الدراسات الثقافيةعلوم سياسية

تجليات تدافع القيم في فكر المهدي المنجرة

إن الثقافة التي يمتلكها من نصطلح عليهم اسم النخبة، أو المثقفين  في مجالنا التداولي الإسلامي، تتجسد في حامليها غالبا على شاكلتين: قسم من المثقفين استجمع معلومات واسعة من ميادين معرفية شتى.


ومتى سألته عن فن من الفنون استطاع أن يجيبك، ونوع آخر لا يملك من المعلومات ما عند الأول، لكنه يمتلك قدرة على التقرير والاستنتاج، وملكة للنقد والاستدراك  تجعل القارئ يقف مشدوها، ونحسب أن المفكر المغربي الدكتور المهدي المنجرة داخلا في الصنف الثاني.


فقد عاش رائدُ الدراسات المستقبلية قسطا وافرا من عمره يتنقل بين الدول الغربية، لكنه لم يتشرب الثقافة الغربية وقيَّمها، كما حدث لكثير من النخب العربية التي انبهرت بالحضارة في مستوياتها المادية، فكان أن شربوها على الريق، بل على العكس من ذلك كان مفكرنا مستوعبا للغرب أيما استيعاب، فقد شغل مناصب عالية في دول كبرى، ومع ذلك ظل الرجل وفيا لقيم أمته التي أصابها الوهن،


بل تراه مستثمرا شبكة علاقاته في استجماع المعلومات المهمة التي استطاع بفضلها أن يكشف عورة الغرب وخططه للإجهاز على كل من سولت له نفسه مخالفة أهدافه التي ترنوا إلى إضعاف المسلمين، لأن هذا الغرب يعي جيدا حسب مفكرنا أن قوته  كلها ليست مستمدة من ذاته، بل إنها تكمن في ضعفنا نحن  المسلمين[1]،


ولذلك فإن ما قام به الدكتور المنجرة في زمنه من تحذير الأمة الإسلامية ( لأن الرجل كان يُنظِّرُ لأمته على خط طنجة جاكارتا كله وليس لبلده المغرب فقط)،  من حرب القيم التي يديرها الغرب، عبر وسائطه التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، والمتجسدة في الإعلام الذي يستهدف اضمحلال القيم وتلاشيها عبر ما يصطلح عليه “العولمة”، ومن خلال استهداف التربية ورجالاتها في العالم الإسلامي،


وإذا عرفنا أن الحاضن الأساس للقيم بعد النصوص المقدسة إنما هي الأسرة والمدرسة، فإنه متى تم تغييب الدور المنوط بهما ضاعت القيم وضاعت الحضارة وضاعة الأمة كلها، يحدث هذا وغيره في عالم المسلمين في زمن الحرب الحضارية (حرب استهداف القيم)، بينما الحكومات والأنظمة السائدة في العالم الثالث لا يعنيها سوى البقاء والجثوم على الشعوب المغلوب على أمرها[2].


هذا الأمر سيكون له ما بعده في العالم العربي حسب عالم المستقبليات المغربي الذي استبصر انتفاضة سيقودها الشباب العربي للتخلص من هذه اليافطات التي لا تعدوا أن تكون أدوات بيد المستعمر الغربي، يقول المنجرة: ” والفرق بين الاستعمار القديم والجدي.


د هو أنه في هذا الأخير أصبحت القيادات العربية هي نفسها مستعمرة، وقلتُ مرارا إن النموذج الإصلاحي الآن قد انتهى، ولا أتوقع أن يبقى أي نظام عربي كما هو، خلال الخمس أو العشر سنوات القادمة، لا بد أن يكون هناك تغيير جذري وتنظيف في الأنظمة”[3].


كما يرى صاحب مقولة صدام الحضارات الأول قبل هانتنغتون، أن الإنسان المسلم لن يستعيد تاريخه الحضاري إذا ما انفلت من بين يديه، ولذلك كان الغرب ولا يزال  حريصا أن يكتب لنا تاريخنا، لأنه يعي حجم هذا التاريخ وقيمته التي تكمن في تمركزها على “منظومة القيم”، وإذا ما أردنا أن نستقل حقا بإنسِيتنا، ونبني مستقبلنا، فعلينا أن نحرر تاريخنا من قبضة الغرب، وبذلك سنكون قد حررنا ذواتنا وتاريخنا ومستقبلنا بتحرير قيمنا.


وقد جاءت هذه المقالةلتكشف المغطى عن تجليات هذا التدافع القيمي بين الشمال والجنوب كما يقرره عالم المستقبليات الدكتور المنجرة، وذلك وفق الخطة الآتية :


أولا: بين يدي البحث

ثانيا: نحو تحرير مفهوم ” تدافع القيم”

ثالثا: العالم الثالث:  بين موقع الهوية وواقع العولمة

رابعا: بين علم المستقبليات وحفظ منظومة القيم


  • أولا: بين يدي الدراسة

إن مركزية القيم في فكر ومشروع صاحب “قيمة القيم” لم تكن من باب الإمتاع والمؤانسة أو التخمين والرجم بالغيب، بل كانت نتيجة دراسات مستفيضة للعالمَين العربي والغربي، للغاتهما وفنونهما ولطريقة تفكيرهما بالشكل الذي يجعل القارئ لإنتاج صاحب مقولة الحرب الحضارية يشعر أنه أمام أنثروبولوجي كبير.


إن الفكر المنجري ( نسبة للدكتور المنجرة) زاده الوضوح والتخلص من عقدة النقص الحضارية التي يشعر بها المغتربون المنحدرون من العالم الثالث في تعاملهم مع الغرب فهما وتحليلا واستدراكا ونقدا، الأمر الذي جعله يذهب إلى القول بأن الحروب العالمية القادمة لن تكون سوى حروبَ قيم وهُويات،


ولذلك فإن أي مشروع لبناء المستقبل لا يجعل  حفظ منظومة القيم ضمن أُولَى أولوياته؛ لا يعدو أن يكون برنامجا آليا مآله  الزوال والاضمحلال، ولنا أن نعتبر الدكتور المنجرة المثقف المستأنف لمشروع البروفيسور مالك بن نبي الذي رسم في كتابه شروط النهضة فصلا خصصه لما أسماه ( الدورة الحضارية)، وهو يجيب عن سؤال ظل مطروحا منذ عهد جمال الدين الأفغاني،


والذي من أجل تقديم بعض الإجابات عنه كتب أميرُ البيان شكيب أرسلان كتابه”لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم”؟، يجيب مالك بن نبي في شروط النهضة كما في سائر كتاباته المستظلة تحت عنوان “مشكلات الحضارة”.


بعد أن يصحح السؤال ويعود به إلى الوجهة الصائبة التي هي: كيف تأخر المسلمون وكيف تقدم غيرهم؟، وواضح هنا في هذا التقويم على مستوى الاستشكال دور فعالية الإنسان المسلم – إنسان ما بعد عصر الموحدين_ في تحقيق (شروط النهضة)،


لأنه يقرر ( الأمر الذي نجده عند المنجرة في كتاب الحرب الحضارية الأولى، الذي تحدث فيه عن شروط الحرب الحضارية) أن لله في كونه سننا، لنا أن نسميها سنن الكون، أو بالتعبير المعاصر – فلسفة التاريخ- أو بالتعبير الرشدي في كتاب تهافت التهافت في سياق الرد على  تهافت الفلاسفة للغزالي: “من أنكر الأسباب فقد أنكر العقل”.


في إشارة منه إلى ما قال به أبو حامد من نفي الأسباب والقول بالاقتران ( الدفاع عن الحكمة والعدل الإلهيين )، فالله تعالى لا ينصر المسلمين لأنهم مسلمون،


ولكن ينصر من يأخذ بقانون الأسباب، وهذا القانون الكوني هو مقرر في كتاب الله تعالى، وعليه بنى مالك بن نبي مشروعَه الفكري كلَه، من حيث منهجُه في التعاطي مع التاريخ والحاضر والمستقبل، قراءة وتحليلا وفهما وتقييما، على قول الله تعالى ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“[4]،


وهذه من سنن الله في الكون وفي تاريخ الاجتماع الإنساني، ومثل هذا قول ابن تيمية –رحمه الله- ” وأمورا لنا ستستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيها لاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا


قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولايقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولاتدوم مع الظلم والإسلام”[5]، أعود فأقول: إن ما يجمع بين المفكرَين المغاربيَّين– ابن نبي والمنجرة- هو وضعهما لشروط النهضة، التي أرجعها ابن نبي اختصارا إلى تفاعل الفكرة الدينية مع أركان الحضارة ( الإنسان والتراب والزمن) والفكرة الدينية مبنية أساسا على القيم والأخلاق، لقول النبي عليه السلام:  ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“[6]،


ولقد قرر علماء الأصول أن المقصد الأول للشارع من التشريع هو جلب المصالح ودفع المفاسد، والصلاح قيمة أخلاقية، والفسادُ اضمحلال لها[7]، وشروط الحرب الحضارية حسب صاحب مشروع الدراسات المستقبلية تتحقق مع استهداف القيم، فالأزمة الحضارية إذن هي أزمة قيم، ولا غرابة  حين نلحظ أن المد العولمي قائم على مسح الخصوصيات والقضاء على الهوية، ومن ثم انتشار قيم الآخر، فمسألة تدافع القيم القائمة بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، بين الدول القوية اقتصاديا والضعيفة اقتصاديا،

تبرز تجلياتها كما بيَّنا على مستويين : مستوى مصطلحي ( حرب المصطلحات)، ومستوى ثانٍ من آثار الغزو المصطلحي، هو العولمة ومحو الخصوصية، وهي المحاور التي تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عنها، مع الوقوف على الحلول التي يقدمها الدكتور المنجرة لتحقيق شروط التدافع مع الحضارات القوية، في شكل برامج ترتكز كلها على الاعتناء بالقيم والوعي بأهميتها في الحروب الحضارية القادمة،

سواء تعلق الأمر بحفظ الذاكرة وإعادة قراءة الماضي المسلوب، أو ببناء المستقبل الموعود، والمنوط  بتحقيق التنمية عبر مسالك التعليم والتربية،… وسائر ذلك مما سنتعرض له بشيء من التفصيل.

ثانيا  : نحو تحرير المفهوم

أ_ في معنى القيم والتدافع

_ في معنى القيم: إذا عدنا إلى المعاجم العربية القديمة لن نجد استعمال هذا المصطلح بالمعنى المراد في العصر الحديث، ذلك أن دراسة القيم ” لم تُعرف عمليا إلا في القرن التاسع عشر كواحدة من المواضيع الفلسفية الأصيلة، صحيح أن الفلاسفة ناقشوا منذ القدم موضوعات مثل الخير والحق والفضيلة والعدالة والجميل والصادق، إلا أن تصور القيم لم يتضح إلا في الفلسفة المعاصرة،

حيث صار يشغل منزلة الصدارة بين موضوعات الفلسفة من حيث الأهمية، وكما يقول الفيلسوف الأمريكي المعاصر ولبر ايربانW.M. Urban: ( 1873/ 1952)، وهو من أوائل الباحثين في نظرية القيمة المعاصرة: نادرا ما كان هناك في تاريخ الفكر وقت شغلت فيه القيمة مكان الصدارة بهذا الشكل مثل الوقت الحالي“[8] أعني القيمَ  كمعان معيارية تقاس بها السلوكات والتصرفات،

ففي لسان العرب لابن منظور مثلا نجد مادة ” ق و م” بمعنى ” القيام الذي هو نقيض الجلوس، والقامة جمع قائم، والقيام العزم ” وأنه لما قام عبد الله يدعوه”[9] فالقيام في هذا السياق القرآني هو بمعنىالعزم، وفي القرآن الكريم أتت مادة “قوم” بمعانٍ منها : المحافظة والإصلاح، والاستقامة ولزوم السنة، وتأتي بمعنى التقدير، والبرهان والاستواء والموضِع …[10]،

فهي إذن تطلق على مفاهيم تقرب أحيانا من المعنى المتداول في الواقع المعاصر في المجال التداولي العربي الإسلامي، الذي هو موافقة التصرفات والسلوكات البشرية للفطرة التي فُطر الناس عليها، مثل معنى المحافظة والإصلاح، وأحيانا أخرى كما لاحظنا تطلق الكلمة على معان بعيدة في استعمالها، بيد أنها لا تخلو مما يقربها إلى المعنى المذكور بوجه من الوجوه.


_ في معنى التدافع: الدفع في اللغة المحو والإزالة بالقوة، ومنه دفعتُ عني الشر، ودفعُ القول: رده بالحجة والبرهان، والتدافع على هذا الوزن يدل على التفاعل بين جهتين أو جهات، كل جهة تسعى لأن تدفع وتزيل الجهات الأخرى، سواء كان في الحسيات أو في المعنويات، قال تعالى ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”[11]،

وعملية التدافع هذه بين الناس كانت منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض، وستظل إلى أن يشاء الله، فهي إذن حالة دائمة مستمرة لا يجوز تجاهلها، إن التدافع قانون من قوانين الكون والوجود، وهو مؤسَّس على ركائز منها: الحرص على البقاء والاستمرار في الوجود، والسعي إلى ضمان هذا البقاء، وتطوير الذات عبر النماء، وهذا القانون قابل للسريان على كل الدول والأمم.

وهذا التدافع الجِبلِّي إن صح القول، قد يفضي إلى تنافس بين الحضارات : حيث لا يتقبل الطرف القوي ( بالمعايير المادية) وجود الطرف الثاني منافسا له في الوجود، فيسعى إلى إزالته وإزاحته، وفرق كبير بين التدافع الذي بمعنى التنافس، والتدافع الذي بمعنى الصراع،

ويتم على مستويات عدة مترابطة، يؤثر بعضها في الآخر بما يمكن إجماله في مستويين : مستوى الأفكار ومستوى الأشياء، يكون في الأول حول المنظومات القيمية، كالتدافع الذي يحصل بين القيم الإسلامية والليبيرالية والشيوعية…، ويقع على مستوى الأشياء في شكل صراعات عن الأراضي ومصادر الطاقة ….[12]


  • ب: نحو إعادة صياغة المفاهيم

يدعو المنجرة إلى إعادة قراءة القيم التواصلية على مختلف المستويات  ( نموذج الشمال والجنوب)، حتى يتسنى للباحثين إظهار أوجه الاستلاب الثقافي القيمي الغربي للعالم الثالث، عبر المفاهيم والمصطلحات المتداولة إعلاميا؛ القصدُ منها التوسع الاستعماري في ثوبه وشكله الجديد، عبر تصدير مفاهيم تلتئمها تهويمات أدبية بلاغية،

وذاتية مشبعة برومانسية روحانية أشبه ما تكون بالصوفية التي تحجب الواقع عن غير وعي[13]، الأمر الذي لن يتحقق إلا بتجذير الوعي بهذه المفاهيم في نفس إنسان العالم الثالث،  فقد كان المنجرة مستوعبا جدا أن الاستعمار المصطلحي مدخل واسع للاستلاب الثقافي وهدم القيم، يقول : ” نحن نوجد في مرحلة خضعت فيها اللغة ذاتُها للتحريف، حيث أصبحت الكلمات وبحركة سيمانتيقية ذات مفعول قوي، تدل من الآن فصاعدا على عكس معناها الأصلي”[14]،

في إشارة إلى سعي الولايات المتحدة لتعميق الفروقات والتفاوتات السوسيو اقتصادية بينها وبين بلدان العالم، حيث أضحت محتكرة للكوكب باسم “العولمة”، الأمر الذي جعل المنجرة يكتب كتاب ” عولمة العولمة”  وهو أمر لا تخطئه العيون الثاقبة عند النظر، خاصة المصطلحات التي لها تعلق بصناعة المفاهيم نفسها ( العلمانية، العولمة، الهوية، العقل، الدين …) أعني : هل صحيح أن العلمانية كمفهوم تعني فصل السياسة عن الدين من أجل حفظ بيضته ونقائه وعدم تنجيسه بالسياسة التي الأصل فيها الأنانية واستبعاد الآخر؟

كما تروج النخب العربية ” والإسلامية” الداعية إلى العلمانية كحل لتجاوز الأزمات السياسية التي تمر بها بلداننا، أم أنها دعوة لفصل الشريعة ( والتي تمثل الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية والأخلاق والقيم أيضا فيها تسعة أعشار) عن الدين، وبذلك أمكن أن نقول: إنها دعوة لفصل الدين عن نفسه، الأمر نفسه يقال عن العولمة :هل هي كما نقرأ في كتابات المؤيدين تصغير للعالم وإزالة للفوارق و” أنسنة” وانفتاح على الآخر واستفادة منه على كل المستويات؟،

أم أن هذه المصطلحات قشور تستبطن الاستلاب الثقافي ومحو الخصوصية، ومن ثم وضع قطيعة مع الماضي كله؟ ولذلك لم يكن المهدي المنجرة يرتاح كثيرا لمصطلح العولمة، لأنه يؤمن أن المصطلح وترويجه هو تجل من تجليات استعمار الشمال للجنوب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وقُل هذا في مصطلح الدين، هذا الحقل الذي أحدث الغرب معه قطيعة جعلته يتحرر ويصعد سلم التحضر والتحديث ( أعني الدين الكنسي)،

هل يفهم من هذا أن المثقفين العرب والمسلمين إذا نادوا بالتحرر من الدين الإسلامي عبر بوابة العلمانية والعولمة، فإنهم يكونون دعاة للتحضر والتحديث؟ أم أن قياس الديانتين بمقياس واحد هو قياس مع وجود الفارق، فيه فساد في التنظير وفساد على مستوى تنزيله في الواقع أيضا( لأن شعوب العالم الثالث  شعوب متدينة وهو واقع لا يمكن الجدال فيه)

بمعنى آخر، هل نظرة الدين الإسلامي للآخر وللواقع وللعقل هي نفسها نظرة الديانة المسيحية مثلا؟ وهل شمولية الدين الإسلامي المتعلقة باستيعابها للواقع عبر الحديث المفصل في قضايا السياسة وسائر التشريعات أمر ينطبق على المسيحية؟ ولذلك فإن إطلاق مصطلح الدين هكذا دون التمييز هو حيف كبير وظلم عظيم، ومصطلح العقل الذي يقابل النقل في المجال التداولي الغربي ليس بغير ذي صلة بموضوعنا،

ذلك أن مصطلح العقل الذي يعني التحرر من الكتاب المقدس، والسلطة الكنسية ( التي كانت تعتبر في القرون الوسطى كل تفكير حر محض هرطقة ومروق عن الدين كبير)، إن استدعاء مصطلح العقل وإنزاله مقابلا للنقل بالنسبة للدين الإسلامي؛ أمر يدعو للغرابة حقا، لأن الدين الإسلامي يجعل العلم شرطا لصحة العمل، ويجعل العقل مناطا للتكليف،

وما كانت أبدا في تراثنا الإسلامي هذه الثنائية مطروحة، إن العقل كما يقول الغزالي هو شرع من الداخل، والشرع عقل من الخارج، وهو كما يقول ابن رشد الحفيد:  إن الحق لا يضاد الحق، وإن الله الذي أعطانا عقولا لا يمكن أن يعطينا شرائع مناقضة لها، هذه المصطلحات وغيرها كثير؛ يرى البروفيسور المنجرة أن تداولها بين الناس دون تمحيصها وبيان المراد منها عند الآخرين، فيه خطر على منظومتنا القيمية .


موقف المنجرة من الفرونكوفونية: يأتي انتقاد مصطلح الفرونكوفونية عند المهدي المنجرة ضمن ما يعتبره غزوا مصطلحيا، يحمل في طياته قيما ويمسح في المقابل قيما راسخة لها تاريخ، ذلكم أنهذا المصطلح الذي برز أوائل القرن الماضي وانتشر في بلدان العالم الثالث غداة الحرب العالمية الثانية،

وبشكل لافت مع قيام ” اتحاد الجامعات الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية” سنة 1961، ومع تشكل اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية ونشرها سنة 1966 انتشر  بحمولاته على نطاق واسع ليس في المجال التداولي الغربي فقط، بل على خط طنجة جاكارتا أيضا، سيما بعد إنشاء المنظمة الدولية للبرلمانيين الناطقين باللغة الفرنسية عام 1967، هذه المنظمة التي عقدت لقاءات عالمية في باريس وفي سائر الدول (الفرونكوفونية).

وأعلنت عن مسابقات وجوائز لأفضل من يقدم أعمالا باللغة الفرنسية، الأمر الذي  جعل المهدي المنجرة وهو الرجل المثقف الخبير يتساءل عن دور اللغات المحلية للدول الفرونكوفينة وامتدادها على مستوى الاستعمال، وهل سيتاح لهذه الدول أن تجعل من لغاتها الوطنية لغة للعلم عبر التدريس بها وتطويرها؟ ،

أم أن ذلك أمر محرم على غير اللغة الفرنسية، وإن كان الأمر كذلك، وهو كذلك؛ فإن الفرونكوفونية مشروع استعماري (استعمار ثقافي) حين يضرب بجذوره في أعماق وطن من الأوطان التابعة له يطمس التراث (كل التراث) الذي يحفظ الخصوصية ويسهم في بروز الذات، يقول المنجرة ” لقد عملت باليونيسكو ما بين عامي 1961/1963، وأذكر أني اضطررت أيامها للطواف على كافة بلدان القارة الإفريقية،

لكي أجد بلدا منها يقبل استضافة حول اللغات الإفريقية الأم، وكان المسؤولون في حكومات هذه البلدان يتهربون، لدرجة اضطررنا معها لعقد الاجتماع في الكاميرون، لأنه البلد الذي يجمع بين الفرونكوفونية والأنجلوفونية”[15]، وأي تعاون إنساني عالمي إنما يبدأ باحترام الآخر والتخلص من هذه التبعية.


  • ثالثا:  العالم الثالث:  بين موقع الهوية وواقع العولمة

يرى البروفيسور المنجرة كما أسلفنا أن دول العالم الثالث لا تملك أي استراتيجيات تخول لها أن تستبصر المستقبل، ذلك أن الغرب المستعمر هو الذي رسم مستقبل العالم الثالث كما درس ماضيه، فالهوية التي تعني الاستقلال الثقافي والحضاري عن الآخر مسلوبة، وهذا ما قصدته بقولي في عنوان هذا المحور ” موقع الهوية”، أي أن استقلالنا رهينبالتحرر الثقافي والحضاري من سلطة ” الأَمرَكة”[16]،

فالمنجرة -رحمه الله- يرى في الاستعمار الثقافي الذي يرنو إلى نسخ القيم ومسخها الخطرَ الأكبر، الذي يفوق الاستعمار العسكري المباشر بمراحل، لأن الأول يستهدف الأمة في وجودها الجوهري المبني على ركائز أُولاها الدين الإسلامي، وفي هذا المقام قد يعترض معترض فيقول: أليست القيم ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، وتستمر مع الوجود الإنساني؟

أليست الحرية والمساواة والعدل مثلا قيما ثابتة؟ فما ضَيرُ العالم أن يستظل تحت العولمة والكونية إذن؟،إذا عدنا إلى المنجرة نجده ينبه إلى هذا “الفخ” الثقافي الذي للأسف وقع فيه من ينتسب إلى عالم الثقافة، هذا الفخ ليس بغير ذي صلة بالغزو المصطلحي الذي تحدثنا عنه، فالإسلام مثلا قد دعا إلى الحرية،

وعلماؤه منهم من جعلها من مقاصد الشارع في التشريع، لكن هل الحرية في المجال التداولي الغربي هي نفسها الحرية التي دعا إليها الإسلام؟ ومن هذا الباب أوتي الكثير ممن تصدر لدراسة هذه المفاهيم المرتبطة أساسا بالخصوصية الحضارية وبالعولمة، ويبقى مفهوم الحرية في حده الأدنى على مستوى الحضارات المختلفة هو أن يعيش الإنسان في مجتمعه دون ضيق[17]،

إننا إذن  بإزاء دولة قوية هي الولايات المتحدة الأمريكية تتوسل بالتقنيات الاقتصادية والعلمية للتأثير في النمط الفكري والسلوك الثقافي لمجتمعات الدول المتخلفة، ويستغرب المنجرة كيف يأتينا من يدعونا للثقة بالعولمة وتقبلها فيقول :” وبالفعل، فإن الذين يريدون منا أن نثق “بالعولمة” بنوع من السذاجة، لم يكتشفوا بعد ما يربطهم بشعبهم وبالإنسانية بصفة عامة، دون أن نتحدث عن ما يربطهم بالكون،

فهم قد احتجزوا الكوكب الأرضي، وجعلوا الفضاء خاضعا للهيمنة العسكرية، واحتلوا البلدان ورشوا الحكومات واشتروا عقول وأقلام جزء لا يستهان به من أنتلجنسيا العالم الثالث، وعبدوا الطريق أمام شركاتهم المتعددة الجنسيات، للاستحواذ على جزء هام من المقاولات العمومية، وبالتالي إضعاف الاقتصاديات الوطنية لبلدان الجنوب، مع تعميق التفاوتات السوسيو اقتصادية بها …

 إن “العولمة” تعني مركزة السلط: كل أشكال السلط“[18]،هذا باختصار هو التعريف الذي يقدمه المنجرة للعولمة مع وضع المصطلح بين مزدوجين، في إشارة منه إلى إنكاره، لأنه فخ كما ذكرنا آنفا، فأضحى مصطلح العولمة مرادفا لمصطلح “الأَمرَكة”، فأي موقع للهوية وللقيم في ظل سيادة الأَمركة، سيما إذا نحن عرفنا أن الحرب المستقبلية كما يرى المنجرة هي حرب حضارية ( حربُ قيم)؟


إن السؤال الذي يطرحه كل باحث في قضايا العولمة والهوية والقيم، هو سؤال الاتصال والانفصال، بمعنى هل يمكن الحديث عن العولمة دون أي مس بالقيم؟ هل العولمة نظام اقتصادي لا يستصحب أي قيم ؟ أم أنها حاملة لقيم ومفاهيم، وبالتالي حاملة ” لحضارة” جديدة تنسخ كل الخصوصيات والهويات؟.

ينبغي أن نعترف أن العولمة مفهوم يكتنفه من الغموض الشيء الكثير، بين التنظيرات الأكاديمية التي ترى فيه ثورة معرفية وتقنية، القصد منها توفير الرخاء والقضاء على الفقر في أقطار العالم كله عبر إزالة الحدود والفواصل، وتقديم الحلول لكل المشاكل المطروحة التي تتخبط فيها البشرية، هذه الشعارات البراقة يرى فيها المهدي المنجرة نفاقا يجعل العولمة أخطر بكثير من الاستعمار “القديم”، ذلك أن هذا الأخير كان يحظى على الأقل بامتياز الشفافية، كان هناك إخضاعٌ مفتوح بدون أقنعة، أما اليوم فيرى أن الأشياء قد أصبحت مع ما حدث بعد الاستعمار أكثر تعقيدا[19].

إن العولمة في نظر المنجرة هي “استعمار جديد”، أسوأ من الاستعمار القديم الذي لم ترض به الشعوب المنتمية للعالم الثالث، بل قاومته بشتى وسائل المقاومة المتاحة، أما الشكل الجديد “وهو استعمار اقتصادي وثقافي وقيمي “هذا الاستلاب الثقافي الذي يعتبره ” الذل الأكثر خطرا على المستوى البعيد، لأن الأمر يتعلق بعدوان على أنظمة القيم”[20]،

بيدَ أن  الشعوب الفقيرة قد رحبت به، لأنها تنظر إلى قشوره لا جوهره، و مما زاده توغلا في العالم الإسلامي وفي دول العالم الثالث، مباركة الحكام المستبدين ” المتعاونين الراضين من بين المجموعات الحاكمة وبعض المرتزقة من المثقفين، لأنهم يعلمون علم اليقين أنهم لن يظلوا في السلطة بدون المستعمر الجديد”[21]،

والحال أن الثقافة لا يمكن نقلها بشكل أعمى إلى مناطق أخرى من العالم، دون اعتبار واحترام لقيم هذه المناطق، إن الثقافات لا تُستنسخ، ولا يمكنها أن تتواصل فيما بينها، ولا أن تغني بعضها بعضا، إلا إذا اعتبرنا هذه القاعدة الأساسية[22]،

وفي ذات المقام يستعير المنجرة قولة الزعيم السياسي والرمز الروحي للهند ألمهتما غاندي ” أريد أن تهب كل ثقافات الأرض قرب منزلي، بكل حرية إن أمكن ذلك، لكني أخاف أن أنقلب من جراء رياحها العاتية”[23]،

فلا سبيل إلى العيش المشترك الذي تتغنى به الدول القوية تحت يافطة العولمة في ظل تأحيد الثقافات وسلطة النموذج الثقافي والقيمي الأمريكي، فعلى الإنسان المسلم أن يعي جيدا قيمه المشكلة لكينونته ووجوده الإنسي والتاريخي، أن يعي “قيمة القيم”، فإن الوعي بقيمة القيم هي قيمة في حد ذاتها، وهي أحسن وسيلة للدفاع عن الشعوب الضعيفة المغلوب على أمرها، داخلها وخارجها،

حتى لا تتحول الدول الكبرى التي تمارس الطغيان – بشتى أشكاله وعلى مختلف مستوياته- في المستقبل إلى دول مظلومة !، بدعوى أنها كانت السباقة لإنشاء مؤسسات ومنظمات كونية للدفاع عن حقوق الإنسان، إن القيم في نظر المنجرة هي الكفيلة بفضح هذا الشكل الأخطبوطي الذي تسير عليه الدول الغربية المستعمِرة، وعلى رأسها أمريكا،” القيم هي الفَرق الذي يكون الفرق”[24]،

إن مستقبل الإنسانية اليوم، رهين بدرجة الاعتبار الذي نعطيه للروح الإنسانية، وبالاحترام المتبادل للقيم، تلك التي تشكل أساس استمرار الحياة في ظل الكرامة، ومن ثم القيمة المتصاعدة للقيم في أيامنا العصيبة هذه، حيث أصبحت اللامبالاة بمعاناة الآخرين أمرا مقبولا، هكذا ينتفض المثقف المغربي الذي لا يعرف إلى المحاباة والتملق سبيلا،

وما دامت الدول القوية اقتصاديا هي التي تصدر هذه القيم إلى عالمنا المتخلف دون مراعاة لشعورنا الجماعي، بل وتقوم بتدمير تراثنا الثقافي ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، حتى لا يبقى للعالم المتخلف أي وجود ثقافي يستند إليه في المستقبل لإعادة بناء نهضته وقيامه من جديد، إننا إذن أمام إهانة تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل لا يعرف أي حدود، يسوق لنا المنجرة مثالا على هذه الإهانة فيقول:

“فالإهانة لا تعرف حدودا، وتتوجه الآن إلى المعرفة والإبداع والتراث الثقافي، كما جرى ذلك مؤخرا بالعراق، تحت أنظار المجموعة العالمية ومنظمة اليونيسكو التي ظلت بلا حراك، كما جرى نهب لا نظير له وأعمال تدمير للمجموعات الفنية للمتاحف الفنية الأكثر ثراء وللعديد من الجامعات التي تعرضت للإحراق الكامل في مدينة عرفت أول جامعة في التاريخ،

وبما أني كنت على رأس قطاع الثقافة باليونيسكو لعدة سنوات، فإنني أجد نفسي موضوع صدمة ومهانة أمام هذا الهدوء واللامبالاة التي تتعامل بها هذه المؤسسة مع ما سماه الرئيس جاك شيراك” جريمة في حق الإنسانية” “[25]،

وهذا غيض من فيض مما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان وسائر مستعمراتها، فلا سبيل للتواصل الثقافي ولا معنى ل “حوار الحضارات” ومحاورة الأديان وما إلى ذلك من الشعارات، التي تهدف إلى ترسيخ الخنوع والقبول بالواقع تحت شعار ” ليس بالإمكان أبدع مما كان” الذي يرفعه المنبهرون بثقافة الغرب وقيمه،

”إن احترام قيم الآخرين شرط أساسي من أجل الوصول إلى فهم نسبية مفهوم “القيم الكونية”  التي تمكن من تسهيل عملية التواصل الثقافي بين الشعوب، بدل الإلحاح على “التكييف” بتقاليد “كونية” مفبركة ومختزلة على مستوى الزمان والمكان في التاريخ البشري”[26].


  • رابعا: بين المستقبليات وحفظ منظومة القيم :

هناك فرق واسع وبون شاسع – الكلام للمنجرة- بين ” علم الغيب” الذي اختص به علاَّم الغيوب سبحانه وتعالى، وبين مفهوم المستقبليات كما يوظفه خبراء هذا العلم ” علم الدراسات المستقبلية”، فهو” أي المسقبل” انعكاس على الزمن لآثار ونتائج أعمالنا اليوم، و لا يتعلق بنبوءة ولا كهانة ولا رجم بالغيب[27]،

فمع كون القرآن الكريم لم يستعمل لفظ المستقبل إلا بصيغة واحدة هي ” مستقبِل” في قوله تعالى ” فلما رأوه عارضا مستقبِل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا”[28]، إلا أن القرآن الكريم مليء بالمصطلحات الداعية الى الاستعداد للمستقبل، سواء تعلق الأمر بالعاجل أو الآجل،

فالنظر في مستقبل الأمور ومآلات القضايا أمر قد قرره القرآن الكريم، ولا علاقة أيضا – والكلام للمنجرة – بين البدعة التي تعني التغيير في الدين بما لا يقبله الله ورسوله، والإبداع الذي هو مسايرة حركة التاريخ، ولا يخلط بينهما إلا جاهل أو من له مصلحة في بقاء الوضع كما هو حرصا على مصالحه، فالدراسات المستقبلية إذن ليست من مُلَحِ العلم ومُتعه حتى نحكم فيها اعتبارا وإهمالا بالسواء،

ولا غرابة حين نجد أن الدول التي اهتمت ولا تزال بالدراسات المستقبلية وتنفق عليها الأموال الطائلة هي نفسها الدول التي تهتم بالتعليم، وهي الدول نفسها المتقدمة صناعيا، يقول المنجرة  مقررا هذه الحقيقة” حوالي سبعة وتسعين في المائة من مجموع النفقات بخصوص البحث في ميدان الدراسات المستقبلية يتم من طرف هذه الدول ” الصناعية”، أما العالم الثالث فهو يشارك بأقل من ثلاثة في المائة في هذا المجال، علما أنه يضم ثمانين بالمئة من مجموع سكان العالم”[29].


يشهد العالم اليوم نوعا من اتساع الفجوات الاقتصادية بين الطبقات المكونة للمجتمعات، سواء تعلق الأمر بالعالمين الشرقي والغربي (شمال جنوب) أو حتى بين الطبقات الاجتماعية المكونة للعالم المتخلف ( جنوب جنوب)،كما يذهب إلى ذلك الدكتور المنجرة متوسلا بإحصاءات منها: إن عشرين في المائة من المحظوظين في العالم يستهلكون مجموع خمسة وثمانين بالمائة من مجموع موارد وخدمات الكون، والناتج الوطني الخام لثمان وأربعين دولة الأقل فقرا، أقل من موارد ثلاثة أشخاص الأكثر غنى في العالم[30]،

يربط المنجرة على مستوى آخر بين المستقبليات والماضي، ذلك أنه لا سبيل لنا إلى المستقبل المنشود إلا عبر معرفة ماضينا وكتابته بأيدينا، بيد أن مشكلتنا في العالم الثالث- والكلام للمنجرة في محاضرة ألقاها بمكناس عن المؤرخ المغربي مولاي عبد الرحمن بنزيدان- هي كون ماضينا ليس بيدنا، إن ماضينا كتبه الآخرون (الغرب)،

إننا نقرأ تاريخنا بأعين الآخرين، فوجب إذن استدراك تراثنا وماضينا المسلوب منا، لنستقل ونتحرر حقيقة، ذلك أن الاستعمار الثقافي القيمي أخطر من أي استعمار آخر عسكريا كان أو اقتصاديا، و إذا كان ماضينا مرهونا بيد غيرنا، فإن ذلك ليس بغير ذي صلة بمستقبلنا، فلا يوجد حسب المنجرة باحث أو مؤسسة تقوم بدراسات عن مستقبل المغرب مثلا ( يتحدث هنا عن المستقبليات كعلم له آلياته )،

وحده صندوق النقد الدولي، والدول الغربية المستعمِرة للعالم الثالث تقوم بدراسات عن مستقبلنا، الأمر الذي يجعل تحررنا رهينا بثلاث محطات هي: تحرير ماضينا من أيدي الآخرين، ثم قراءة حاضرنا ودراسة مستقبلنا، وما وصلنا إليه من الانحطاط على شتى المستويات لا سبيل لنا إلى فصله عن الآفات التي ذُكرت قبل على لسان المنجرة، في هذا المقام نجده يلقي بلومه على المؤسسات التعليمية: من التكوين الأساسي للأطفال إلى الجامعات في العالم المتخلف، التي لم تركز على ترسيخ القيم الثابتة،

بل العكس هو الذي وقع، حيث تقوم مؤسساتنا بتلقين معارف خالية من استصحاب المنظومة القيمية، فهو لا يرى في التعليم الذي يستبعد القيم ويركز فقط على تلقين المعارف والمهارات سوى معلومات فارغة هي أقرب إلى النسيان منها إلى التوظيف في الحياة، لحفظ وعينا الإسلامي الذي لا سبيل لنا إليه إلا عن طريق ترسيخ القيم في الناشئة عبر المعرفة القيمية،

لهذا الدافع نجد رائد علم المستقبليات في العالم الإسلامي يؤكد على ربط المعرفة بالقيم كفلسفة رؤيوية وكعمل إجرائي لصناعة المستقبل المنشود: ” إن حدة الفوارق ملموسة على جميع الجهات، ومعدلها يقترب من معدل تزايد المعرفة، كما أن تقليص الفوارق ومحاربة الفقر والظلم الاجتماعي وعدم المساواة بين المرأة والرجل وبين القروي والحضري، يجب أن تكون أولوية ثابتة بالنسبة للجامعة، إنها تمس بصفة مباشرة محيطها، وأهدافها وبرامجها، ذلك أن دراسة موجزة ومكثفة وجد انتقائية حول الفوارق كفيلة بتوضيحها” [31]،

إن المنجرة يصرخ بقوة في وجه المسؤولينعلى التعليم،لأنهم لم يمتلكوا القدرة على إنتاج المعرفة واستيعاب الكفاءات، الأمر الذي أسهم في هجرة الأدمغة إلى دول الشمال بشكل مخيف، حيث بلغت عشرات الآلاف، الأمر الذي يرى فيه المنجرة نزيفا حضاريا كان وراء وصول جامعاتنا إلى ما آلت إليه اليوم من اختلال في نماذج التنمية وأنظمة التعليم[32]،

وللحد من الظاهرة والرفع من مستوى الإنتاج العلمي والثقافي ومواجهة التحديات المحدقة بنا في أفق المستقبل؛ نجد المنجرة يشدد على ضرورة التركيز على القيم في العملية التعليمية، لأنها الضامنة لتجديده وبقائه واستمراره ، يقول:” وأهم عناصر التعلم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإننا نؤكد على دورها الفعال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه،

ويلاحَظ أن ظهور القيم هو ظهور الحد الفاصل بين الذاتية والموضوعية، وبين الحقائق والأحكام، وبين ما هو كائن وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين المعقول واللامعقول”، وكل تعليم يستبعد القيم فإنه لا يعدو أن يكون عملية آلية خالية من التفاعل والمشاركة والتجدد، هكذا يربط الدكتور المنجرة بين إصلاح المنظومة التعليمية القائمة أساسا على ترسيخ القيم، كمدخل لا غنى عنه ليكون لنا في المستقبل وجود في زمن سمته الأساسية هي التغير بشكل لم يشهده التاريخ من قبل.


إن المنظومة –حسب المنجرة – تقوم على أسس لا بد من اعتبارها، هي:

إعطاء الأهمية للإمكانات الإبداعية للإنسان: ذلك أن الإنسان ليس آلة أو وعاء يقوم المدرس بملئه بالمعلومات على أن يستردها منه في الاختبارات.

محو الأمية: حتى تكون العملية التعليمية شاملة أفقيا للمجتمع كله، أسوة بين سكان القرى والحواضر.

إبراز أهمية البحث العلمي والتنمية: عبر ربط المعرفة بعالم الشغل، حتى لا يصطدم المتخرج من الجامعة أمام متطلبات الواقع وسوق الشغل، أضف إلى ذلك التركيز على التكنولوجية المتطورة وحسن استعمالها، وخلق قنوات إعلامية دولية ووطنية و جهوية وإقليمية في مجال التعليم،

ثم خلق مشروع دولي للبحث المتعدد الاختصاصات، والربط بينها، لأن المعارف متكاملة ولا يستغني بعضها عن الأخرى إنسانية واجتماعية كانت أو مادية تجريبية[33]،  وإذا كانت المستقبليات ظاهرة إنسانية، فإنها في حد ذاتها خلاصة منظومة قيم اجتماعية وثقافية متطورة،

لأننا ندرك شيئا فشيئا، أن المشاكل أصبحت معقدة لدرجة يستحيل حلها دون تصور على المدى البعيد من جهة، ودون إعطاء مكانة خاصة للعوامل والقيم الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، فالمستقبل لنا ما تمسكنا بقيمنا وانفتحنا على قيم الآخر دون الذوبان فيها.


  • خاتمة

ختاما يمكن القول إن خلاصة مشروع المنجرة سواء المتعلق منها بالمستقبليات الذي يُعتبر واحدا من مؤسسي هذا العلم على خط طنجة جاكارتا وفي العالم كله بشهادة المتخصصين الكبار في هذا الشأن، أو المتعلق بالجانب الاستراتيجي والسياسي بين خطي الشرق والغرب ” الجنوب والشمال”، هذا المشروع في نظر المنجرة وباستقراء كتبه كلها لا ينفك عن منظومة القيم سلبا وإيجابا،

فكلما أعطى الجنوب للقيم اعتبارها المطلوب زالت الفوارق الحضارية بينه وبين الشمال، وكلما أُستبعدت القيم فيه ازداد انحدارا في دركات الانحطاط، الأمر الذي يزداد وضوحا يوما بعد يوم في عالم يعيش ظاهرة صدام القيم، وأفولها وضياعها أيضا، كل هذا يجعلنا نطلق على الدكتور المنجرة لقب فيلسوف القيم دون أن نشعر تجاه هذا الإطلاق بأي ذنب أو تأنيب ضمير، الذي  نشعر به حين نسمع ألقابا توزع في الساحة الفكرية بالمجانية.


[1]_ ينظر كتاب الإهانة في عهد الميغا إمبريالية للدكتور المهدي المنجرة، المركز الثقافي العربي/ البيضاء، ط/5، 2007، ص 115.

[2]_ نفسه ، ص 40

[3]_ الإهانة في عهد الميغا امبريالية، ص 88.

[4]_ سورة الرعد الآية 11

5_ مجموع الفتاوى لابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، منشورات: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، ط/1995/ ج28/ ص 146.

[6]_ موطأ الإمام مالك، كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق.

[7]_ وقد كانت لنا  دراسة عن مشروع طه عبد الرحمن في إعادة ترتيبه للمقاصد الشرعية وفق الرؤية القيمية والأخلاقية، سميتها ” قراءة في أخلاقية المقاصد الشرعية عند طه عبد الرحمن”، منشورات: مجلة أفكار / العدد السابع ، بينتُ فيها الأسس التي بنى عليها الدكتور طه عبد الرحمان رؤيته التخليقية للمقاصد الشرعية، الذي انتهى إلى أن القيم لا تفصل عن المقاصد الشرعية في كل مستوياتها ومراتبها التي تحدث عنها الأصوليون والمهتمون بالمقاصد الشرعية في مظانها.

[8]_ القيم في الواقعية الجديدة، لعطية أحمد عبد الحليم، ، اصدارات أوراق فلسفية، دار الثقافة العربية، مصر/ ط1/2008، ص 123.

[9]_ سورة الجن الآية 19

[10]_ يُنظر لسان العرب لابن منظور، الناشر: دار صادر/بيروت، الطبعة الثالثة /1414هـ، مادة قومَ.

[11]_ سورة البقرة، الآية 251

[12]_ يُنظر كتاب القواعد الاستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري ( قوانين النهضة)، للدكتور جاسم سلطان، منشورات مؤسسة أم القرى، الطبعة الأولى / 1426هـ/ 2005م/  ص 173.

13 _ المهدي المنجرة، الفرنكوفونية: هل تشكل أداة للعلاقات الدولية؟  مجلة أدب ونقد( مصر) العدد 152 أبريل 1998، ص 14.

[14]_ عولمة العولمة للمهدي المنجرة، منشورات الزمن، الطبعة الثانية ص 13.

[15]_ المهدي المنجرة، الفرنكوفونية: هل تشكل أداة للعلاقات الدولية؟  مجلة أدب ونقد( مصر) العدد 152 أبريل 1998، ص 14.

[16]_ اصطلاح يستعمله المنجرة في مقابل “العولمة”.

[17]_ القيم والإنسان في ضوء التدافع الحضاري المعاصر، للدكتور الحسان شهيد، مطبوعات وزارة الثقافة ، الطبعة 1 2015، ص 17.

[18]_ عولمة العولمة ص 13

[19]_ المهدي المنجرة، قيمة القيم الطبعة الثانية ص 83.

[20]_ المهدي المنجرة، الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، الناشر: المركز الثقافي  العربي، الدار البيضاء/المغرب، الطبعة الخامسة 2007، ص 9.

20_ نفسه ص 84.

[22]_ قيمة القيم، ص 7

22_ نفسه ص14

[24]_ قيمة القيم ص 14

_ المهدي المنجرة، الإهانة في عهد الميغا امبريالية، ص 10[25]

[26]_ نفسه ص 10

[27]_ المهدي المنجرة، الحرب الحضارية الأولى ، مكتبة شروق، شارع البورصة الجديدة، قصر النيل، الطبعة العربية السابعة، ص 170.

[28]_ سورة الأحقاف الآية 24.

[29]_ الحرب الحضارية الأولى، ص 174.

[30]_ قيمة القيم ص 97

[31]_ نفسه ص 96

[32]_ ينظر قيمة القيم ص 99 (بتصرف).

[33]_ يُنظر مجلة أكاديمية المغرب العدد 3، نونبر 1986  مقال للمهدي المنجرة بعنوان ” حاجات التعليم في عالم متغير الإمكانات البشرية ودورها في حضارة معرفية” ص 202/203.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع البحث:

1-      القرآن الكريم، برواية ورش عن نافع، عن طريق الأزرق

2-      الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، الدكتور المهدي المنجرة، الناشر: المركز الثقافي العربي/ البيضاء، الطبعة : الخامسة،سنة 2007.

3 حاجات التعليم في عالم متغير الإمكانات البشرية ودورها في حضارة معرفية، المهدي المنجرة، مجلة أكاديمية المغرب العدد 3، نونبر 1986.

4-      الحرب الحضارية الأولى، المهدي المنجرة، مكتبة شروق، شارع البورصة الجديدة، قصر النيل، الطبعة العربية السابعة.

5-      عولمة العولمة، المهدي المنجرة، منشورات الزمن، الطبعة الثانية.

6-      الفرنكوفونية: هل تشكل أداة للعلاقات الدولية؟ المهدي المنجرة، مجلة أدب ونقد( مصر) العدد 152 أبريل 1998.

7-      قراءة في أخلاقية المقاصد الشرعية عند طه عبدالرحمن، إبراهيم بوحولين، الناشر:  مجلةأفكار/ العددالسابع.

8-      القواعد الاستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري( قوانين النهضة)، الدكتور جاسم سلطان، منشورات مؤسسة أم القرى، الطبعة الأولى، 1426هـ/ 2005م.

9-      قيمة القيم، المهدي المنجرة، الطبعة الثانية، مارس 2007.

10-    القيم في الواقعية الجديدة، عطية أحمد عبد الحليم، إصدارات أوراق فلسفية، دار الثقافة العربية، مصر، الطبعة: الأولى، 2008.

11-    القيم والإنسان في ضوء التدافع الحضاري المعاصر، الدكتور الحسان شهيد، مطبوعات وزارة الثقافة، الطبعة: الأولى، 2015.

12-    لسان العرب، ابن منظور، الناشر: دارصادر/ بيروت، الطبعة الثالثة، 1414هـ.

13-    مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بنقاسم، منشورات: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، طبعة: 1995.

14-  الموطأ، الإمام مالك، برواية يحي بن يحيى الليثي، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1406هـ/ 1985م.


المصدر 

إبراهيم بوحولين

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى