نقد العقل البرهاني عند محمد عابد الجابري: الجزء الأول
- ملخص تنفيذي:
لقد كان الجابري من رواد العقلانية في العصر الحديث واستطاع من خلال إلمامه بالفكر الغربي العلماني والتراث أن يقدم أفكاراً غاية في الجدة والأهمية وأن يميز بين الفكر العرفاني والفكر البياني والفكر البرهاني الذي كان ينتمي إليه.
وتمتل ذلك عند الجابري في عقلانية ابن رشد, وواقعية ابن خلدون, وفقه الشاطبي, وابن حزم. وهي العقلانية التي اتخذ منها الجابري لتحرير الفكر العربي الإسلامي من الأزمة التي لطالما عانت منها الثقافة العربية الإسلامية بسبب تيار الفكر السينوي والعقل الغنوصي الممثل في النظام العرفاني. وهذا ما تهدف إبرازه هذه الورقة.
- تأطير عام.
أقام المفكر المغربي محمد عابد الجابري تصنيفاً جديداً لعلوم التراث يُعدّ ثورة منهجية كبيرة كما في مشروعه (نقد العقل العربي)، وهويستحق التقدير، إذ أعاد فيه ترتيب العلاقات بين العلوم والمعارف التراثية بطريقة جديدة تتجاوز الاختلافات المظهرية لتنظر إلى ما تكنّه من توافقات أواختلافات بنيوية داخلية تتمثل بآليات المعرفة ووسائلها ومفاهيمها الأساسية.
حيث أقام الجابري تصنيفه اعتماداً على البنية الجوانية فانتهى إلى وجود ثلاثة نظم معرفية متكاملة؛ هي النظام البياني الذي يعتمد على قياس الغائب على الشاهد كمنهج في إنتاج المعرفة، ونظام العرفان المؤلف من تصوف وباطنية وكيمياء وتطبيب وفلاحة نجومية وسحر وطلسمات وعلم التنجيم، حيث يؤسسها النظام العرفاني القائم على (الكشف والوصال) و(التجاذب والتدافع).
كذلك النظام البرهاني الذي يؤسس كلاً من المنطق والرياضيات والطبيعيات والالهيات أوالميتافيزيقا، والقائم على مبدأ «الملاحظة التجريبية والاستنتاج العقلي كمنهج» ورغم اختلاف العناوين وموضوعات البحت ما بين تكوين وبنية العقل العربي.
إلا أن الجامع المشترك بينها هوالقراءة البنيوية الثلاثية لتكوينية العقل العربي الذي يقسمه الجابري كما قلت إلى ما أسماه بعقل عرفاني وعقل بياني وآخر برهاني ،الأول يتطابق في الحالة الغنوصية الإشراقية كما تبلورت مع أهل الحلول الصوفي وفلاسفة الاشراق أمثال الفارابي وابن سيناء وبقية فلاسفة «المشرق».
أما العقل البياني فهويعادل عنده التراث الفقهي والأصولي وبقية علوم البيان المعبرة عن «ماهية العقل العربي» وأخيرا العقل البرهاني الذي انبلج في «الفضاء المغربي» مع ابن باجة وابن رشد خاصة الذي اعتبره الجابري نموذج العقلانية البرهانية في الفكر الاسلامي.
هذا التصنيف الثلاثي الذي يقيمه الجابري ليس مجرد عملية تحليل لآليات اشتغال العقل العربي بقدر ما هوترتيب معياري وتفاضلي لهذه البنى المتزاحمة في إطار الثقافة العربية الاسلامية بحيث ،يحتل العقل العرفاني أدنى درجات السلم ثم يليه العقل البياني.
وأخيرا يتصدر رأس السلم العقل البرهاني في صيغته الأرسطية الرشدية، وبذلك يتركز رهان الجابري على إعادة الاعتبار لتراث المشائية الأرسطية في ثوبها الرشدي وبالتوازي مع ذلك تأسيس مشروعية لاستجلاب العقلانية الأنوارية في شكلها الديكارتي والكانطي، مما جعله يقوم بمحاولة لأقلمة النظام البرهاني في بيئة جغرافية ، والبيان في بيئة جغرافية أخرى.
فإلى أي مدى استطاع الجابري من خلال هذين المفهومين قراءة البيئتين باعتباره قارئا للعقل السياسي الذي ينتج حالات قطيعة معرفية بين المغرب والمشرق؟
ما يجب التنبيه إليه هومسألة التمييز بين قراءة الجابري وأية قراءة أخرى للنص. فهوينبهك إلى المخزون القوي من المعرفة في مجال التراث والاطلاع على المدارس الفكرية والمناهج الأوروبية الحديثة، هذا المزج أعطاه القدرة على تفكيك النصوص ورؤية مالا يراه غيره في هذا النص.
لأن هناك نصوص قرأها الآلاف والملايين ولكن القدرة على الاجتهاد في النص وانطلاقه من الواقع المعاصر كان محصورا في قلة من المفكرين ممن عندهم القدرة على استقراء النص بطريقة أكثر عصرية مستفيدا من العلوم المعاصرة وهذا كان جهد الجابري، إذن إلى أي مدى كانت جزئية البرهان أصيلة أومتمكنة في العقل العربي حتى نستطيع قراءته من خلالها.
أليست جزئية البرهان في العقل العربي قادمة من مداولات أومآلات الترجمة العربية للعقل اليوناني ومحاولة إعماله في البيئة العربية؟
هناك عناصر وافدة إلى الثقافة العربية من الثقافة اليونانية حيث أصبحت تلعب أدواراً داخل هذه البنية وهنا يجب أن نبتعد نهائياً عن ما قام به المستشرقون في نسبتهم أن هذا من عند أرسطووأن هذا من عند أفلاطون أوفلان…ويخرج العربي كأنه ما عمل شيئاً.
هذا غير صحيح. فقوة الثقافة العربية هي أنها أعادت إنتاج ما جاءها من اليونان داخل منظومة جديدة داخل بنية جديدة وأصبحت تلعب أدوارا أخرى خاصة ما نقل من أرسطوكفلسفة يونانية في جانبها البرهاني الذي أخذ أبعادا أخرى في الغرب الإسلامي في المشرق.
اختلط العقل اليوناني بالموروث القديم من غنوصية وهرمسية ومانوية هذا مع ابن سينا والغزالي… أما في الغرب الإسلامي فسوف يصبح هناك منتوج آخر هوما سنراه عند ابن رشد وعند ابن حزم وعند الشاطبي وعند ابن خلدون وغيرهم.
فكيف عرفت الثقافة العربية الإسلامية أرسطو؟ وكيف تجلى هذا الطابع البرهاني داخل هذه الثقافة؟ ومن هم أبرز ممثلي البرهان العقلي الأرسطي داخل الثقافة العربية الإسلامية؟
نحن أمام عقل توجه نحومناخ فكري ابتعد على ما جاءت به مشاكل الخلافة وابتعد على ما جاءت به الفتنة الكبرى وابتعد نسبياً عن ما يسميه الجابري بالموروث القديم (الغنوصية، والهرمسية، والمانوية) وكل ما استطاع أن يعيش بعد ما جاء الإسلام، بحيث أن الإسلام لم يستطع أن يمسح الطاولة في المشرق ولكنه في المغرب وجد بيئة أخرى تكاد تكون ممسوحة طاولتها.
انتقل إلى بيئة بريئة نسبيا من كل ما هو(غنوصي وهرمسي ومانوي) كل ما هوموروث قديم، هذا هوالأساس الذي قام عليه البرهان لذلك أستطيع أن أفسر توجه الجابري أنه استمرار لابن رشد وابن حزم والشاطبي وابن خلدون…لأن في الغرب الإسلامي قليلا ما تجد بعض الشطحات، حتى التصوف كان أقرب إلى التصوف الفلسفي.
فما حدود هذا التصور الذي شيد عليه الجابري صرحه الفلسفي؟
- المبحث الأول :رؤية الجابري لعملية تنصيب العقل في الثقافة العربية الإسلامية :
المحور الأول: الإرهاصات الأولى لتنصب العقل البرهاني في الإسلام:
لعل ما سبق توضيحه إلا من أجل فهم السياق التاريخي الذي مر منه العقل العربي وفهم الطابع الثقافي المميز للفكر العربي حتى نفهم سياق ظهور أرسطووما بعده، حيت يبقى أول ما تعرف عليه الفكر العربي الإسلامي هي تلك المذاهب الفلسفية اليونانية التي نسبها الشهرستاني إلى من دعاهم بالقدماء،) الفيتاغوريين والأفلاطونية المحدثة والفلسفة الدينية الهرمسية وغيرها (… مما كانوا سببا في نشوء الأزمة
“أما بخصوص أرسطوفلم يعرف داخل الحقل العربي الإسلامي إلا في مرحلة لاحقة متأخرة مما يفسر غياب المنطق الأرسطي في الثقافية العربية الإسلامية خلال المراحل الأولى من تعاملها مع الموروث القديم فلسفة وعلوما”[1] ، حيت حضور أرسطوفي الثقافة العربية الإسلامية جاء متأخرا بما لا يقل عن قرن من الزمان من حضور الأصناف الأخرى من الموروث القديم.
حتى نفصل في هذه النقطة بالضبط بالتحليل يمكن القول مع الجابري فعلا أن منطق أرسطوبعد باقي الأصناف الأخرى كان أول ما عرفه المسلمون ، رؤية ومنهجا برهانيا ، من العلوم القديمة لكن إذا ركزنا أذهاننا مع أرسطوبالذات فحقيقة الأمر هولم يثبت حضوره ككل في الثقافة العربية الإسلامية إلا في القرن الرابع الهجري أي بقرنين من الزمن من بدء الترجمة والتدوين.
يعود الجابري هنا لاستحضار فترة المأمون وبدء حركة الترجمة في العصر العباسي مع الإشارة إلى أعلام الفلسفة الإسلامية متل الكندي والفارابي وغيرهما… حيت أصبحت الفلسفة البرهانية تجد مكانها هي الأخرى لها في الساحة العربية وقد تزامن هذا الوضع مع الطابع البرهاني الذي اندلع حسب الجابري في الارتباط العام بين البيان والبرهان سنة 326 هجرية .
إذن كيف تم تنصيب العقل الأرسطي في الإسلام ؟
انطلق الجابري هنا من الحديث عن بدايات تعرف المسلمين على الفلسفة الأرسطية وعن السياق التي دخلت فيه كتبه وفلسفاته إلى العالم الإسلامي لكن كيف ذلك؟
لكي ينقل لنا الجابري السبب لكثرة كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في البلاد الإسلامية يعتمد على فهرست ابن النديم وهوعبارة عن رؤيا وجدها الخليفة المأمون حيت يقول :)”أحد الأسباب في ذلك أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون، مشربا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب أجلح الرأس، أشهل العينين، حسنن الشمائل، جالس على سريره.
قال المأمون كأني بين يديه قد ماتت له هيبة فقلت من أنت؟ قال أنا أرسطوطاليس فسررت به وقلت أيها الحكيم أسألك ؟ قال سل قلت ما الحسن؟ قال ما حسن في العقل، قلت تم ماذا ؟قال ما حسن في الشرع، قلت تم ماذا ؟ قال ما حسن عند الجمهور، قلت تم ماذا؟ قال تم لا تم، فكان هذا المنام من أكد الأسباب في إخراج الكتب.
وبالتالي فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذها عنده من مختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع.”([2]
“يقول عنه الجابري أنه حديت خرافة لكنه يبقى حلم في مجرد الأحوال حيت يتجاوز هذا الاحتمال ليقرر من خلاله أن مجرد وضعه يعتبر دليلا على أن الخلفاء العباسيين ومن بينهم المأمون استنجدوا بالفلسفة الأرسطية العقلية لمواجهة خصومهم من أصحاب الغنوص المانوي والعرفان الشيعي حيت أن دولة الخلافات كانت مهددة من هذين الاتجاهين.
وقد عمل العباسيون والخليفة المهدي خاصة على قمع الحركة المانوية بجميع الوسائل والعمل مقابل ذلك على توجيه التفكير كسلاح مضاد ضد الغنوص والرفع من قوة المنطق، وهنا نفسر أن حلم المأمون كان من أجل مواجهة المانوية وليس من أجل أرسطوذاته لذلك اتجهت حركة الترجمة إلى أرسطوبالذات حيت كانت جزءا أساسيا ورئيسيا من استراتيجية لجأ إليها المأمون لمقاومة الأساس المعرفي الإيديولوجي أي خصوصية السياسيين.
إن أبرز الدوافع التي جعلت من المأمون يستنجد بأرسطوفي إطار استراتيجية عامة كانت تهدف أساسا إلى تنصيب العقل الكوني حكما في النزاعات الدينية والإيديولوجية التي سبق أن أشرت لها.
لقد اتجه المأمون إذن إلى أرسطوفي إطار استراتيجية عامة كانت تهدف أساسا إلى تنصيب العقل الكوني حكما في النزاعات الدينية والإيديولوجية ،ومن أجل محاربة الغنوص المانوي والعرفان الشيعي لأن كلاهما يريد أن يؤسس معارضته للدولة العباسية على سلاح لا يملكه العباسيون حتى يتزعموا الخلافة السنية التي تؤمن بانتهاء النبوة وتوقف الوحي نهائيا مع محمد) ص( مما استدعى الأمر سلاحا قوي يقف صامدا في وجه العقل المستقيل وأطروحاته المانوية والشيعية.
ولم يكن هناك من ملجأ يلجأ إليه المأمون ،سوى الاعتماد على العقل الكوني مما دفع الدولة العباسية على عهد المأمون إلى العمل على تنصيب هذا العقل الكوني البرهاني في الثقافة العربية الإسلامية لصد هجمات الغنوصية التي تهدد الفكر الديني الرسمي بشقيه المعتزلي والسني مما يوضح وجود تحالف مع التفكير اليوناني ضد الغنوص.
إن تنصيب العقل الكوني في الثقافة العربية الإسلامية قد جاء ضمن صراع إيديولوجي سياسيي بين المأمون الخليفة العباسي وخصوم دولته من الشيعة الباطنية ، لقد استعمل الموروث القديم العقل الكوني كسلاح لمحاربة المانوية والشيعة الباطنية فحيت نجد الشيعة لجأت إلى الغنوص لتأكيد استمرارية الوحي في أئمتهم وبالتالي تأكيد أحقيتهم في الإمامة وقيادة المسلمين دينيا وسياسيا، نجد أن المأمون اتخذ من العقل الكوني اليوناني سلاحا وملجأ ليعزز به جانب من المعقول الديني العربي كما قرره العقل المعتزلي لأصحاب العقل”[3] .
إن المأمون أدرك خطورة الحسم الأمني مع الخصوم السياسيين وخاصة المانوية التي لها تقاليد عريقة في التنظيم السري والذي يقوم على إتباع المرشد لا على الفكرة والمنهج مما جعله يختار سلاح الجدل والمناظرة وهنا تتنزل رؤياه السابقة لتعوضها رؤيا عقلية كونية من أجل مواجهة ماني والهرمسية وأتباعها.
نستنتج إذن ، أن حضور الموروث في الثقافة العربية الإسلامية كان إلى عهد المأمون امتدادا لما قبل أي استمرارا للعصر الهلنستي ،ثقافة وعلما لكن مع المأمون وتغير الظروف، ظهرت حركة إحياء وتنوير هدفها الرجوع إلى الأصول إلى ذلك العقل الكوني والذي تزعمه أرسطوفلسفة ومنطقا، ومن هنا كان ذلك اللقاء التاريخي بين المعقول الديني العربي والمعقول العقلي اليوناني الأرسطي أي بين البيان العربي والبرهان اليوناني الأرسطي لكن، ما هومضمون هذا اللقاء ؟ وماهي أشكال حضور العقل الكوني داخل الثقافة العربية الإسلامي؟
- المبحث الثاني: ظروف وعوامل نشأة الفكر البرهاني:
إن من أبرز الإشكالات التي سيقف عندها الجابري هنا انطلاقا من نقده للعقل العربي البرهاني هي نشأة الفكر البرهاني ، البرهان عند أرسطو، وظروف نشأته وخصائصه ومميزاته وقيمة هذا المفهوم عنده.
إن تاريخ البرهان حسب الجابري كنظام معرفي يظهر مع بداية الفلسفة والتفكير العلمي في اليونان قبل أرسطوبثلاثة قرون ولم يكن عمل أرسطوفي حذ ذاته سوى تتويج لعملية تطور طويلة تنتظم سائر المدارس الفلسفية اليونانية من الفلاسفة الطبيعيين في القرن 6 ق.م إلى أفلاطون أستاذ أرسطو. ومن المعلوم أن، البرهان كان ينسب كله إلى أرسطولذلك سيكون مبدأ انطلاقي هومنهج أرسطوبالذات.
لعل المنهج الذي شيده أرسطوهو“المنطق البرهاني حيت يستهل أرسطوفي كتابه التحليلات الأولى الهدف الذي يرمي إليه منهجه فيقول الجابري: «إن أول ما ينبغي أن نذكر هوالشيء الذي عنه فحصنا هاهنا والغرض الذي إليه قصدنا ،فأما الشيء الذي عنه نفحص فهوالبرهان وغرضنا العلم البرهاني “[4]
ويؤكد الجابري أن العلاقة الجدلية التي تجمع بين المنهج والرؤية الأرسطية هي ما يصطلح عليه النظام المعرفي وكما سبق أن لاحظنا مع الجابري فهولا يقصد أبدا دراسة هذا النظام المعرفي البرهاني بقدر ما يهمه إبرازه وتعريفه دون الدخول في تفاصيله على كونه أحد النظم التي عرفتها الثقافة العربية، كما حاول الجابري إبراز بعض الجوانب العامة في الفكر الأرسطي ونقاط تعديله مع الثقافة العربية الإسلامية والتعديل العام الذي يهم الجابري هنا هوالاتجاه العام للمذهب.
لاشك أننا نتساءل في هذه المرحلة مع الجابري، عن كيفية تبيئة هذا النظام المعرفي البرهاني داخل الثقافة العربية الإسلامية؟ مع العلم أن للثقافة العربية نظامها الخاص فكيف تم ترتيب العلاقة بين نظامها القديم والنظام الجديد؟
وهذه المسألة في حد ذاتها تطرح نفسها بالنسبة للبرهان بحدة أكتر. حيت يتعلق الأمر هذه المرة بتأسيس نظام معرفي جديد قائم على البرهان داخل واقع عربي مكتمل هوالآخر ومتميز من ناحية المعرفة حيت لم يتأسس هذا النظام البرهاني إلا بعد ظهور قبله نظامين أساسيين هما البيان والعرفان والاختلاف يكمن في كون أن التأسيس البرهاني يختلف عن البيان والعرفان.
فإذا كان هذين النظامين الأخيرين يعتمدان القرآن والحديث أولا وقبل كل شيء، فإن البرهان حسب الجابري يتعلق بمنهج في التفكير يختلف تماما عن المنهج والتصور اللذين تم إرساءهما مسبقا في الثقافة العربية الإسلامية بمعطياتها اللغة والدين ومن جهة تانية، يتعلق الأمر بنظام معرفي برهاني قائم بذاته حيت تأسس بوسائل خاصة قائمة على العقل وما يشرعه من أصول.
وبالتالي ،كان لزاما على الجابري سلك طريق آخر غير الطريق الذي سلكه أهل البيان وأصحاب العرفان لذلك ، يرى الجابري أن نظام البرهان هوأحسن مسلك وطريق للمعرفة بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية حيت، يعتبر منهجه هوالمنهج الملائم الموصل إلى العلم باعتباره يقدم رؤية كاملة حول العلم وبالتالي فقوة هذا المنهج تكمن في ذاته لأنه يسعى إلى تأسيس نفسه على طريقته البرهانية باعتماد منهج البرهان نفسه.
من المعلوم كما سبق الذكر أن أكد الجابري، أن النظام المعرفي الأساسي والرسمي داخل الثقافة العربية الإسلامية هوالبيان في عصر الترجمة وبالتالي فإن الخطاب الذي كان معتمدا هوخطاب بياني .تم بعد هذه المرحلة تم تأسيس العرفان والذي شكل امتداد للعقل المستقيل قبل الإسلام من جهة كما حارب من أجل شرعيته داخل الثقافة العربية الإسلامية من جهة ثانية.
إدن السؤال الذي يطرح نفسه ونحن مقبلين على دراسة الطابع البرهاني داخل الثقافة العربية الإسلامية هو، إذن كيف عمل فلاسفة الإسلام على ترتيب العلاقة بين البيان والبرهان ترتيبا برهانيا في ظل وجود أنظمة سابقة؟
يقترح الجابري أن تأسيس البرهان داخل الثقافة العربية الإسلامية سيكون عبارة عن ترتيب معين للعلاقة بينه وبين البيان لا غير وهذا ما حصل فعلا مع أغلبية فلاسفة الإسلام.
إن مسألة ترتيب العلاقة بين النظامين معا يتطلب ترتيب على صعيد المنهج والرؤية وإلا ستكون عملية الترتيب المطلوبة ناقصة وهشة ، إذ هي اقتصرت على تأسيس الواحد منهما دون الأخر ،لذلك فعلى عملية الترتيب أن تضم الجانبين معا. وحدة تضفي على عملية الترتيب طابعا برهانيا، ولقد كان الكندي صاحب المحاولة الأولى بهذا الشأن.
المحور الأول: المحاولة الأولى لفلاسفة الإسلام في تأسيس نظام برهاني داخل الثقافة العربية الإسلامية:
وأقف مع نموذجين اثنين:
الكندي:
“لقد كان الكندي أول فيلسوف عربي) 185 و252 هجرية( وأول فيلسوف لدولة العقل في الإسلام الدولة التي كان هدفها التصدي للعقل المستقيل كما وظفها خصومها من مانوية وشيعة دولة المأمون والمعتصم الواثق وقد عاصرهم بهذه المناسبة الكندي جميعا.
لقد كان الكندي منخرطا في الصراعات الإيديولوجية التي شهدها عصره فنشر خلاصات مطالعاته في العلوم الفلسفية المحضة ،والخالية من التوجهات الهرمسية بشكل مركز لتنقل رؤى علمية عقلانية عن الكون والإنسان تحترم المعقول الديني العربي وتناصره في صراعه مع المانوية والشيعة،
فقد تبنى في رسائله العلوم الطبيعية أراء أسطوا وأسس فيها نظام معرفي مناقض للنظام المعرفي العرفاني الذي يتجه من المحسوس إلى المعقول ومن المشخص إلى المجرد ويعتمد التجربة الطبيعية فواجه الكندي الأطروحات الأساسية للعقل المستقيل وهاجمه في ميدانه وعمل على تقويض دعائمه.
لقد شملت عملية تنصيب العقل الكوني التي دشنها الكندي في الثقافة العربية الإسلامية استعادة نظرية أرسطوفي العقل مع الابتعاد بها عن تأويلات الأفلاطونية المحدثة التي جعلت من العقل الفعال الذي قال به أرسطوعقلا مفارقا من جملة العقول السماوية.
ولقد تبنى الكندي التمييز الذي أقامه أرسطوبين العقل بالقوة الذي هواستعداد في النفس لقبول المعقولات وبين العقل بالفعل الذي يحصل في النفس عند قبولها بالمعقولات ويسميه الكندي بالعقل البياني أوالعقل الظاهر عندما يكون موضوع استعمال من طرف النفس، فإن العقل الفعال والذي يسميه الكندي بالعقل الذي بالفعل والذي هوعنده كليات الأشياء قبل حصولها في النفس فإذا حصلت فيها صارت العقل المستفاد.
إن الكندي يرفض كل الوسائط التي تقيمها الهرمسية والأفلاطونية المحدثة بين الله والعالم ويتصور العلاقة بينهما أنطولوجيا ومعرفيا تصورا إسلاميا محضا وعلى طريقة المعتزلة خاصة وأننا نجد الكندي يكرس هذا التصور بخطاب فلسفي أرسطي النزعة.
ضدا على التصورات الغنوصية بمختلف اتجاهاتها وكما عمل الكندي أيضا على ضرورة الدفاع عن المعقول الديني العربي ضدا على الغنوص والشيعة ،حيت توجه خطابه للدفاع عن المعقول العقلي أي الفلسفة وعلومها ضد الفقهاء وعلماء الكلام نتيجة فضح دوافعهم السياسية المصلحية الذين يهاجمون الفلسفة ويكفرونها باسم الدين فكيف تعامل الكندي مع هذا الإشكال؟
لا ينكر الجابري هنا أن مسألة تأصيل البرهان أنداك مع الكندي كانت لا تزال في مراحلها الأولى حيت لم يكن البرهان قد اكتمل في تلك الفترة إلا القلة القليلة من علوم البرهان ككتاب البرهان من كتب المنطق لأرسطووالذي لم يكن قد ترجم بعد هذا من جهة.
أما من جهة أخرى فرغم مجهود الكندي في تبيئة المنطق البرهاني إلا أن محاولته لتأسيسه هذا المنهاج سيكون ضعيفا ،ناهيك عن كونه كان ضعيف البضاعة في المنطق مما سيؤثر على توجهه البرهاني ، حيت بصريح العبارة إن الكندي في هذه الحالة لن يكون له خيارا إلا أن يلجا إلى السجال والجدل خاصة إذا عرفنا أن الفلسفة كانت محل هجوم من طرف فقهاء عصره ويكفرونها باسم الدين كما سبقت الإشارة.
والذين كانوا خصوم الفلسفة ويستمدون سلطتهم من مناصرتهم للدولة وبالتالي فلم يكن من حل سوى الدفاع عن الفلسفة ضد هؤلاء بتقديم كتاب في الفلسفة الأولى والتي هي العلم المؤسس للعلوم حسب أرسطوإلى الخليفة أمير المؤمنين ، المعتصم بالله.
لقد استغل الكندي فرصة تقديم كتاب في الفلسفة الأولى إلى الخليفة المعتصم حيت كتب مدخلا لهذا الكتاب بين فيه موضوع الفلسفة ومنزلتها من العلوم والمعارف محاولا ترتيب العلاقة بينها وبين الدين مبينا قصور خصومها عن إدراك الحقيقة ومعرفة الحق.
حيت يقول الكندي في رسالته المعتصم بالله “وهكذا فالفلسفة هي أعلى الصناعات الإنسانية منزلة وأشرفها مرتبة. لأنها بالتعريف علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان .ولأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق. ولما كان الأمر كذلك وكان القدماء قد سبقوا إلى البحت في هذا المجال فإنه لا مانع يمنع من الاستفادة من مجهوداتهم” .
ما يمكن ملاحظته هنا مع الجابري هوأن هذا التأسيس غير كاف ذلك أن مسألة التأسيس للعلاقة بين البرهان وباقي الأنظمة السالفة الذكر يجب أن تكون على صعيدي الرؤية والمنهج.
ففلسفة أرسطوهي ذات أساس وكل لا يتجزأ هي منهج ورؤية ولا يمكن تأسيس رؤية في حد ذاتها دون منهج باعتبار الرؤية هي نتاج المنهج. إن الإشكال يظهر في خصوم الفلسفة في الثقافة العربية الإسلامية وخاصة من قبل أهل النحو والبيان اللذان كانا يشكلان منهجا في التفكير حيت قام النحاة بدورهم برد فعل معاد تجاه المنطق، الذين سيرون فيه نحوا آخر منافسا لنحواللغة العربية بوصفه منطقا لهذه اللغة وهذا ما حصل في فترة تزعم الكندي المحاولة الأولى التوفيقية.
حيت تم الإعلان عن العلاقة بين منطق البيان ومنطق البرهان. يقول الجابري “لقد كان لابد إدن من بناء تصور شامل للعلاقة بين البيان منهجا ورؤية وبين البرهان منهجا ورؤية ، إنه تصور شامل يتم في إطاره وبالاستناد إليه ترتيب العلاقة بين المنهجين والرؤيتين : بين النحووالمنطق من جهة وبين الفلسفة والملة من جهة أخرى”.[5]
لقد كانت هذه هي مهمة الفارابي بالذات إذن، كيف ساهم الفارابي في التأسيس للعلاقة بين المنهج والرؤية علاقة برهانية؟
يتضح كما يرى الجابري أن عملية تنصيب العقل في الثقافة العربية الإسلامية لم تكن أمرا هينا إذ، أنها واجهت الغنوص المانوي والعرفان الشيعي من جهة والتصدي لردود الفعل السلبية التي كانت تصدر عن أوساط المتكلمين والفقهاء الذين اتخذوا طابعا نقديا وهجوما عنيفا لعلوم الأوائل جملة وتفصيلا.
لقد كان دور الكندي هنا دوريين حيت أن الطابع العام السجالي التي فرضته عليه الأوضاع السائدة جعل خطابه العقلاني يبقى خطابا سجاليا فقط وجدليا وليس برهانيا لكن هذا العجز الذي لحق الكندي لم يكن عجزا من اختياره وإنما اضطراريا فرضته عليه ظروف عصره الخالي من البرهان أومؤلفي البرهان، الذي لم يترجم إلى العربية إلا بظهور الفارابي حيت سيتولى هذا الأخير مهمة تدارك هذا النقص الذي وقع فيه الكندي ترى هل سيكون مؤهلا لذلك؟
- الفارابي:
“لقد نحا الفارابي في فلسفته اتجاها آخر فهولم يكن يعيش في ظل دولة مركزية قوية كدولة المأمون والمعتصم، دولة العقل متل الكندي بل لقد عاش الفارابي) 620 و339هجرية( في ظروف سياسية واجتماعية وفكرية تختلف تماما، حيت جاء في ظروف تميزت بالتمركز الفكري والسياسي والاجتماعي فجعل قضيته الأساسية إعادة الوحدة إلى الفكر وإلى المجتمع معا عن طريق تجاوز الخطاب الكلامي السجالي الجدلي والسفسطائي والأخذ بخطاب العقل الكوني والخطاب البرهاني.
إذن فالجابري يقرر أن الفارابي جاء في ظروف تميزت بالتمركز الفكري والسياسي والاجتماعي فجعل الفكر يتميز ويتجاوز الخطاب الكلامي السجالي الجدلي والسفسطائي والأخذ بخطاب العقل الكوني والخطاب البرهاني والمجتمع ببناء العلاقات داخله على نظام جديد يحكم النظام الذي يسود الكون ويحكم أجزاءه ومراتبه فانصرف باهتمامه للمنطق والفلسفة السياسية.
وقد عني الفارابي بالمنطق والبرهان ما قصر فيه الكندي فاسترجع صناعة المنطق صناعة كاملة فشرح غامضها وقرب تناولها داخل الساحة الفكرية الأمر الذي أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل كما أظهر عبقريته في تحليل المنطق وزوايا الانتفاع بها وطرق استعمالها وغيرها … لذلك فاسم المعلم الثاني بعد أرسطويستحق لقبه نظرا لما أظهره من جدارة وامتياز في إرجاع الثقافة العربية الإسلامية مكانتها الأصلية الأمر الذي عجز على تحقيقه الكندي.
لقد رأى الفارابي أنه بواسطة المنطق يمكن وضع حد للفوضى الماثلة في عصره وعليه فقد حرص على توضيح وظيفة المنطق الاجتماعية على صعيد التطور الفكري الثقافي العربي في المجتمع إنه فيلسوف المسلمين حقا.
يؤكد الفارابي اهتمامه بهذا الدور الذي يقوم به المنطق حيت يعمل على إزالة الاختلاف وتحقيق وحدة الفكر في المجتمع ذلك من خلال إبرازه للفوضى التي تصيب العقل العربي والحياة الفكرية بسبب الجهل بالمنطق.
من هنا يجب أن نفهم أن أهمية الفارابي تظهر في إبرازه لأهمية البرهان وتأكيده على أنه الموضوع الأساسي والرئيسي في المنطق، حيت يلح الفارابي على أن صناعة المنطق هوأساسا الوقوف على البراهين حيت يستعيد ما كان مهملا من المنطق خلال العصر الهلنستي ) كتاب البرهان( .
إن هدف الفارابي تكمن في تجاوزه الخطاب السفسطائي الكلامي والخطاب العرفاني بصفة عامة مادام يشكلان أهم أسباب التمزق الفكري المجتمعي، والاهتمام بتبيئة المنطق الأرسطي.
فكيف عمل أبونصر الفارابي على تبيئة المفاهيم المنطقية في الثقافة العربية التي كانت إلى عهد الثقافة بيانية الجملة؟ وكيف السبيل إلى ترتيب العلاقة بين كل من النحووالمنطق باللفظ والمعنى في الثقافة العربية الإسلامية؟
إن مسألة الألفاظ اللغوية في المؤلفات المنطقية عرفت اهتماما واسعا حيت يتجاوز بكثير ما كتبه أرسطوعن الألفاظ في كتابه المقولات والعبارة، حيت إن هذا الاهتمام لا يقتصر على مؤلفات المتأخرين بل يرجع بالأساس إلى الفارابي أيضا حيت خصص للموضوع عدة مقالات من أهمها كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق وعلى رأس الموضوعات التي اهتمت بها مباحت الألفاظ في المؤلفات المنطقية العربية منذ الفارابي نجد موضوع الكليات.
ما يلفت النظر هنا أن الجابري ينقل إلينا بعض أفكار ومقالات وكتب الفارابي التي تحدت فيها عن اللفظ المنطقي حتى يجعلنا نلمس معه هنا بوضوح الطريقة البيداغوجية الذكية التي قصد الفارابي بها تحويل اهتمام البيانيين من اللفظ إلى المعنى وبيان الوظيفة المنطقية للحروف داخل الجملة بدل الاقتصار على بيان وظيفتها النحوية.
ويظهر ذلك مع الفارابي بشكل واضح حيت يؤكد الجابري أن الفارابي تحدت في الموضوع لا حديت المنطقي وحسب بل أيضا حديت البياني الذي يخاطب بيان البيانيين بطريقتهم مركزا على الجوانب التي تتير اهتمامهم وتلفت انتباههم إلى ما هوغائب عن حقل تفكيرهم.
لقد كان الفارابي الفضل الكبير في ترتيب العلاقة بين النحووالمنطق حيت جعل من النحاة العرب تنفتح على عالم آخر غير العالم الذي شيدوه منذ “سيبويه” مما نتج عن هذا تأثرهم بالمنطق واستعانتهم بتصنيفاته وتقاسيمه كما يبدوا ذلك واضحا في كتاب الأصول في النحوالذي وضعه “ابن سراج” العالم النحوي الكبير.
على الرغم من فشل محاولة الكندي في تأسيس نظام برهاني داخل الثقافة العربية الإسلامية ، إلا أننا لا ننسى دور الفارابي الذي كان واعيا تمام الوعي للمجهود الكبير الذي كان عليه بذله للتمكن من إدخال هذه المفاهيم التي يقوم عليها البرهان منهجا ورؤية إلى حظيرة الحقل المعرفي العربي الذي يؤطر خطاب بياني على كافة المستويات حيت أدى به الأمر إلى شرح مفهوم الكلي بأسلوب أرسطوالذي يغلب عليه الهاجس التربوي حيت يوظف الأمثلة مجتهدا في جعل مخاطبه يستوعب المسألة المطروحة استيعابا تاما واضحا.
إن هدف الجابري بالأساس هوشرح هذا النظام البرهاني على طريقة الفلاسفة الإسلاميين وتجديد العقل العربي بجعله ينفتح على عالم متحرر كليا من معرفة البيان المسبقة للثقافة العربية الإسلامية. إن نفس الهدف الذي شغل الجابري هونفسه كان عند الفارابي لأن مسألة التجديد وتحرير العقل العربي هوما كان يشغل الفارابي لذلك كان يعلم أن تجديد عقل ما يحتاج إلى مخاطبة هذا العقل بالأسلوب الذي تعود الإنصات إليه والتي كان يستعملها هونفسه لأنه هوالسبيل حسب الفارابي من جعل العقل يفهم ويستوعب حتى نستطيع تجديده.
يرى الجابري “أننا إذا نظرنا لخطابي الكندي والفارابي من زاوية الأساس الابستمولوجي أوالنظام المعرفي لوجدناهما خطابا واحدا جديدا على الثقافة العربية الإسلامية يسجل لحظة جديدة في تاريخ تكون العقل العربي. فالثقافة العربية قبل الكندي والفارابي كانت يتقاسمها خطابان مختلفان تماما هما البيان الذي تحمله اللغة العربية والعرفان الذي يدعيه العقل المستقيل.
وإذا نحن حسب مقولة الجابري أمام خطاب جديد ينتمي بمفاهيمه ونظرياته العلمية والفلسفية إلى طبيعيات أرسطووميتافيزيقاه كما استعارهما الكندي وشرح آلياته وقوانينه الصناعة المنطقية التي أنضجها أرسطوواستعادها منه كاملة الفارابي، خطاب العقل الكوني الذي يؤسسه نظام معرفي خاص يقوم على البرهان لكن، إذا نظرنا إلى الخطابين.
من الزاوية الاستراتيجية التي توجه كل منهما حيت وجدناهما يختلفان في الاتجاه والمضمون لأن الظروف السياسية والمجتمعية التي عايشها كل منهما كانت مختلفة كما وضحت، فلحظة الفارابي كانت مكملة للحظة الكندي لينقلنا بذلك للحظة التوجه السينوي والذي اعتبره الجابري نتاج الثقافة العربية الإسلامية منذ انطلاقتها في عصر التدوين إلى زمنه.
فهو بكل تناقضاته كما يرى الجابري يسجل لحظة انفجار تناقض العقل العربي مع نفسه الذي برز فيها عجز العقل العربي إلى عهده لتحقيق القطيعة النهائية مع الهرمسية ونظامها المعرفي ، نظام العقل المستقيل حيت سيأتي الغزالي ليقيم الدليل على ذلك بتناقضاته وتقلباته وبتكريسه للهرمسية في دائرة البيان ذاتها مؤسسا أزمة العقل العربي التاريخية المجسدة خاصة في النظام العرفاني كما سبقت الإشارة فهوكما يرى الجابري قد تبنى منظومة الفارابي لأنها قنطرة تنقله إلى الواحد.”[6]
وانطلاقا من هذا يقرر الجابري قلب الصفحة والانتقال إلى مشروع تقافي عربي إسلامي بديل والمتمثل في ثلة من الفلاسفة على رأسهم ابن حزم والذي عرف بظاهريته منظورا إليه من الزاوية الإبستمولوجية المحض.
وكما قال الجابري من حق العقل العربي الدفاع عن نفسه باعتماد آلية ومنهج خاص ولن يجد الجابري أفضل من منهج البرهان ، الممثل في هيئة جديدة ، وقالب جديد ، انطلاقا من فلاسفة المغرب الإسلامي والذي سيتخذه كأساس لتحرير العقل العربي من العرفان الصوفي.
وفي إطار تتبع الإطار التاريخي العام والأوضاع السائدة آنذاك داخل الثقافة العربية الإسلامية.
نلاحظ مع الجابري أن صراع هذه النظم المعرفية الثلاثة في الثقافة والوعي الجمعي العربي الإسلامي قد مهد إلى قيام بنية عقلية مفتوحة مطاطة أخدت تفقد رقابتها الذاتية تدريجيا مما جعلها في نهاية المطاف تتسع لكل التصورات والرؤى اللاعقلية ، وتمنها، تبريرها بتأويل الجانب الغيبي في الدين تأويلا سحريا بإنكار السببية.
وبقلب الطبائع والإتيان بالخوارق والخرافة وهذا ما كان نتاجا لتصادم كرسي الصراع السياسي تاريخيا بين الشيعة التي تعتمد النظام العرفاني وبين أهل السنة من معتزلة وأشاعرة وسواهم، إذ أن انتصار العقل الغنوصي العرفاني لم يكن كنظام معرفي مؤسس لإيديولوجيا سياسية أودينية معينة، بل كبديل لكل منهجية أونظام يريد تبرير سياسة ما أوتكريس واقع سياسي معين بإحلال التصوف .
الشيء الذي نقل خطاب اللاعقل إلى أبعد من مجال البيان والبرهان إلى خبر العامة والجمهور، حيت التلقي والتسليم دون مساءلة وحيت مملكة الجمهور الأمي الواسع بما أنتج من الربط الصوفية ونظام المشايخ والطرق.
وهي الأطر الاجتماعية الثقافية السياسية التي يتدفق من حولها اللامعقول بلباسه الديني لتحويل العامة إلى قوة مادية تقف أمام كل محاولات النهضة العقلية أوالحركات الإصلاحية وكل هذا بحسب الجابري قاد إلى استقالة العقل العربي بنظامي المعرفة البياني والبرهاني، وسيطرة النظام العرفاني الغنوصي .
إلا أن الجابري مال لمقاربة أساسية يرى فيها المشرق العربي مشرقا بيانيا وعرفانيا مقابل المغرب العربي البرهاني حيت، طالب الجابري بإلغاء المنهج البياني وإحلال المنهج البرهاني محله من خلال إحلال منطق تنائي القيم الأرسطي بدل منطق تلاتي القيم البياني والعمل على نقل مجموعة من الآليات من حقل العلوم إلي حقل الثقافة الإسلامية دون تكيفها بل الاكتفاء باشتغالها .فمضمونها الذي اكتسبته داخل ثقافتها الأصلية التي تحولت إلى مدلول يرشد لتطبيق الجابري داخل التراث الإسلامي مشيدا جانبا إيديولوجيا.
[1] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي, سلسلة نقد العقل العربي,1 بيروت: دار الطليعة »1984 ص 221
[3] مرجع استبق، الجابري، تكوين العقل العربي، ص 230/231
[4] بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية )ط11) بناية “بيت النهضة” شارع البصرة ص.ب: 6001\113 الحمراء\بيروت \لبنان ص 385
[5] مرجع استبق، الجابري، بنية العقل العربي، القسم الثالث/الفصل الأول. الفقرة 1 ص417/418
[6] مرجع استبق، الجابري، بنية العقل العربي، القسم الثالث، الفصل الأول الفقرة 2