لا رايات تعلو على راية الوطن !
هبت مع الألفية الثالثة رياح المطالبة بالتغيير في الوطن العربي. ليس معنى ذلك أن القرن العشرين لم يمر من دون محاولات تأكيد تلك المطالبة بين الفينة والأخرى. كانت الإضرابات، والاحتجاجات، والحروب الأهلية. لكن القمع كان يتصدى لها، فيخمدها بالعسف والاعتقال والنفي، وبترجيح كفة النظام على المطالب الشعبية. فتسكن تلك الرياح على دخَن. لكنها سرعان ما تعاود الكرة لتدل على أن للزمن دروات، وأن على الجاني تدور الدوائر، ومتى أراد الشعب الحياة فإن على القيد أن ينكسر.
سقطت بغداد بدعوى أسلحة الدمار الشامل، وإيهاما بتمتيع الشعب العراقي بالديمقراطية على الطريقة الأمريكية. فلم تنجم عنهما غير إيقاظ الفتنة التي كانت نائمة بقبضة حديدية. كان المؤمل أن يجتمع الشعب العراقي ليبني مجتمعا جديدا تتآلف فيه الأطياف التي يتشكل منها. لكن المتربصين بالتحول جعلوه بؤرة للصراع الطائفي، وكل من كان يدعي التهميش رأى الفرصة سانحة للإقدام على ممارسة أشد حديدية مما كان باسم الأخذ بالثأر والانتقام وفرض الهيمنة، وصار التناحر بين مكونات الشعب العراقي، وكل يريد الاستفادة على حساب الآخرين.
فكان التقتيل والتهجير، وسلب الأراضي. وعمت الفوضى التي تريدها أمريكا وإيران التي لم تنس أحقادها الدفينة إبان حرب الثمانينيات، فكان تدخلها سافرا في صنع العراق الذي تريده تابعا وخاضعا لمشيئتها. لم تقنع أمريكا بتدمير العراق ذي الحضارة والشعب المثقف، فكانت الحرب على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ذريعة لحمل الدول العربية على الاصطفاف إلى جانبها وإلا عدت منخرطة في الإرهاب. وكما اختزل البعث العراقي في السنة، اعتبر الإسلام سنيا أيضا، فكانت مذبحة حماه في الثمانينيات، والعشرية السوداء في التسعينيات في الجزائر، ومواجهة الإخوان في مصر منذ سيطرة الناصرية.
ولما صار الإسلام السياسي هو الذي يملأ الساحة بعد انكسار اليسار وتراجعه، صارت الأنظمة باسم التصدي للإرهاب تحارب التيارات الدينية بصفتها تمثيلا له وتعبيرا عنه، وتجعل كل التيارات المعارضة لها تصطف إلى جانبها في هذا التجاذب.
اختلطت الأوراق، وباسم الإرهاب مورس الإرهاب بمختلف صوره وأشكاله، ولم يتم التمييز من بين يمارس التفجير، ومن يسعى إلى الانخراط في اللعبة الديمقراطية، فكان التضييق على الحريات السياسية العامة، وتفشى الفساد في كل المرافق والقطاعات، وتشكلت فئات خاصة تستفيد من الوضع القائم بأسماء ونعوت متعددة. جاء الربيع العربي ليقول: كفى. لقد وصل السيل الزبى. لم يكن أحد، حتى من خبراء السياسة الدولية في أمريكا وفي العالم الذي يمسك بتلابيب الوطن العربي يتوقع هذا الحدث. استغلت بعض الأطياف التي شاركت في الاحتجاجات الحدث، فكثرت الرايات التي صار يدعي كل منها أنه صانعها، ولا يمكنه إلا أن يستفيد من آثارها.
برز من خلال الربيع العربي أن الكلمة كانت للشعب ولشبيبته بدون قيادات ولا زعماء. خلع من خلع، وهرب من هرب، وقتل من قتل من المسؤولين عن التدهور والتسلط. أوصلت الانتخابات التي أعقبت الاحتجاجات في بعض الأقطار العربية بعض التيارات الإسلامية، حتى وإن لم تشارك في تلك الأحداث بحثا عن أفق جديد للتغيير. وكانت الثورة المضادة من الداخل والخارج. وبات التشكيك في المطالب الشعبية اللغة السائدة، وأبانت التنظيمات الإسلامية التي شاركت في السلطة، سواء كانت شيعية أو سنية، أنها لا تختلف في الجوهر عن الحكومات السابقة، سواء تلك التي كانت تنعت بأنها تقدمية أو رجعية، وأن شعاراتها لا علاقة لها بالتدبير والتسيير. فبقي الفساد على حاله، واستمر التذمر من الواقع الذي يكتوي بناره الشعب.
انهارت مقولة الإرهاب التي مورس من خلالها المزيد من الضغط على الشعوب، وتجلت أفظع صوره في رد الفعل الذي قام به النظام السوري ضد المحتجين، فأدخل البلاد في دوامة من الحروب التي ما تزال رحاها دائرة، مدمرة كل شيء. وبإزاء الإرهاب تكشف وجه الفساد الذي جعل الأمل في الحياة مستحيلا. فالفقر، والهجرة، والموت تحت نيران الأسلحة، أو غرقا في البحر، وتفشي البطالة وغياب الإحساس بالأمان، أو التفكير في المستقبل… كل ذلك جعل الإنسان العربي يعيش أقسى شروط الحياة. لقد دمرت أحلام كل الأجيال التي واكبت الاستقلالات، والتي جاءت بعدها، وانعدمت الثقة في السياسة والسياسيين، وكل الخطابات التي كانت تستعمل للتدجين أو الترهيب، سواء كانت ذات طبيعة إيديولوجية، أو عرقية، أو طائفية، أو دينية. وكل الذين توهموا أن الثورة المضادة على ما عرفه الربيع العربي استيقظوا نهاية السنة الجارية على أن الدورة الزمنية لم تتوقف، وأن من صنع الفتنة هو من أيقظها، ولم يكن الشارع العربي سوى تعبير عن رفضها.
من كان يتصور أن النظام السوداني سينتهي بالكيفية التي انتهى بها نظام بن علي، وسيتكشف الفساد المالي، والثراء الفاحش على حساب الشعب؟ من كان يرى أن الشعب الجزائري سيخرج إلى الشارع، وهو الذي تأخر في التعبير عن آلامه وأحلامه، تحت تأثير شبح العشرية السوداء المرعب، وكابوسها الذي ما يزال مهيمنا على واقعه ومتخيله؟ وها لبنان يلتحق بقافلة المطالبة بالتغيير، ويملأ الساحات، معبرا عن رفضه لتاريخ طويل من الطائفية والمحاصصة التي جعلته مقيدا بقيود فرضتها عليه السياسات اللاوطنية التي ينتهجها الزعماء والرؤساء بالأسماء والنعوت المختلفة البراقة. وما العراق ببعيد.
لقد سقطت بغداد، بسقوط البعث، لكن العراق بكامله سقط في مستنقع الطائفية والتبعية للنظام الإيراني، وإذا كل الحكومات المتعاقبة سواء في بغداد أو أربيل لا تشترك إلا في شيء واحد: الفساد، وأن كل الشعارات والرايات التي ترفع ليست إلا للتدجين والتخوين والترهيب. وليس خروج الشارع العراقي ليقول لا للفساد، وفي الوقت نفسه ضد الطائفية، سوى تعبير على أن هناك شعبا بمختلف أطيافه وأعراقه وطوائفه يريد شيئا واحدا هو الوطن الذي يتسع للجميع.
إنها دورة الزمن التي توقظ المتوهمين لتؤكد لهم أن الأيام دول، والدهر قلّب، والليالي حبالى يلدن كل عجيب. لقد ابتدأ الربيع العربي بسيطا وسلميا، يطالب بالحد الأدنى. لكن التعنت قاد إلى الفوضى والاضطراب الذي كانت نتائجه كارثية على البلاد والعباد. وما تزال تقدم لنا ليبيا وسوريا واليمن نماذج على ذلك. حاولت عدة أطراف تحريف مسار الربيع العربي ومطالبه العادلة باختراقات تتقدم بمطالب لا علاقة له بها. ولم تكن هذه الاختراقات مختلفة عن الثورات المضادة التي كانت ترمي إلى استنكاره واستهجانه. كثيرون سخروا من هذه المطالب البسيطة، واعتبروا ما نجم عنه خريفا من باب التشفي، وكأنهم يملكون زمام الزمن ويوجهونه حسب إرادتهم.
مع الموجة الثانية من الربيع نفسه، والتي لم يكن أحد ينتظرها، بدأنا نجد لغة أخرى نسبيا، تقدم مقترحات للإصلاح. أكان من الضروري أن يتحرك الشارع العربي مرة أخرى لتقدم حزمة من الإصلاحات التي كان ينبغي أن تكون منذ أزمان؟ وإذا كانت التدخلات العنيفة ضد الحراك الجديد أقل مما عرف في البداية، لماذا يتعرض الشعب العراقي من قبل الميليشيات، ويتوعد حزب الله اللبنانيين ويهددهم؟ أما زال للطائفية موقع والدرس العراقي واللبناني شاهد على ما يمكن أن تؤول إليه الأمور غدا.
تقول روح الشارع العربي: لا رايات ينبغي أن تعلو على راية الوطنǃ