نقد

مقابلة مع الدكتور؛ “حليم بركات”

 

أسهم عالم الاجتماع والروائي والناقد العربي حليم بركات منذ ستينيات القرن الماضي في كتابة أبحاث ودراسات ومؤلفات لها موقعها في الحياة العلمية الاجتماعية ومجالات الإبداع الأدبي.

ومنذ بداياته، تظهر أعماله في مجال علم الاجتماع مدى ارتباطه في الحراك القومي التحرّري لصورة مبكرة، إذ وضع أمامنا عشرات المؤلفات والأبحاث والأعمال الروائية والنقدية التي تشرِّح وتنقد وتحلل المشكلات الاجتماعية العربية في المشرق والمغرب العربي من خلال البحث والاستطلاع والمعاينة.

وقد تميّزت كتابات حليم بركات بمعالجات عميقة شملت آثار الدين والبنى الاجتماعية والسياسية التقليدية في المجتمع العربي، وكذلك آثار الهيمنة الغربية في المجتمع والثقافة ودور النخب والإبداع الأدبي. وحينما نقرأ حليم بركات الناقد والمحلّل والمبدع، فإننا نقبض على الملامح الأساسية للمشكلات التي يئن تحتها المجتمع العربي.

وعلى صعيد أدبه الروائي وأدب معظم الروائيين العرب الكبار منذ ستينيات القرن الماضي، نتلمّس في دراساته النقدية ربطاً محكماً بين النصّ الأدبي وعلم اجتماع الأدب، وإبرازاً منهجياً لقضايا المجتمع العربي في الرواية العربية.

ولعمق وغنى كتابات حليم بركات في حقل علم الاجتماع والرواية، وعلم اجتماع الأدب، أجرت المستقبل العربي الحوار الآتي معه:

  •  مرَّ الروائي وعالم الاجتماع حليم بركات بثلاث غربات كبيرة: الأولى كانت حين غادرت بلدتك «الكفرون» في سورية إلى بيروت، والثانية حين غادرت بيروت إلى الولايات المتحدة، والثالثة تجسّدت في استقرارك وعيشك في أمريكا لمدة طويلة. الغربات الثلاث كانت وراءها أسباب، فهل تلقي الضوء عليها؟ بمعنى آخر، ما الذي دفعك إلى الاغتراب؟

بركات : غربتي الأولى هي رحيلي القسري عن قريتي الكفرون إلى بيروت، ومن أسبابها وفاة والدي وأنا دون الثامنة من عمري. حينذاك رحلت بنا أمي إلى بيروت بحثاً عن عمل، ولاعتقادها بإمكان تأمين الدراسة لنا في مدارس لبنان.

كانت والدتي امرأة أميّة، لكنها كانت تعي أن المنقذ لنا كثلاثة أطفال هو تحصيل العلم. وعشنا في بيروت من عام 1943 إلى عام 1961، غادرت بعدها إلى أمريكا لمتابعة تحصيلي الأكاديمي. وقد عدت إلى لبنان وانضممت إلى هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت كأستاذ في مادة علم الاجتماع.

إلا أنني وجدت نفسي من جديد في أمريكا بسب عدم ترقيتي في الجامعة الأميركية في بيروت، وأظن أن سبب ذلك كان اهتمامي بالقضية الفلسطينية، حيث أجريت حينذاك أبحاثاً في مخيّمات اللاجئين في الأردن، وكتبت كتابي حول أزمة اللاجئين بعنوان: نهر بلا جسور . ومن قبيل الصدف أن دعتني جامعة هارفرد في أمريكا إلى الانضمام إليها كأستاذ زائر. ومنذ ذلك الحين، وجدت نفسي منفياً في الولايات المتحدة، بينما كانت رغبتي الأولى العودة إلى سورية، حيث جذوري واهتماماتي بالقضية القومية والوطنية.

  •  هل تعتقد أن الاغتراب القسري للمثقف العربي كان تخلياً تاريخياً عن حقه الطبيعي بالعيش الحرّ، أو تخلياً عن مشروع بناء الدولة وتحقيق الأهداف الكبرى للفرد والجماعة؟

بركات : لا، طبعاً، لأن وجودي في المنفى الأمريكي زاد من وعيي وتمسّكي بالقضايا العربية، وخاصة قضية الاندماج الاجتماعي والسياسي. اغترابي كان سبباً في ازدياد وعيي بالغربة والمنفى، إذ وجدت هناك علاقة عميقة بين الغربة والإبداع، خاصة في حالة تصميم على الاهتمام بالوطن العربي.

في المرحلة الأولى سبق أن نشرت سنة 1961 روايتي الثانية ستة أيام التي تصوّرت فيها وقوع حرب بين إسرائيل والعرب، ولتكثيفها قلت إنها تمّت في ستة أيام.

وعندما قامت الحرب الحقيقية عام 1967 كتبت رواية أخرى بعنوان: عودة الطائر إلى البحر التي تروي الحقائق التي حصلت في تلك الحرب. وكُثُر هم النقاد الذين اعتبروا ستة أيام نوعاً من النبوءة، لكني رفضت مثل هذا التوصيف، وفضلّت تعبير: الوعي بالواقع العربي الرزين والهشّ تجاه أعدائه.

  •  أعود لأذكر جانباً مهماً من حالة الاغتراب، وهو أنه حينما يغترب المثقف، فإنه يتخلّى عن حق الاختيار، ويهرب من ذاته ويعيش حالة من الزيف، ويصبح واحداً كالآخرين إلى حدّ بعيد . في هذا الإطار، هل أصبحت في أمريكا واحداً كالآخرين، أم أنك بقيت حليم بركات في قلب الحراك القومي والوطني؟

بركات : في أمريكا ازداد وعيي بأهمية القضايا العربية ككل من المغرب الأقصى إلى المشرق العربي. وقد أدركت أن أمريكا تمكّنت من أن تصبح دولة قوية بسبب اتساعها، فازداد اهتمامي ليس بأمريكا، بل بالمغرب والجزيرة العربية ومصر طبعاً.

سافرت للتعرف إلى الأقطار العربية، كالعراق والخليج واليمن والجزيرة العربية، كما تعمّق اهتمامي بمصر والمغرب، وأصبح الوطن العربي محور اهتماماتي الأدبية، وتوسّعتُ في حقل علم الاجتماع.

وفي هذا السياق، نشرتُ المجتمع العربي المعاصر عام 1984، و المجتمع العربي في القرن العشرين عام 2000، وكذلك الهوية: أزمة الحداثة والوعي التقليدي .

وهذا يعني في قسم كبير منه أن غربتي كثفت من اهتماماتي بالمجتمع العربي وقضاياه ككل.

  •  هناك مستويات عدة للاغتراب، ومنها: اغتراب العمال والكفاءات العلمية، واغتراب رجال الفكر والثقافة والأدب. والتاريخ العربي الحديث والمعاصر عرف هذه الظاهرة بوضوح. وتشير بعض الأرقام إلى وجود مئات آلاف الكفاءات العربية في أوروبا وأمريكا. وهذا يعني أن المجتمعات العربية تطرد كفاءاتها ومواهبها!

بركات : الاغتراب في الثقافة العربية يعود إلى علاقات في مختلف المؤسسات العربية، خاصة على صعيد علاقة الفرد بالعائلة، والسلطة السياسية التي تحيله إلى إنسان عاجز في مجتمعه. وقد أدركت أن الهجرة ليست تخلياً عن الوطن، بل هي تعمّق بالاهتمام بقضاياه الأساسية.

وقد بدأت النهضة العربية بالهجرة العربية. والمثال على ذلك هجران جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة الذين بدأوا في رحلة الأدب العربي الحديث. ويمكن القول إن طرد الوطن العربي كفاءاته ومواهبه ظاهرة عامة، وربما كان أفضل المثقفين قد اضطر إلى الهجرة لتحقيق أمانيه الخاصة والعامة.

وبالطبع، فإن المغترب بحاجة دائمة إلى العودة إلى الوطن ليظلّ على اتصال بالأحداث العامة التي هي محور إنجازاته. والمؤلم في الموضوع كله أن المؤسسات التي يلجأ إليها في المهجر تقدِّر إنجازاته أكثر من مؤسسات بلده.


للاطلاع على الحوار كاملا من مركز دراسات الوحدة العربية 

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى