فكر وفلسفة

الرواقية والدراية الفلسفية 

تنشأُ الأفكار الفلسفية والمنظومات المعرفية على كنف أصحابها وتحملُ مواصفات شخصياتهم لذلك يقول “علي حرب” أنَّ كل فلسفة هي تجربة ذاتية، وبالتالي لاتنفصلُ مفاهيمها عن حيثيات الواقع الذي يختبره صانُعها ومن هنا تأتي أهمية الحفر في سيرة الفلاسفة وتحديد تَمثُلاتها على رؤية هؤلاء للمعطيات الوجودية.

لعلَّ مسيرةَ الفيلسوف الروماني إبكتيتوس تعبرُ عن الترابط الأمثل بين المقولات الفلسفية والمناخ المُحاط بحياة الفرد فقد ذاق صاحبُ “المحادثات” قساوة العبودية فكانت أمه عبدةً ولم يعرف والده، وما أنْ يبلغ الخامسة عشرة من عمره حتى يتم سوقه إلى روما حيثُ بيعَ .

صادف أنْ شهدت الأمبراطورية الرومانية أنذاك تحولات على المستوى السياسي الأمر الذي أتاح له فرصة التنقل والحركة إذ تتلمذ على يد ميزونيوس روفوس الذي قد ساد صيته بوصفه أشهر معلمي الأمبراطورية على الإطلاق ومايلبثُ طويلاً حتى ينضمَ إبكتيتوس إلى صف الفلاسفة.

وذلك بالتزامن مع انعتاقه ويبدأُ بإلقاء دروسه مقتفياً مسلك الرواقيين في مذهبه الفكري. وعندما يشنُ الأمبراطور دوميتيان حملة طرد الفلاسفة يشدُ إبكتيتوس رحاله نحو مدينة واقعة في بلاد اليونان.

وهناك أسس مدرسة استقطبت طيفاً واسعا من الشبيبة وبذلك أصبح إبكتيتوس من رواد الفلسفة الرواقية ومن المعلوم أنّ الغرض من التفلسف لدى الرواقيين هو اكتساب المناعة الذاتية والتمكن من حسن التدبر في ممارسة الحياة.

إذ مقابل سوء الأحوال على الصعيد السياسي وتبعية أثينا لمملكة مقدونيا التفت أقطاب هذه الفلسفة إلى القيم التي تحمي المرء من الشعور بالإحباط ولايكون في مهب العوامل الخارجية المُتقلبة وبذلك تتحققُ الحريةُ.

ويتمُ فك العقد المضنية بخفة. والمتأملُ في محتويات كتاب “المختصر” الذي ترجمهُ عادل مصطفى مُعلقاً على مفرداته. يلاحظُ  الأولوية التي يولها الفيلسوف بمهمة فض التشابك الذهني والإبانة عن الفوضى القائمة في الرأس.

لذلك لابدَّ أن يكون الاهتمامُ منصباً على معرفة مايقع ضمن طاقة الفرد وماهو خارج قدراته.وهذا التصنيف هو مفتاح الخروج من دوامة الخيبة والخذلان والتأسف. إذن فإنَّ الانصراف إلى مالك السلطان عليه يجنبكَ الوقوع في مطبات التوتر النفسي.

  • التمثيل الواقعي

لايسلكُ إبكتيتوسُ منحىً تجريدياً في صياغة مقولاته الفلسفية،بل يستمدُ على منوال أسلافه الرواقيين نواة أفكاره من الواقع حيثُ تتخذُ شذراته طابعاً مشهدياً أقرب إلى مايسمى بالسهل الممتنع في سبكه لفصوصه الفلسفية.

مايسيء إلى الفلسفة برأي أتباع المدرسة الرواقية هو المماحكاة والعدوى الاستعراضية في التنظير “لاتُكثر الحديث بين الجُهال عن نظرياتك بل بينها بالأفعال فإذا كنت في وليمة فلا تَقُل كيف ينبغي الأكل بل كل كما ينبغي” إذن الممارسة هي المحك وليس تكدس الأفكار في صندوق الرأس لذا لايصحَ أن تتحول مهنة التفلسف إلى مجرد شرح لأفكار الغير.

والملمحُ البارز في بنية صياغات إبكتيتوس هو المجاز وهذا يتجلى أكثر في المقاطع التي يقدمُ فيها تظرته لدورة الحياة فهى تترآى له في صورة اللعبة تارة وفي شكل المهرجان تارة أخرى ولا تغيبُ استعارة المسرحية في هذا الإطار،

“تذكر أنك ممثل في مسرحية تمضي مثلما يشاء لها المؤلفُ قصيرةُ إذا شاء لها القصر وطويلة إذا شاء أن تطول” اللافتُ في هذا المقتبس هو التلميح إلى المُحدد الزمني الذي لايتبدلُ بناءً على رغبة الإنسان.

ويُطلقُ لفظُ الجاهل في المذهب الرواقي على منْ لايرتقبُ النفع ولا الضرر من نفسه بل من الأشياء الخارجية.ومايرومهُ الرواقي من اختياره لدرب الحكمة ليس إلا الأخذ بناصية تصرفاته ومراقبة مايكتسبه من المرونة والسلام الداخلي.

وفي ذلك تصحيح للخطأ المُتمثل في نسيان الذات في لجة الانشغالات الحياتية ويفهمُ من ذلك أنَّ الوظيفة الأساسية للفلسفة العملية هي إعادة ترتيب الأوراق المُختلطة على طاولة الحياة.

يعيشُ الإنسانُ معاناة كبيرة مع انطباعاته والأسوء هو الانجراف وراءها باطلاق الأحكام دون التبصر من هنا نفهمُ مؤدى نصيحة إبكتيتوس بضرورة الإدراك أنَّ الانطباع لايعكسُ صورة صحيحة لحقية الأشياء لذا فمن الأفضل “أن تقول لكل انطباع مزعج أنت مجرد انطباع ولست بأي حال ذلك الشيء الحقيقي الذي تُمَثِله” لاجدال بأنَّ الصداقة مكسب ثمين بالنسبة للإنسان.

ويقولُ أبيقور بهذا الصدد ” من بين الخيرات التي توفرها الحكمةُ من أجل تحقيق الحياة السعيدة إنما الصداقة هي أعظمها جميعاً” غير أنَّ في حالة غياب الصديق فمن الحكمةِ أن تكون حشداً لنفسك في الوحدة بدلاً من الانخراط في علاقاتٍ لاتُضيفُ إلى جوهرك بل ربما يرهقُ الروح.

ويهلك الوقت “إذا تسنى لك ربح الوقت ،يسهلُ عليك التحكم في ذاتك” إذن من يباشرُ الفلسفة محتذياً حذو الرواقيين فلا يسئمُ من الوحدة.

  • غاية التفلسف

تتحولُ الفلسفة إلى مجرد رص للكلمات وتخسر فوائدها إذا انتهت بالشق التنظيري، ولايكونُ التفلسفُ متغلغلاً في العيش دون الاشتغال وفقاً للمبدأ السقراطي “إنَّ حياةً لاتخضعُ للنقد لهي حياةُ لاتستحقُ أن تعاشَ” معنى ذلك أنَّ الجودة في الحياة تتطلبُ المراقبة لمراتب الوجود والانصراف عن القشور وفك العقدة الناشبة من الإكراهات الخارجية وتهدئة النفس إضافة إلى إدارة الضوء عن المشاهد التي ليست جديرة بتأمل مكوناتها.

والفوز الأكبر من ممارسة الفلسفة يتجسدُ في فضيلة التواضع وهذا دونه الطريق أما من يكتفي بالسطح فلايؤتى غير الغرور.

وذلك مايسميه إبكتيتوس بالمراهقة الفلسفية الناتجة من “إحتباس أفكار غير مهضومة” يذكرُ أنَّ الفلسفة مهنةُ لاتمتازُ على غيرها من المهن الأخرى والمحكُ في هذا المبحث الوجودي هو حسن الفهم والدراية بأدوات المنطق التحويلي الذي يحيلُ ماليس بفلسفة إلى عمل فلسفي خارق على حد تعبير “علي حرب”

يشارُ إلى أنَّ صاحب “هكذا أقرأ مابعد التفكيك” يرفض عملية تجنيس الأفكار وهنا يلتقي بالروية الرواقية التي تفيد بعولمة الأفكار، ربَّ سؤالٍ يراودُ القارئ  بشأنِ إمكانية أن تكونَ رواقيا في هذا العصر.

وإذا يستحيلُ العيش على نمط أتباع زينون فما الغاية من الاعتصام بكهف الفلسفة ومصاحبة إبكتيتوس ؟ طبعاً أن هذه المواد الفلسفية تفيدُ الإنسان في كل العصور لأنَّ الأفكار تختلفُ عن الأدوات المادية التي ينتهي مفعولها مع نفاد صلاحية الاستعمال.

ولايتمُ الاحتفاظ بها إلا في المتاحف  لذا فمن الطبيعي استعادة الأفكار الفلسفية وتصريف مفرداتها  في سياقات جديدة ولكن ذلك لاينجزُ على سبيل المطابقة والتمذهب لأنَّ الفلسفة كما يقول “علي حرب” هي مراس ذاتي ومعاينة للمسلمات وتعدين للآليات الفاعلة في محترف الحياة.

والأهمُ من كل ماسبق ذكره أنَّ التفلسف يحولُ دون تتوهم بأنَّ الأشباح التي تتراقص على جدار الكهف هي كل الحقيقة.ومايجدر أن يُختمَ به القول أنَّ تتويجَ المشروع الفلسفي بالحرية هو غاية المدرسة الرواقية.

كه يلان محمد

كاتب عراقي؛ متخرج من كلية اللغات بجامعة السليمانية / العراق. ينشر المقالات والمساهمات في المنابر العربية، صدر له كتاب بعنوان "كهف القارئ"؛ من منشورات صفة 7.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى