منبرُنا

لا تواخذني مجحش

الحمار و الجحش حيوان يتمتع بقدرٍ وافٍ من الذكاء لا نجده لدى بعض البشر، و كثير من الناس يقعون في ذات الحفرة مثنى وثلاث و رباع، إلا الحمار لا يقع في ذات الجورة مرتين و ربما يقع فيها مرتين إذا كان جحشاً صغيراً لم تعركه الحياة بعد .

و قد اشتقّ الإنسان مصطلح “الجحشنة” من اسم هذا الحيوان اللطيف الذكي، ليطلقه على التصرفات الإنسانية الخاطئة، و الأخطاء المقصودة على وجه الخصوص، و الأخطاء الفادحة جداً .

ربما يكون هذا الاشتقاق مصدره عناد الحمار الذي اشتهر به مع زميله التيس من الحيوانات، فيقال أيضاً فلان “متيّس” كناية عن التشبث برأيه أو تصرفه الخاطئ و عناده العقيم ، لكن مصطلح الجحشنة أكثر شهرة وتداولاً في عالم الغباء، و يكفي أن يقول أحدهم : لا تؤاخذوني فأنا مجحّش ، حتى نلتمس له العذر و نسامحه.

حدث ذلك على مرأى نظري و سمع آذاني، ففي صباح ذات يوم أشرت لتكسي عمومي في مدينة حلب، من أمام بيتي في حي الشيخ مقصود لتقلني إلى قصر العدل ، توقفت السيارة و امتطيت مقعدي الأمامي بجانب السائق و قلت له من فضلك أوصلني للقصر قبل آذان العصر – إذ كنت متأخراً كعادتي تلك الزمانات – وافقني السائق طمعاً في مظهري الكريم و كرم جيوبي الرنان ، و أطلق العنان لمخيلته و دواسة البنزين، حتى كاد يدخل في أست سيارة نقل صغيرة يابانية تدعى “سوزوكي” لكن صاحبها عربي أصيل، بدليل الشتائم و اللعنات و المسبات التي زفّها لسائق التكسي بالعربي الفصيح، كان خطأ سائق التكسي واضح و فادح و بيّن و لا مبرر له في قوانين السير المكتوبة – في قوانين السير غير المكتوبة الأفضلية للمجحش دائماً – فمدّ رأسه من نافذة باب السائق و التفتَ باتجاه سائق السوزوكي و بادره بردٍ سريع مفحم أسكته على الفور :

• لا تواخذني مجحّش.

و من أغرب فنون الجحشنة التي رأيتها في مدينة حلب أواخر عام ٢٠١١ كانت سيارة نقل حجارة و حصى و رمل (مواد البناء) تسير في شارع الحمدانية الرئيسي باتجاه آخر حي صلاح الدين جنوبي حلب، بلا أنوار و لا إشارات و بأقصى سرعة مع أعلى صوت كلاكس (زمور) هوائي، و بدون شادر حماية للحمولة التي تتساقط من يمين و يسار و خلف الشاحنة، و بدون لوحة أرقام من الخلف، لكن هناك لوحة بعرض الشاحنة مكتوب عليها بخط عريض و جميل ( القيادة فن و ذوق).. و أي فن أغرب من فنون “جحيش الحجارة” كما تسميهم العامة و شرطة السير في حلب.

و في عصرنا هذا، في القرية الكونية الصغيرة و متاهات الفكر الكثيرة ، يفتخر بعض الناس بمرتبة الجحشنة التي حصلوا عليها بدريهمات قليلة و وسائل سهلة ، فهذا جحش بمرتبة شاعر، و ذاك جحش بمرتبة عالم، و هذا جحش يفقه في الطب، و ذاك ينهق في الحكمة، و هذا حمار بمرتبة وزير ، و ذاك جويحش أو كرّ صغير يتم تأهيله ليصبح حماراً كبيراً، و يتسلم زمام الحكم في بلادٍ مشهورة..

والفضل كله للمعاهد و الكليات و مراكز البحث العالمية المتخصصة في تربية و تأهيل و إعداد البشر ليرتقوا إلى مرتبة الجحشنة بفخر و شرف ، و تمنح شهادات أكاديمية و فخرية موثوقة و معترف بها عالمياً في تدريس أصول الجحشنة بامتياز .

ملاحظة ليست للدعاية و الترويج :

يتوفر لدينا دورات محو أمية في حيونة البني آدم، مجانية و خالصة لوجه الوجاهة و البروظة فحسب ، كما يتوفر لدينا دورات دراسية مأجورة يمنح المنتسب إليها مختلف أنواع الشهادات المعتمدة عالمياً في أصول الجحشنة، بدءاً من الشهادات المتوسطة حتى درجة الدكتوراة، إضافة للشهادات التخصصية في فنون الجحشنة و آدابها .


جهاد الدين رمضان
فيينا ١٨ حزيران ٢٠١٩

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى