دراسات إسلاميةفكر وفلسفة

“علم الكلام” تعريفُه، موضوعُه، أهميتُه

علم الكلام؛ هو علمُ إقامة الأدلة على صحة العقائد الإيمانية، فقد عرف علماء الكلام ذلك العلم بأنه: علم يُقْتَدر به على إثبات العقائد الدينية مُكْتَسَبة من أدلتها اليقينية: القرآن والسنة الصحيحة لإقامة الحجج والبراهين العقلية والنقلية ورد الشبهات عن الإسلام.


وهناك عدة تعريفات لعلم الكلام، تختلف في ظاهرها في المفهوم المأخوذ منها، ولكنها في حقيقتها ترجع إلى حقيقة واحدة، منها تعريف الفارابي بأنه «ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل».


ويعرفه عضد الدين الإيجي في المواقف بقوله: “علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد ﷺ، فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام”.


وإذا كان كل من الفارابي والإيجي قد جعلا علم الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلامية دون تمييز بين الفرق الإسلامية، فإننا نجد ابن خلدون في مقدّمته يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق فيقول في تعريفه لعلم الكلام: «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد».


وهو في هذا يوافق ما ذهب إليه الغزالي في المنقذ من الضلال. وهناك تعريفات أخرى للكلام تحدده بموضوعه لتفصل بينه وبين العلوم الأخرى الناظرة في الإلهيات، منها تعريف الشريف الجرجاني له بقوله: «علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام».


وقد أُدخل قيد قانون الإسلام لإخراج الفلسفة الإلهية من التعريف، فإنها تبحث عن ذلك معتمدة على القواعد العقلية الفلسفية.


ويقول صديق حسن القنوجي في أبجد العلوم: «وقال الأرنيقي: هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى وصفاته لأن المقصود الأصلي من علم الكلام معرفته تعالى وصفاته ولما احتاجت مباديه إلى معرفة أحوال المحدثات أدرج المتأخرون تلك المباحث في علم الكلام لئلا يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى العلوم الحكمية.


فجعلوا موضوعه الموجود من حيث هو موجود وميزوه عن الحكمة بكون البحث فيه على قانون الإسلام وفي الحكمة على مقتضى العقول ولما رأى المتأخرون احتياجه إلى معرفة أحوال الأدلة وأحكام الأقيسة وتحاشوا عن أن يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى علم المنطق جعلوا موضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا ثم إن علم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولا من الكتاب والسنة ثم تثبت بالبراهين العقلية انتهى».


علم الكلام يعرف أيضًا باسم علم التوحيد، وعلم أصول الدين، وعلم الفقه الأكبر، وعلم الإيمان، وعلم الأسماء والصفات، وعلم أصول السنة، أحد أبرز العلوم الإسلامية الذي يهتم بمبحث العقائد الإسلامية وإثبات صحتها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية.


إذ يُعَدُّ – إلى جانب علم أصول الفقه – انعكاسًا لمنهج التفكير الإسلامي، وتجلياً من تجلياته العقلية. فهو – في بعض مسمياته– علم النظر والاستدلال، وقد سمي بذلك لقيامه على القول بوجوب النظر العقلي عند كثير من المتكلمين، واشتغاله بآليات الاستدلال العقلية على المسائل الإيمانية.


وهو علم يعنى بمعرفة الله تعالى والإيمان به، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز، وسائر ما هو من أركان الإيمان الستة ويلحق بها، وهو أشرف العلوم وأكرمها على الله تعالى، لأن شرف العلم يتبع شرف المعلوم لكن بشرط أن لا يخرج عن مدلول الكتاب، والسنة الصحيحة، وإجماع العدول، وفهم العقول السليمة في حدود القواعد الشرعية، وقواعد اللغة العربية الأصيلة.


ويقوم علم الكلام على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلامية بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان. فمثلًا إذا أردنا أن نستدل على ثبوت وجود خالق لهذا الكون، وثبوت أنه واحد لا شريك له، نرجع إلى هذا العلم.


وعن طريقه نتعرف على الأدلة التي يوردها العلماء في هذا المجال. وذلك أن هذا العلم هو الذي يعرفنا الأدلة والبراهين والحجج العلمية التي باستخدامها نستطيع أن نثبت أصول الدين الإسلامي، ونؤمن بها عن يقين. كما أنه هو الذي يعرفنا كيفية الاستدلال بها وكيفية إقامة البراهين الموصلة إلى نتائج يقينية. وهكذا إذا أردنا أن نعرف وجوب نبوة النبي وصحتها.


فإننا نعمد إلى أدلة هذا العلم التي يستدل بها في هذا المجال، وندرسها، ثم نقيم برهانا على ذلك. وأيضا إذا أردنا أن ننفي شبهة التجسيم عن الذات الإلهية، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نستطيع معرفة ما يقال من نقد لإبطالها.


ولابد في الأدلة التي يستدل بها على إثبات أي أصل من أصول الدين، وأي مسألة من مسائل هذا العلم وقضاياه من أن تكون مفيدة لليقين. فمثلًا لو أقمنا الدليل على ثبوت المعاد (أي البعث بعد الموت) لابد في هذا الدليل من أن يؤدي إلى إثبات المعاد بشكل يدعونا إلى الاعتقاد الجازم والإيمان القاطع بثبوته.


أي اليقين بمعاد الناس وببعثهم من القبور وحشرهم يوم القيامة، وعرضهم للحساب، ومن بعد مجازاتهم بالثواب أو العقاب.


وقال سعد الدين التفتازاني: «الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية». وقال الكمال بن الهمام في المسايرة: «والكلام معرفة النفس ما عليها من العقائد المنسوبة إلى دين الإسلام عن الأدلة علما وظنا في البعض منها».


وهذا التعريف يفترق عن ما سبقه بنصه على أن بعض العقائد تؤخذ عن دليل ظني، ومن هنا فإن علماء الكلام يدرجون في تصانيفهم بعض المسائل التي تنبني أصلا على أدلة ظنية. قال الكمال بن أبي شريف في شرحه عليه: «وهذا التعريف مأخوذ من قول أبي حنيفة رضي الله عنه: الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها». ومن ذلك يُفهم أن هذا العلم يفيد تثبيت العقيدة في النفس، وفي إفحام المخالف وإلزامه.


والملاحظ في هذه التعاريف، أن بعضها ناظر إلى المواضيع التي يدور البحث عنها في هذا العلم، وبعضًا آخر ناظر إلى الغاية المرجوّة منه. والجامع بين هذه التعاريف ما ذكر في ضمنه المسائل والغاية والأسلوب، فعُرّف بأنه: «العلم الذي يبحث عن أصول العقائد المذهبية، مستعيناً بالأدلة العقلية والنقلية، خلوصًا من العقائد الكافرة الضالة، والتزاماً بالعقيدة الحقة».


ومن هذه التعريفات يمكننا أن نستخلص أن علم الكلام يقوم على إثبات العقيدة الدينية عن طريق الأدلة العقلية، فهو بذلك يقوم بتوضيح أصول العقيدة وشرحها وتدعيمها بالأدلة العقلية وبذلك يستكمل المؤمن نوران: نور العقل ونور القلب، وتزول الشكوك والوساوس التي قد تعتريه. ولعلم الكلام مهمة دفاعية تتمثل في رد دعاوى الخصوم المنكرين للعقيدة الإسلامية.


وهؤلاء هم أصحاب الديانات الشرقية القديمة أو أصحاب الديانات السماوية المخالفة للإسلام وهي اليهودية والمسيحية، ويقوم علم الكلام بتقويض أدلة أصحاب تلك الديانات وبيان بطلانها، وذلك عن طريق إيراد الأدلة العقلية التي تبين تفاهتها وسقوطها، وأيضًا الرد على الشبه التي يوردها أصحاب تلك الديانات على العقيدة الإسلامية.


فعلم الكلام له دور إيجابي في إثبات صحة العقيدة بالعقل، ودور دفاعي يقوم بالدفاع عن العقيدة ضد الخصوم المنكرين لها، وقد تلازم الدوران عبر مراحل نشأة علم الكلام وتطوره، وليس صحيحا ما يذكر بأن مهمة علم الكلام كانت دفاعية فقط ولم يهتم بتوضيح العقيدة وشرحها.


وقد عرف علم الكلام الكثير من العلماء والفلاسفة المسلمين، وهذه التعريفات وإن تباينت في ألفاظها إلا أنها كلها تكاد تتفق على معنى واحد. فهي مجمعة على أن علم الكلام من شأنه أن يساعد المسلم على نصرة الآراء الدينية الواردة في القرآن والسنة بالعقل.


وهذه التعريفات تبين أن علم الكلام علم يستطيع المرء من خلاله أن يثبت العقائد الإيمانية إثباتاً صحيحاً وأن يرد كل الشبهات والانحرافات عن هذه العقائد. كذلك تتفق هذه التعريفات على أن موضوع علم الكلام هو الذات الإلهية: صفاتها وأفعالها وعلاقتها بالكون والإنسان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هناك شرطين لابد من توافرهما لكي يكون البحث مندرجاً تحت علم الكلام:


الشرط الأول أن يبدأ عقيدته من كتاب الله وسنة رسوله.

والشرط الثاني أن يكون هدف الباحث والغاية من دارسته هو الدفاع عن هذا الإيمان بالعقل، أي لابد له من أن يؤكد الشريعة بالعقل.


فبدون هذين الشرطين لن يكون البحث بحثاً كلامياً أو مندرجاً تحت علم الكلام. فعالم الكلام لابد أن يستمد موضوع بحثه ودارسته من النص الديني، من النقل لا من العقل، من الشريعة الدينية لا من الأحكام العقلية. ولابد أن تكون غايته الدفاع عن هذه الشريعة سواء بشرح نصوصها الدينية أو بتفسيرها والتعليق عليها أو بإيراد الحجج العقلية المؤيدة لها.


أطلقت عدة تسميات على ذلك العلم الذي يتناول أصول الدين، فلقد سماه أبو حنيفة بالفقه الأكبر من حيث إنه يتعلق بالأحكام الاعتقادية الأصلية في مقابل علم الفقه الذي يتعلق بالأحكام الفرعية العملية. وفي شرح العقائد النسفية يسميه التفتازاني علم التوحيد والصفات فيذكر أن العلم المتعلق بالأحكام الفرعية أي العملية يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصلية أي الاعتقادية يسمى علم التوحيد والصفات.


وهذه التسمية تقوم على شرف ذلك العلم وعلو منزلته، إذ أنه يتناول الأصول الاعتقادية التي تبنى عليها الفروع وهو بذلك رأس العلوم الإسلامية إذ إليه تنتهي هذه العلوم، وفيه يبين مباديها وموضوعاتها. وقد يسمى بعلم أصول الدين، من حيث إن موضوعه يتناول أصول الدين، وهي الإيمان بالله تعالى ووحدانيته، وصفاته وأفعاله.


والإيمان بالوحي وإرسال الله تعالى للرسل والإيمان بالبعث والثواب والعقاب في الآخرة، وتلك أصول الدين. ولقد أطلق المتكلمون الأوائل على مؤلفاتهم الكلامية هذه الأسماء، فمؤلف أبو حنيفة سماه الفقه الأكبر، ومؤلف الماتريدي عنون باسم التوحيد، ومؤلف أبو اليسر البزدوي عنون باسم أصول الدين، وكذلك عبد القاهر البغدادي له كتاب بعنوان أصول الدين.


والمشهور هو تسمية ذلك العلم بعلم الكلام، وذلك لعدة أسباب، منها أن مسألة الكلام الإلهي كانت أشهر مباحثه فسمى الكل باسم أشهر أجزائه، وأيضًا سمي بعلم الكلام لأنه يورث قدرة على الكلام، وأيضا لأن نسبة هذا العلم للعلوم الإسلامية كنسبة المنطق إلى الفلسفة فسمي بالكلام.


وذلك حتى تقع المخالفة اللفظية بين الاسمين وأيضا لأنه أول ما يجب من العلوم، والكلام سبب لتعليم العلوم وتعلمها فكان سببا لها في الجملة، وأيضا لأن مباحث هذا العلم مباحث نظرية فهو يبحث في الأمور الاعتقادية التي لا يندرج تحتها الفعل، أما الفقه فهو يبحث في أحكام عملية يندرج تحتها فعل.


وعلى هذا فالكلام مقابل الفعل، والمتكلمون قوم يقولون في أمور ليس تحتها عمل، فكلامهم نظري لفظي لا يتعلق به فعل، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعية العملية. وقد يسمى بعلم الكلام بما رواه جلال الدين السيوطي في ذم أهل البدع وهم الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعمله وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون.


ويقول سعد الدين التفتازاني في بيان أسباب تسمية علم الكلام بهذا الاسم: «لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا؛ ولأن مسألة الكلام كان أشهر مباحثه وأكثرها نزاعًا وجدالًا، حتى إن بعض المتغلبة قتل كثيرًا من أهل الحق؛ لعدم قولهم بخلق القرآن».


وذهب الشهرستاني في الملل والنحل إلى أن سبب تسميته بهذا الاسم: «إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان».


ويعلل عضد الدين الإيجي تسمية علم الكلام بأسباب مماثلة بقوله: «إنما سمي كلاما إما لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة، أو لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا، أو لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه، أو لأنه يورث القدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم». والأرجح أن علة تسميته بالكلام وعلم الكلام، راجعة لاشتهاره بالخوض في موضوع كلام الله تحديدا.


ويبدو من هذه التسميات أنها اشتقت من أهم مباحث هذا العلم التي يبحثها فسمي تارة بأصول الدين من حيث تناوله لأصول الدين بالبحث، وتارة سمي بالتوحيد من حيث إن الأصل الأول الذي يقوم عليه الدين هو وجود الله تعالى ووحدانيته، وتارة يسمى علم الكلام وذلك من أشهر مسميات هذا العلم وهو كلام الله تعالى، وإما أنها ترجع إلى فائدة ذلك العلم.


إذ إنها تعطي لصاحبها القدرة على الكلام في أصل الدين، وإما لمنهجه العقلي واستخدامه للعقل بجانب النص، وإما لطبيعته النظرية من حيث اتصاله بالنظر المجرد الذي لا يتصل بالعمل. وبالرغم من تعدد إطلاق الأسماء على ذلك العلم، إلا أن المشهور في تسميته هو علم الكلام.


  • موضوع علم الكلام

موضوعات علم الكلام تتعلق بالأصول الدينية كالبحث في ذات الله وصفاته وأفعاله. وفي أحكام الشريعة من بعثة الرسل ونصب الأئمة والتكليف والثواب والعقاب. يتناولها بحسب ما وردت في الشريعة أمرًا مقررًا لا مدخل فيه للشك، محاولًا أن يؤيدها بالأدلة العقلية حتى يكون الإيمان بها أشد وثوقًا وأكثر توكيدًا لاجتماع النقل والعقل معاً.


فضلاً عن أن الدليل العقلي هو السبيل إلى إثبات هذه الأصول على المخالفين من أصحاب الديانات المخالفة. وموضوع علم الكلام هو النظر أي الاستدلال بخلق الله تعالى لإثبات وجوده وصفاته الكمالية وبالنصوص الشرعية المستخرج منها البراهين. وهو على قانون الإسلام لا على أصول الفلاسفة.


لأن الفلاسفة لهم كلام في ذلك يعرف عندهم بالإلهيات؛ وعلماء التوحيد لا يتكلمون في حق الله وفي حق الملائكة وغير ذلك اعتماداً على مجرد النظر بالعقل، بل يتكلمون في ذلك من باب الاستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن الرسول؛ فالعقل عند علماء التوحيد شاهد للشرع ليس أصلاً للدين.


وأما الفلاسفة فجعلوه أصلًا من غير التفات إلى ما جاء عن الأنبياء، فلا يتقيدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن الأنبياء، على أن النظر العقلي السليم لا يخرج عمّا جاء به الشرع ولا يتناقض معه. قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين ما نصه: «وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير».

قال وقال الحافظ ابن عساكر: «….يا خليل الله ما تقول في علم الكلام، فقال: يدفع به الشبه والأباطيل».


وموضوع علم الكلام هو كما يحدده الإيجي في كتابه المواقف: «المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا». يقول الشريف الجرجاني في شرحه: «وذلك لأن مسائل هذا العلم أما عقائد دينية كإثبات القِدَم والوحدة للصانع، وإثبات الحدوث وصحة الإعادة للأجسام.


وأما قضايا تتوقف عليها تلك العقائد كتركيب الأجسام من الجواهر الفردة، وجواز الخلاء وكانتفاء الحال، وعدم تمايز المعدومات المحتاج إليهما في اعتقاد كون صفاته تعالى متعددة وموجودة في ذاته…». والدين يقوم على جملة من الأحكام، بعضها يتعلق بالأمور الاعتقادية، وبعضها يتعلق بالأمور العملية من عبادات ومعاملات.


ولقد وضح ابن خلدون الأمور الاعتقادية بأنها الأمور التي كلفنا بتصديقها بقلوبنا واعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بألسنتنا، وهي التي تقررت بقول النبي ﷺ حين سئل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». وهذه هي العقائد الإيمانية المقررة في علم الكلام.


وهذه الأمور الاعتقادية لا تتعلق بالعمل، فيذكر جلال الدين الدواني في شرحه على العقائد العضدية طبيعة تلك الأمور الاعتقادية مفرقا بينها وبين طبيعة الأمور العملية فيقول: «ما يتعلق الفرض بنفس اعتقاده من غير تعلق بكيفية العمل لكونه تعالى حياً قادراً إلى غير ذلك من مباحث الذات أو الصفات وتسمى تلك الأحكام المتعلقة بكيفية العمل كوجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم وتسمى شرائع وفروعاً وأحكاماً ظاهرة».


فالدين بذلك يقوم على أصول وفروع، وعلم الكلام يتناول أصول الدين في مقابل الفقه الذي يتناول الأحكام العملية، ومبحث علم الكلام هو ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، وبعث الرسل وأحكام الآخرة. ولقد ذكر القاضي الأرموي موضوعات أخرى تتعلق بالبحث في صفات الله تعالى وأفعاله كحدوث العالم.


فيقول: موضوع علم الكلام هو ذات الله تعالى إذ يبحث فيه عن عوارضه الذاتية التي هي صفاته الثبوتية والسلبية وعن أفعاله إما في الدنيا كحدوث العالم، وإما في الآخرة كالحشر وعن أحكامه فيهما كبعث الرسل ونصب الإمام في الدنيا من حيث إنهما واجبان عليه تعالى أم لا، والثواب والعقاب في الآخرة من حيث إنهما يجبان عليه أم لا.


ويقول شمس الدين السمرقندي في الصحائف الإلهية: «لما كان علم الكلام نفسه يبحث عن ذات الله تعالى وصفاته وأسمائه، وعن أحوال الممكنات والأنبياء والأولياء والأئمة والمطيعين والعاصين، وغيرهم في الدنيا والأخرى، ويمتاز عن العلم الإلهي المشارك له في هذه الأبحاث بكونه على طريقة هذه الشريعة، فحده: إنه علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام».


وعلم الكلام يبحث في العالم من حيث دلالته على الله، فيذكر الخوارزمي في بيان أصول الدين التي يتكلم فيها المتكلمون، وأولها القول في حدوث الأجسام والرد على الدهرية الذين يقولون بقدم الدهر، والدلالة على أن للعالم محدثاً (أي خالقاً) وهو الله تعالى والرد على المعطلة.


ويلاحظ أن مبحث الإمامة التي ذكرها التهانوي وغيره على أنه من المباحث الكلامية، لا يلق اتفاقاً من جميع المتكلمين في ضمه إلى مباحث علم الكلام، فعلى سبيل المثال الكمال بن الهمام في «المسايرة» يرى أن مبحث الإمامة ليس من موضوعات علم الكلام بل هي من المتممات. ويرى سيف الدين الآمدي أيضا أن مبحث الإمامة ليس من أصول الدين بل من فروعه.


  • أهميته

علم التوحيد أو علم الكلام هو علم يفيد معرفة الله على ما يليق به ومعرفة رسوله على ما يليق به، وتنزيه الله عما لا يجوز عليه، وتبرئة الأنبياء عما لا يليق بهم، أو يقال: هو العلم الذي يعرف به ما يجوز على الله وما يليق به ومالا يجوز عليه وما يجب له من أن يُعرف في حقه سبحانه وتعالى.


قال إمام الصوفية الجنيد البغدادي: “التوحيد إفراد القديم من المُحدث”. وقال الشيخ أبو علي الروذباري تلميذ الجنيد: “التوحيد استقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة كل ما صورته الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).


وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري: “أهل السنة فسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل”.


وشرف هذا العلم على غيره من العلوم لكونه متعلقاً بأشرف المعلومات التي هي أصول الدين أي معرفة الله ورسوله. والعلم بالله تعالى وصفاته أجل العلوم وأعلاها، ويسمى علم الأصول، وعلم التوحيد، وعلم العقيدة، وقد خص النبي نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: «أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له» فكان هذا العلم أهم العلوم تحصيلاً وأحقها تبجيلاً وتعظيماً.


قال تعالى: «فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك». قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار لتعلّق التوحيد بعلم الأصول، وتعلق الاستغفار لعلم الفروع. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن الرسول سُئل: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله«.


وصح عن جندب بن عبد الله أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حَزاوِرَة (جمع حَزَوّر وهو الغلام إذا اشتد وقوي)، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً» رواه ابن ماجه.


فهذا يدل على أهمية علم التوحيد الذي كان لعلماء السلف اهتمام بالغ في تحصيله وتعليمه للناس، قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأبسط: «الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام، والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها». وقال أيضاً: «أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه وما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر».


وفي فتاوى قاضيخان على مذهب أبي حنيفة عنه ما يدل على أهمية الاعتناء بعلم التوحيد وتعليمه للناس، فقد ورد فيه ما نصه: «تعليم صفة الخالق مولانا جل جلاله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم الأمور، وعلى الذين تصدّوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك.


قال الله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) وعلى الذين يؤمّون في المساجد أن يعلّموا جماعتهم شرائط الصلاة وشرائع الإسلام وخصائص مذاهب الحق، وإذا علموا في جماعتهم مبتدعاً أرشدوه وإن كان داعياً إلى بدعته منعوه وإن لم يقدروا رفعوا الأمر إلى الحكام حتى يجلوه عن البلدة إن لم يمتنع.


وعلى العالم إذا علم من قاض أو من آخر يدعو الناس إلى خلاف السنة أو ظن منه ذلك أن يعلم الناس بأنه لا يجوز اتباعه ولا الأخذ عنه فعسى يخلط في أثناء الحق باطلاً يعتقده العوام حقاً ويعسر إزالته!».


وقال ابن عساكر: «أخبرنا الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم ابن عبد الكريم بن هوازن إجازة قال: سئل أبي الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله فقيل له: أرباب التوحيد هل يتفاوتون فيه؟ فقال: إن فرقت بين مصل ومصل، وعلمت أن هذا يصلي قلبه مشحون بالغفلات، وذاك يصلي وقلبه حاضر، ففرق بين عالم وعالم.


هذا لو طرأت عليه مشكلة لم يمكنه الخروج منها، وهذا يقاوم كل عدو للإسلام، ويحل كل معضلة تعز في مقام الخصام، وهذا هو الجهاد الأكبر، فإن الجهاد في الظاهر مع أقوام معينين، وهذا جهاد مع جميع أعداء الدين، وهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، وللخراج في البلد قانون معروف،


إذا أشكل خراج بقعة، رجع الناس إلى ذلك القانون، وقانون العلم بالله قلوب العارفين به، فرواة الأخبار خزان الشرع، والقراء من الخواص، والفقهاء حفظة الشرع، وعلماء الأصول هم الذين يعرفون ما يجب ويستحيل ويجوز في حق الصانع، وهم الأقلون اليوم…». فظهر من ذلك أن صرف الهمة لتحصيل هذا العلم وتعليمه للناس مقدم على غيره من العلوم، لأن العبادة لا تصح إلا بعد معرفة المعبود كما قال الغزالي.


وتتلخص فائدة علم الكلام في التالي:

معرفة أصول الدين معرفة علمية قائمة على أساس من الدليل والبرهان.
القدرة على إثبات قواعد العقائد بالدليل والحجة.
القدرة على إبطال الشبهات التي تثار حول قواعد العقائد.
حفظ قواعد الدين، أي عقائده من أن تزلزلها شبه المبطلين.


تبنى عليه العلوم الشرعية كلها، إذ هو أساسها، وإليه يؤول أخذها واقتباسها، وإنه بدون معرفة الخالق بصفات الجلال والجمال، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب لم يتصور وجود علم التفسير وعلم الحديث ولا علم الفقه ولا أصوله، ومن ثم تظهر فائدة علم التوحيد وأنه مرجع جميع العلوم الإسلامية.


وتأتي الحاجة إلى دراسة هذا العلم وأمثاله مما يوصل إلى معرفة أصول الدين من وجوب معرفة أصول الدين على كل إنسان توافرت فيه شروط التكليف الشرعي والإلزام الديني. ووجوب النظر في قواعد العقائد ومعرفتها وجوب عقلي، أوجبته الفطرة السليمة الملزمة بالتمسك بالدين والالتزام بأحكامه وتعليماته.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى