يعد المفكر محمد عزيز الحبابي اسما مغمورا في الساحة الفكرية العربية، لدرجة أن عددا من المشتغلين بالفلسفة في العالم العربي يجهلون كثيرا عن هذا العلَم، ومنهم من لم يسمع به قط. رغم ما للرجل من مساهمة تأسيسية في مجال الفلسفة،
يمكن عدّها بمنزلة استئناف للفلسفة، بعد فترة ركود طويلة في الثقافة المغربية، بل وقدم منذ خمسينيات القرن الماضي صرحا فلسفيا متكاملا لما يعرف بدول العالم الثالث، في خضم الفلسفات التي ظهرت بعد خروج الإنسان مدمرا من الحرب العالمية الثانية.
يمكن القول، في إطار ثقافة الاعتراف بأحد أعمدة الفكر المغربي والعربي المعاصر، وبدون مبالغة، إن محمد عزيز الحبابي فيلسوف، صاحب مشروع فكري متعدد، امتزجت فيه الفلسفة بالرواية والقصة والشعر، بأفق إنساني وتحرري.
عمل الراحل على إعادة تأسيس قواعد جديدة للتضامن الإنساني، بمعايير اجتماعية وأخلاقية، من منظور تحرري بالاعتماد على معطيات نفسية ووجودية.
لأجل ذلك طور مذهبا فلسفيا، انطلاقا من ربطه بتطلعات العالم الثالث، وطموحاته في الاستقلال والنهضة والتقدم، أوصلته هذه المحاولة إلى اللائحة القصيرة لجائزة نوبل للآداب، حيث كان قاب قوسين أو أدنى من الفوز بها عام 1987.
تأثر الجبابي بالفكر الفرنسي، فهو خريج جامعة السوربون، لكنه لم يكن أبدا الابن البار للمدرسة الفرنسية، حيث انتقد مفهوم الحرية عند الفيلسوف هنري برجسون، وسجل ملاحظات على النظرية الماركسية، وعلى وجودية الفيلسوف جون بول سارتر، وانحاز إلى الفيلسوف إيمانويل مونيي في الشخصانية.
وأسس مذهب الشخصانية الإسلامية، الذي تعزز لديه باستثمار إرث الفلسفة الإسلامية “ابن رشد والغزالي وابن خلدون“، فطوّر على هذا الأساس مفاهيم الكائن والشخص بوصفه ذاتا فردية مندمجة في المجتمع، كما بلور أفكارا حول حرية الشخص ومسؤوليته.
ما الإنسان؟ وكيف يصبح الكائن البشري إنسانا حقا؟ وأي طريق يتعين اتباعه ليكتسب هويته الإنسانية؟ هذه الأسئلة المركزية في فلسفة محمد عزيز الحبابي، التي حاول الإجابة عنها، في عناوين عديدة، في مجال الفلسفة مثل؛
“الشخصانية الإسلامية” و”من الكائن إلى الشخص” و”من الحريات إلى التحرر” و”ورقات عن فلسفات إسلامية” و”عالم الغد: مدخل إلى الغدية”. كما في الأدب من قبيل “بؤس وضياء” و”يتيم تحت الصفر” و”جيل الظمأ” و”إكسير الحياة” و”العضد على الحديد”.. يذكر أن بعض هذه الأعمال ترجم لأكثر من 30 لغة عالمية.
يكتشف قارئ الحبابي أنه كان مؤمنا بفكرة طالما رددها، حين عد “الفيلسوف الحق هو الذي يتفاعل مع ظروف حياته”، وفي رائعته “العض على الحديد” عدّ “المثقف الحق هو الذي يعيش لعصره ومجتمعه. وإن العض على الحديد ليس إلا العض على الواقع”.
لكل ذلك نجد أطروحته الفلسفية الشخصانية الإسلامية مشدودة إلى أرضية الثقافة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها، وبلور في خضمها رؤية غدية للمجتمع المأمول، بشروط التحرر والديمقراطية.
لقد كانت أفكاره نوعية في زمنه، فهو لم يتحمس للنظريات التي كانت شائعة في تصوراتها المثالية، بل جاءت فلسفته كتخريج ينطلق من الشخصانية العقلانية إلى الشخصانية الإسلامية في أفق الغدية.
يمكن القول إن مشروع الحبابي يتضمن ثلاث محطات أساسية، أولا، “الشخصانية الواقعية” التي كانت نتاج بحثه في الدكتوراه أوائل الخمسينيات في جامعة السوربون، وبرزت فيها فكرة الشخص والكائن والتعالي والزمان.
ثانيا، “تأويل التراث الإسلامي” بالنبش فيما جاءت به الدعوة المحمدية من تصورات تكرس الشخصانية الواقعية التي أراد الحبابي إظهار عدم تعارضها مع الدين الإسلامي.
وثالثا، “بناء الغد” بكل ما فيه من طموحات وتطلعات، بعيدا من فوارق العرق والجنس والدين والجهة والواقع، وبذلك يوضع الإنسان فوق كل اعتبار، ويتم التطلع إلى استرداد كرامته وحريته.
يصر البعض على تجاهل الحبابي ضمن دائرة الدرس الفلسفي العربي، بدعوى لجوئه إلى الجمع بين المتناقضات والمفارقات في فلسفته، دون أن يدرك هؤلاء، ومن في فلكهم، أن الأمر مقصود، فالمفكر يسعى إلى تأسيس عقلانية من نوع خاص، يتجاور فيها المعقول واللامعقول.
فهي تؤمن بالعقل، وفي الآن نفسه “لا تتردد في أن تقبل في رحابها الوحي، والوجدانيات، والحدسيات، فضلا عن الشعر والفن والدين”، دون أن ننسى أن الجبابي نفسه يؤمن بقيمة ومشروعية التفكير في التناقضات ويدافع عن الانتقائية، أسلوبا مشروعا في التفكير الفلسفي، ولا يعده عيبا في المنهج أو كسلا، أو تقصيرا في الاجتهاد.
استعادة مشروع الحبابي تفرض احترازا منهجيا، قوامه وجوب قراءة الرجل في سياق تشكُّل أفكاره، ونقصد فرنسا أواسط القرن الماضي، حيث تسود النزعات العبثية “المثالية والتشاؤمية والتجريدية”، في هذا الخضم.
كان على شاب فيلسوف قادم من العالم الثالث، يرزح تحت الاستعمار أن يختار اتجاها فلسفيا مغايرا لما هو سائد، يجد فيه السبيل لفهم ذاته، وتحقيق تطلعاته وآماله، فوجد في الفلسفة الشخصانية مبتغاه، ففي إطارها صاغ أطروحته الأساسية، ودشن من منظور المفكر المغربي محمد الشيخ مشروعا خاصا في الأنثروبولوجيا الفلسفية، يبحث في السؤال: ما الإنسان؟ أي في سبل نقله من الكائن إلى الإنسان عبر عملية الأنسنة.
بعيدا عن النقد والتحفظ والرفض الذي يبديه من لا يقبل فلسفة خارج دائرة العقل الغربي، أنزل باحثون مغاربة فلسفة الحبابي منزلة فلسفة نقد للحداثة وأزماتها، والكشف عن أعطابها، وإبراز أمراضها، ومن مظاهر ذلك أن العقل انحرف عن طبيعته الأولى.
وأن الكائن الإنساني تدنى في إنسانيته، وأن أزمات الحداثة تنبثق من الحداثة نفسها، وتشكل متاهات متداخلة، وكهوفا مظلمة، يفضي بعضها إلى بعض “بحيث تقذف كل أزمة بالإنسان الحديث، إلى أزمة أخرى أشد منها وأقوى بأسا”.
إن إعادة قراءة مشروع الحبابي الفلسفي، والتحاور معه في ضوء ما يشهده العالم المعاصر من أزمات شبيهة بتلك التي عايشها الرجل وهو يبني ويقيم عماد صرحه الفلسفي، كفيلة بتحرير العقول من ثقل الحاضر.
والدفع بها إلى التفكير في إنتاج غدية الأنا، على غرار غدية الحبابي التي تعد إبداعا فلسفيا، يماثل لعبة نسيان الحاضر والاستعداد للتلاؤم مع القادم من مشكلات المستقبل، وتأكيد الأمل الكبير في قيام غد أفضل، على الرغم من كل شيء.