منبرُنا

الفلسفة وتدبير الأزمات

عرف الإنسان منذ نشأته، أوقاتا تراوحت بين الفرح والحزن، بين الرفاهية والضيق، بين السلام النفسي والعذاب الروحي والجسدي. وقد اهتدى سبلا مختلفة لتجاوز معضلاته وكوارثه، رغم أن الحلول التي يتوصل إليها تكون متباينة من حيث الفعالية.


وهذا السعي إلى تجاوز المحن هو سعي فلسفي بالدرجة الأولى لأنه انطلق من الدهشة والقلق والسؤال.


هناك رغبة أزلية تسكن الإنسان تدفعه إلى الاجتماع والتآلف، من أجل التعاون والتشاور ومواجهة أعتد التحديات، وقد تمكن الإنسان بحكمته أحيانا، وبصبره أحيانا أخرى، أن ينتصر ويخرج من هذه الأزمات بأقل الأضرار، حتى وإن كانت مدمرة ومؤلمة في بعض الأحيان لأنها تودي بحياة الأبرياء.

وهذا ما سماه فولتير بالشر الخالص. لقد اقتنع الانسان منذ القدم بأن السبيل إلى توسيع سلطانه على الطبيعة والزيادة في رخائه، لا يمكن أن يتم إلى بالاهتمام بالعلم والفلسفة ، لأنهما ليسا من أبواب الاستزادة المعرفية فحسب، ولكن أيضا من المداخل الحقيقية لتسليح الانسان بالوعي، والقدرة على التحمل، والعيش بأقل رصيد من الألم.

فالفلسفة على سبيل المثال ومثلما يبدو لي على الاقل، ليست مجرد مادة مدرسية أو تخصص للاسترزاق، بل هي نمط من التفكير لا يقدر بثمن وكيان تحتله الدلالات والرموز وأسلوب للعيش والرقي.

إن الفلسفة وخصوصا في جانبها النقدي لا تظهر إلا عندما يظهر عدم الارتياح للحياة العامة في المجتمع، أو على الأقل قد يكون هذا ما ميز الفلسفة في المرحلة اليونانية. والخطاب الفلسفي عادة لا يصدر عن فراغ، بل هو وليد اضطرابات معينة، ولا أدل على ذلك من المجتمع اليوناني الذي عاش ظروفا بئيسة، ساهمت مساهمة فعلية في نشأة الفلسفة بعدما كانت مجرد سخافة.

والحق أن هذه السخافة استطاعت ان تصمد أمام النفوذ القوي المفروض من طرف أسياد الحقيقة في الثقافة اليونانية كالحاكم والشاعر والعراف.

إذا كان سعي الفلسفة منذ القدم هو الإجابة عن بعض المشكلات بالتأمل والمساءلة والتحليل النقدي، إلا أنها رغم ذلك لا تحمل حلولا سحرية لها، ولا تسعى إلى تقديم العزاء، ولكنها قادرة وببراعة على كشف الحقيقة، ومحو الوهم، وتحدي الصعاب، لتحقيق الأهداف الإنسانية النبيلة التي تجاهد البشرية من أجل بلوغها.

كتزويد الإنسان بالمناعة الكافية وحينها عندما يكتشف الانسان المصير البشري، و الطابع الحقيقي لهذه الحياة فإن ما سيحل به مصائب وخراب، يمكن أن يكون أقل وطأة مقارنة بغيره لأنه مستعد ليتحمل الحياة بخساراتها وانكساراتها، ولا يعد هذا إذعانا بل قدرة خاصة ليست في متناول العوام.

لقد كان النجاح والانتصار والتفوق هو السعي الدائم للإنسان الحق، لأن الانسان حتى وإن كان فاشلا لا يقبل أن تصفه بالفشل، والغباء، والبلادة، لكن ما أبله بعض ممارساته اليومية، التي لا يشعر الفرد المعزول بها لأن الانسان بطبعه يرغب في أن يظهر بصورة جمالية، وغالبا ما يميل إلى تسويغ أفعاله.

لذلك فكل نقد له يعد إزعاجا حقيقيا مهما تظاهر بسعة الصدر وطيبوبة الأخلاق. وكيفما كان تعاملنا مع النقد فإنه سيظل رغم ذلك هو ما يجعل ينابيع الحياة دائمة الجريان، ومع هذا النقد أيضا تصير أغلب القرارات حصيفة في احترام تام للذات وللغير بعيدا عن النظرات الشذراء.

لم يكن تعامل الناس في العصور القديمة مع الوقائع التاريخية ومع الكوارث تعاملا سليما وقد فطن إلى هذا حتى الفنانون التشكيليون مثلما نلاحظ من خلال لوحة الطوفان. فهذه اللوحة المبدعة هي من أفضل أعمال الفنان الفرنسى العظيم ( جوزيف ديزيريه).

وقد سميت بلوحة الطوفان بحيث نلاحظ من خلالها أن رجلا يحاول أن ينقد شيخا من الغرق، بينما ترك إبنه الصغير وزوجته يغرقان. فالشيخ هو رمز للماضي، بينما الطفل الصغير فيرمز للمستقبل، أما الزوجة فهي رمز للأرض والمحبة .

تجسد هذه اللوحة واقع أوروبا خلال القرون الوسطى وقراءة هذه اللوحة توحي منذ الوهلة الاولى إلى الافق الفكري لهذه البلدان المغرقة في الأسطورة، بحيث صممت هذه الحضارة على الارتباط بالماضي، وكنتيجة لهذا الارتباط يمكن أن يغرق الحاضر والمستقبل، وعلى هذا الأساس سيستمر القهر والجوع واضطهاد الإنسان للإنسان.

تزعم الرواقية stoïcisme وهي مدرسة فلسفية قديمة (من روادها سينيكا وزينون و أورليوس) أن الحكمة مصدر السعادة، والمناعة الحقيقية ضد المحن والأزمات، و الشخص الحكيم أسعد الناس لأنه درب نفسه على التعايش معها من منطلق أن التاريخ بني على هذا الأساس : أي العودة الدائمة للآلام بشكل دوري فالفرق فقط في التفاصيل البسيطة وبالتالي يظل التذمر والحزن لا طائل من ورائهما.

بينما رونيه ديكارت فنجده يدعو إلى تكييف الرغبات اذا لم نستطع تغيير نظام العالم، فالنظرة إلى الكون ينبغي أن تبقى نفسها حتى وإن عجزنا عن تطويعه والجمال سيظل حاضرا فيه حتى ولو ظلت الأروقة و المسارح مغلقة.

تناول الأدب أيضا المعاناة والألم، و استحضر هنا غوته وروايته المشهورة آلام فيرتير بحيث ملأ أسماعنا بالصراخ والجنون اللذان رافقا بطل الرواية، وأذكر دوستويفسكي أيضا إذ لا نكاد نتصفح رواية دون أن نسلك معه دروبا عطنة، وأحياء فقيرة حزينة وأقبية باردة متسخة.

ونذكر أيضا البير كامو صاحب رواية الطاعون بحيث قدم فيها درسا حول مسؤولية الإنسان تجاه الانسان في مثل هذه الأوقات، ولخصها في التضامن معه واعتبر في سياق آخر بأن السعادة هي شأن فردي خالص، لأننا ونحن ننظر إلى سيزيف ينبغي الا يشغلنا مصيره مع الصخرة والجبل فمن يدري لعل سعادته تكمن في ذلك الطقس اليومي الرتيب.

إلى جانب السعادة والفرح والبهجة، تمنحنا الحياة أيضا نوعا من الشقاء. هناك نوع من الحزن والتذمر في حوزة كل واحد منا، لذلك علينا ألا نغتر أو أن تنسينا مباهج الحياة تلك الحقيقة الرهيبة التي تنتظر كل واحد منا في نهاية الطريق وهي الموت. فسؤال الموت يعد من أهم الأسئلة الأنطولوجية و أقواها أثرا لأنه يجعلنا نعقلن سلوكنا ولا نقدم على فعل الشر.

هناك من لا يخطر بباله هذا السؤال أو يقوم بتجاهله مثلما فعل لويس الخامس عشر بحيث خلا إلى صومعته بعدما اعتزل الحكم. لكن هذا الهروب لا ينفي هذه الحقيقة الرهيبة، ولكن، علينا في الان نفسه ألا نغالي في استحضار هذا السؤال.

حتى لا نكون أسرى ونكبل أيدينا فنعجز عن مقاومة الأزمات فنفشل معها فشلا ذريعا في تبليغ رسالتنا مثلما فشلت بعض الأجيال ممن نصبوا لأنفسهم أوثانا من الورق، في وقت كان من المفروض أن يمنحوا الثقة للعقل والفكر بدلا من أن يسجنوهما سجنا انفراديا مظلما لا تنفذ إليه الأضواء ولا نسمات الهواء.

وذلك كان في نظرنا أدهى وأمر من المعتقلات السياسية، لأن جذور هذه المعضلات الاجتماعية كالجريمة والاغتصاب، إنما تعود إلى تراكم تربوي مريض واستمرارها دليل على انعدام الفهم والدراية بالعلل والأسباب.

تظل الفلسفة متاحة للجميع، لكن لا يقبل عليها إلا المحظوظون الذين يحصدون معها أرباحا لا تقدر بثمن، كالتحرر من العواطف الرعناء، والعصبية العمياء، والقدرة على مواجهة الخيبات، ومثلما قلت سلفا فالفلاسفة لا يدخلون في منازعات مع الناس لأنهم يعتبرون ذلك تنازعا غير عادل،

بل ويلتمسون لهم الأعذار أن صدر منهم سلوكا مشينا لأنهم على دراية بالأسباب وهم على حق لأنه ليس من الحكمة أن يحمل المرء بندقية ليقتل فأرا أو صرصور.

هناك جهات كثيرة مدعوة إلى المساهمة في تطهير النفوس البشرية من المآرب الشخصية، والأهواء المغرضة، وتزويد الناس بثقافة أدبية عظيمة، وبفهم واضح للتاريخ، وأن تتخلى هذه الجهات عن التفاهة التي أخذت تحشو بها أدمغة الناس، فما قدمته إلى حدود الآن لم يكن زادا يستحق الاعتبار بل أخرجت لنا كائنات لا تعيش لنفسها بل لقلة من الأسياد.

إذا كنا قد أكدنا في البداية على الاجتماع والتآلف، فلابد أن نؤكد في سياق آخر على ضرورة الاعتزال و الاغتراب بين الفينة والأخرى بعيدا عن صخب المهاترات اليومية، لتصحيح المسار، ووضع تخطيط للمستقبل بعيدا عن المنغصات، ليختلف ما استجد من الأمور عما انقضى، وليتغذى الإنسان بطاقة جديدة.

فالحشد عدو الحرية، ومنبع الاجهاد والتقزز. و مهما بدا الانتماء له ممتعا، فالخواء وضيق الصدر هما من سيعقبان هذه المتعة الزائفة التي لا نشوة بعدها.

إن من يلقي نظرة على حياة الفلاسفة سيجدهم بدون شك لا يختلطون بالناس، فهذا كارل ماركس على سبيل المثال، وبعدما زعزع مناطق شتى في العالم بتنظيره السياسي، اعتزل الحياة العامة وقضى ما تبقى من حياته في مكتبة المتحف البريطاني، وقبله الفرنسي ميشال دي مونتين الذي اعتبر العزلة تحرير للإنسان من القيود.

وقد اعتزل هو بنفسه وقدم لنا أعمال فكرية غزيرة، أما فريدريك نيتشه فقد اعتبرها أيضا هي شرط كل عمل عظيم وقد عبر عن ذلك بقوله : “العزلة وطني” فالإنسان ومهما بلغ مستواه، فلاشك أنه سيتأثر بالعامة و السفلة بمجرد مخالطتهم ففي العزلة يتم ترميم الخدوش الناتجة عن سخف البشر.

لقد سعى الإنسان طوال مساره إلى أن يجد شيئا يدافع من خلاله عن حقه في الحياة فينبغي ألا يجفل في البحث عن هذا الشيء، فإذا كان البعض يعتبر أن غايته هي اللهو و الأكل، والشرب، والتناسل، للحفاظ على الجنس البشري من الانقراض،

فإنني أعتبر ذلك مأساة للعقل والمنطق، واغتصابا لحق كائنات أخرى كان من الممكن ألا تعطينا مثل هذه الإجابات البلهاء. فالحياة مثلما قال برتراند راسل :” ليست مسرحية رخيصة تقاس قيمتها بالفصل الختامي للبطل والبطلة” بل هي في تقديري فرصة ثمينة لا يستحقها إلا من واجه الحياة وأعباءها بحلول مشرفة.

عبد الرحيم امعضور

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى