فكر وفلسفةنقد

بين “إدوارد سعيد” و”عبد الوهاب المسيري” .. تأملات في فقد الحرية

حين يضطرب العالم يبدو الاختيار الأكثر جدية، هو الابتعاد للتأمل ولقراءة أوسع وأعمق للمشاهد السياسية. ويصبح البحث عن الحقائق، على الرغم مما يبدو حضورها، فرض عين على من يستطيع.

الابتعاد للتأمل وقراءة أوسع للمشاهد السياسية بحثًا عن الحقائق، هو الاختيار الأكثر جدية عندما يضطرب العالم

بقيتُ لفترة وحتى اليوم، أسيرةً لمفهوم اللحظة التاريخية التي تحدث عنها الدكتور عبد الوهاب المسيري، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، في إطار كونه مثقفًا ومفكرًا قدم منهاجًا للتفكير، ليس فقط في هذه القضية، بل في قضايا أخرى كانت تطرح أسئلة ملحة على العقل العربي.

كما وجدتني أيضًا أعيد قراءة وهضم أطروحة إدوارد سعيد عن المثقف والسلطة، وأجد كليهما متقاطعين تاريخيًا، رغم اختلاف الطريقة والطرح وأبعاد التناول.

تكمن أهم أدوار المثقف عند إدوارد سعيد في كشف الحقيقة بكل تجرد وحياد، إلا أن ماهية الحقيقة والوسائل التي يتم بها البحث عنها وإيجادها، وكيفية توجيهها، وسياقها المكاني والزماني؛ هي أسئلة محيرة وشائكة.

يرى سعيد أنها غالبًا ما تتوه وسط ما يسعى المثقف خلاله من سياقات تلزمه بتوازنات معينة، وربما مغانم ذاتية.

وبينما ذهب المسيري إلى المنهج، كان إدوارد سعيد ينتقد الوقائع البشرية والمجتمعية والسياسية، ويعتبرها عملًا بشريًا، ومن ثم تصبح الحقيقة والموضوعية واقعيًا وتاريخيًا وبفعل البشر؛ ذاتٌ متعددة ومتنوعة الأشكال والألوان.

كما يعتقد سعيد أن كثيرين قد وقعوا في هذا الفخ، أي فخ الموضوعية الزائفة، من خلال اتباع ما ظنوا أنها مناهج علمية صارمة وأدوات حاسمة، كانت مجرد “مستنقع موحل من المزاعم والمزاعم المضادة لها، حتى لتتضاءل تلك الموضوعية المزعومة لتصبح أقل حجمًا من ورقة التوت التي تستر العورة، بل قد لا تبلغ لضآلتها حجم تلك الورقة أحيانًا”.

وعند سعيد، فإن المثقف الحُر مطالب بالإجابة عن إشكال مرتبط بالخصوصية ذات الصلة بالهوية والثقافة، وبالتاريخ المحلي، بعيدًا عن مفاضلة أو تراتبية قد تظهر الثقافات أو الهويات الأخرى أقل منزلة أو أدنى مكانة، ودون الوقوع في فخ تضخيم الأنا، سواءً أكانت هذه “الأنا” هي الحضارة أو الوطن،

إذ “لا يجدر بالمثقف أن يهدر طاقته في الحديث الرنان الطنان حول أمجاد حضارتنا (نحن) أو تاريخ انتصاراتنا (نحن)”، كما يقول.

فالمثقف عند إدوارد تبرز أدواره الحاسمة في الجهر بالحقيقة والاحتجاج لها، رغم معرفته بما قد تكلفه الحقيقة أحيانًا.

كان المسيري نموذجًا للمثقف الذي يشارك رجل الشارع همومه دون تعالٍ، وكان من أوائل الذين شاركوا في جهود مكافحة التطبيع في مصر وخارجها.

ويرى سعيد أن الوطن يمكن أن يكون محل اغتراب للمثقف الذي يرفض الحقيقة، فيحتال على ذلك الاغتراب بالاستمرار في عمله من خلال الكتابة كوسيلة للحياة، فالتواجد في الوطن دون حرية قد يصبح هو المنفى، بينما قد يصبح الوطن هو البُعد عن التطبيع و المهادنة والتماهي والتكيف.

  • التجرية العملية في حياة المسيري

ولعل أجمل وأعمق التجارب الإنسانية للمثقفين في عالمنا العربي، هي تجربة المسيري التي قدمت تمثيلًا عمليًا دقيقًا لمقولات إدوارد سعيد عن المثقف،

والتي يفرد لها كتابه الممتع “رحلتي الفكرية: في البذور و الجذور و الثمر”، ويحكيها بتفاصيلها الدقيقة الإنسانية والعلمية، من أول التكوين، وحتى آخر تفصيلة في معاركه، مرورًا بمشروعه الأهم؛ موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية“.

ويروي المسيري تجربة علاقته بالسياسة فيقول إن اهتمامه بها كان بالدرجة الأولى اهتمامًا معرفيًا فلسفيًا، وإن اهتمامه بالأحداث اليومية كان اهتمامًا قائمًا على المراقبة والتدوين.

 ويعطي أمثلة على ذلك فيقول: “كنت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1967 حين حدثت النكسة، وقد احتفى الإعلام الأمريكي بالانتصار الإسرائيلي بشكل هستيري، ومع ذلك بدأت رسالتي للدكتوراه بعد الحرب مباشرة”.

ويضيف: “ثم نشبت حرب 1973، وكنت مشغولًا بكتابة الموسوعة، والتصقت زوجتي مثل معظم المصريين بالتلفاز، واستمررت أنا بعملي لم أتوقف، لكنني طلبت منها أن تخبرني حين ترى الإسرائيليين، حيث كنتُ أريد أن أراهم رؤية العين”.

ويستطرد بالقول: “ومع هذا أريد أن أذكر مشهدًا لن أنساه عرضه التليفزيون الأمريكي بعد حرب سنة 1967 مباشرة.

حيث كان موشيه دايان يخطب في بعض الأسرى المصريين العائدين إلى مصر، وكان موضوع خطبته بطبيعة الحال السلام”، ثم يضيف ساخرًا: “فالإسرائيليون كما يُبيّن سلوكهم لا يطلبون إلا السلام والرخاء للجميع!”.

ليعود للمشهد: “المهم قال دايان للجنود العائدين أن يُبلّغوا القيادة المصرية برغبة الصهيونية بالسلام، فلم يَرُد الجنود واعتلى وجوههم الصمت وشكل من أشكال التصميم اللذين أدرك ديان مغزاهما، وحين ركب الجنود الحافلة هتفوا: ناصر.. ناصر، فقال المعلق: من الواضح أن الجنود المصريين لن ينقلوا رسالة السلام هذه للقيادة المصرية”.

كان عبد الوهاب المسيري نموذجًا للمثقف الذي يشارك رجل الشارع همومه دون تعالي المثقفين، فقد كان من أوائل الذين شاركوا في الجهود الرامية لمكافحة التطبيع في مصر وخارجها، حتى أنه كان يشارك باستمرار في المظاهرات المناصرة لفلسطين،

وهي مظاهرات كانت الأنشط في مصر ما قبل ثورة يناير فيما يخص القضية الفلسطينية، وكانت زوجته الراحلة الدكتورة هدى ذات تواجد دائم بها.

و أخيرًا، يذكر موقفًا طريفًا عن مقدمات التطبيع الرسمي الذي كان يُفرض على الجامعات عام 1982، حين وصل قسم اللغة الإنجليزية بكلية البنات والذي كان يعمل به المسيري أستاذًا؛ خطابًا رسميًا من وزارة الخارجية، يطلب من القسم اقتراح آليات لتوطيد العلاقات مع الجامعات الإسرائيلية،

وكان رد القسم هو الرفض الشفوي، فاقترح المسيري وقتها أن يتم كتابة نص واضح ومفصل فيه رفض تام لهذا المقترح، ولكن أحد الأساتذة أعضاء القسم اقترح ردًا واحدًا بسيطًا، وهو: “عُلم”. فابتسم وقتها المسيري، لأنها طريقة بيروقراطية رائعة لقتل أي مقترح.

انخفاض سقف الحريات، يجعل من اغتراب المثقف واقعًا حتميًا شديد القسوة، ويجعل الوطن سجنًا بدنيًا وفكريًا

ومع هذه التأملات في رحلة المسيري وإدوارد سعيد، إلا أن انخفاض سقف الحريات، يجعل من اغتراب المثقف واقعًا حتميًا شديد القسوة، ويجعل الوطن سجنًا بدنيًا وفكريًا، أو ساحة حرب أكبر من أن يستطيع الصمود فيها، أو الرحيل عنها.

مها عمر: مترجمة وباحثة من مصر. تهتم بالأدب الإسباني والتراث المصري.

مها عمر

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى