكثر مرونة من تعريف نظري” (ص 9).
وأخيرا، يمكننا أن نقول إننا ربما لا نعدم أحدا من مفكرينا العرب ممن يستخدمون اللغة الأدبية، البعيدة عن التعقيد، في تعبيرهم عن أفكارهم الفلسفية، لكننا -للأسف- ربما لا نجد من يجرؤ على إلقاء الضوء الفلسفي على موضوعات يومية تبدو هامشية ومبتذلة.
ماهر عبد المحسن – كاتب من مصر.