علوم سياسية

“عبد الوهاب المسيري” ونظرية الأمن الصهيونية

ثمة عائلة من المصطلحات التي يصعب تحديد مدلولها بدقة نظراً لتداخلها وتشابكها. وتشكل هذه المصطلحات طيفاً أو متصلاً بين نقطتين أقصى أحد طرفيه “السياسة العليا للدولة” والطرف الآخر “الاستراتيجية العسكرية”. وإذا كانت السياسة العليا تمثل أعلى درجات السياسي والقومي وأكثرها تجريداً، فإن الاستراتيجية العسكرية تمثل العسكري والإجرائي.

وإذا حاولنا تصور نقط الطيف المختلفة لقلنا إن “السياسة العليا” للدولة هي السياسة التي تعبّر عن العقد الاجتماعي السائد في المجتمع وعن ثوابته وأيديولوجيته وأهدافه الكبرى ورؤية النخبة الحاكمة (التي تقبلها غالبية أعضاء المجتمع) للأرض والشعب والحدود وهوية العدو وهوية الصديق.

تأتي بعد ذلك “الاستراتيجية العليا” وهي الخطط العامة المدروسة التي تعالج الوضع الكلي للدولة من خلال الاستخدام الأمثل لجميع مصادر القوة المتاحة حتى يتسنى تحقيق الأهداف الكبرى لهذه الدولة، وتنسيق جميع إمكاناتها الاقتصادية والبشرية (أي القوة القومية) لتلبية أهداف الأمن القومي، كما حددته السياسة العليا، ضمن كل الظروف الممكن تصورها، سواء في حالة الحرب أو السلم. ففي حالة السلم يكون هدف الاستراتيجية العليا دعم القوى المعنوية، وتنظيم توزيع الأدوار بين مختلف المرافق، والحفاظ على تماسك المجتمع ضد الظواهر الداخلية التي قد تهدد هذا التماسك (ظاهرة المخدرات في الولايات المتحدة- الهجرة غير الشرعية في كثير من المجتمعات الأوروبية).

أما “الأمن القومي” لأية دولة فهو دفاع ووقاية ضد الأخطار الخارجية مثل وقوع الدولة تحت سيطرة دولة أخرى أو معسكر أجنبي أو اقتطاع جزء من حدودها أو التدخل في شئونها الداخلية لتحقيق دولة خارجية مصالحها على حساب تلك الدولة. وفي حالة الحرب هو الذي يحدد أعضاء التحالف المشترك في الحرب بقصد تحقيق الهدف السياسي للحرب وهو الذي يخطط للسلم الذي يعقب الحرب. وبهذا المعنى، فمفهوم الأمن القومي مفهوم متعدد الأبعاد يمثل نواحي عسكرية واقتصادية واجتماعية.

و يتفرع من كل هذا ما يُسمّى “العقيدة العسكرية” وهي تعبر عن تصورات القيادة السياسية- العسكرية العليا لطبيعة الحرب التي تتوقع خوضها في المستقبل سواء من ناحية النتائج السياسية أو الإجراءات العسكرية. ومن ثم فالعقيدة العسكرية تشمل تصور الدولة المعنية لأسلوب الاستعداد للحرب اقتصادياً ومعنوياً، وكذلك كيفية إنشاء وتجهيز القوات المسلحة وطرق إدارة الحرب. وهي تعتمد بصورة مباشرة على البنية الاجتماعية للدولة وعلى حالتها السياسية. وفي “إسرائيل” يذهب كثير من العسكريين إلى الإشارة إلى “العقيدة العسكرية” باعتبارها “نظرية الأمن”.

وتتفرع عن العقيدة العسكرية ما يُسمّى “الاستراتيجية العسكرية” (أو سياسة الحرب) وهي الاستراتيجية أو السياسة التي توجّه الحرب (مقابل الاستراتيجية العليا التي تحكم هدف الحرب) وتضع المخططات اللازمة لتحقيق النصر العسكري مهتدية في ذلك بمبادئ العقيدة العسكرية.

وبدلاً من أن نتوه في فوضى المصطلحات فإننا سنتصور أنها كلها تكوّن متصلاً أو كلاً غير عضوي، أي مليئاً بالثغرات، أقصى أطرافه السياسة العليا للدولة (و العقد الاجتماعي للمجتمع) ومن الناحية الأخرى الاستراتيجية العسكرية. وسنفترض وجود نقطتين أساسيتين: الاستراتيجية والأمن القومي. والاستراتيجية في تصورنا ستقترب من السياسي والأيديولوجي، أما الأمن القومي فسيقترب من العسكري والإجرائي، ورغم الفصل بين المصطلحين فإنهما متداخلان، فنحن سنتعامل هنا مع السياسي في علاقته بالعسكري، وكذلك مع العسكري في علاقته بالسياسي. 

استراتيجية “إسرائيل” المستقبلية:

إن استراتيجية “إسرائيل” المستقبلية تدور حول منطقين كلاهما يكمل الآخر: الأول شل المخاطر التي تواجهها، والثاني العمل على تحقيق أهدافها الصهيونية لا بالمعنى الذي وضعه آباء الصهيونية الأوائل، ولكن بالمعنى الذي يفرضه الواقع المعاصر.

من هذا المنطلق علينا أن نفصل ونميز في الأهداف القومية “لإسرائيل” بين ستة مداخل أساسية:

  1. تجزئة الدول العربية وبلقنة الوطن العربي.
  2. تمكين الدولة اليهودية النقية من التكامل.
  3. تحويل “إسرائيل” إلى قلعة صناعية ودولة خدمات سياحية.
  4. ربط الاقتصاد العربي بالاقتصاد “الإسرائيلي” من منطلق السيطرة ومبدأ التبعية.
  5. تجزئة دول المنطقة غير العربية.
  6. تحويل القدس إلى عاصمة عالمية: مصرفية وصناعية.
  7. إن “إسرائيل” تواجه مجموعة من المخاطر التي لا يجوز الاستهانة بها وهي لن تقف صامتة إزاء تلك المخاطر.

وأول أهداف السياسة “الإسرائيلية” في الأعوام القادمة هو بلقنة المنطقة العربية. فالقناعة “الإسرائيلية” هي أنها لن يحميها في الأيام القادمة إلا تجزئة الدول العربية، أي ضمان أمني أو اتفاقية مع الدول العظمى لتكون لها قيمة. فهي تعلم أنه في الأمد البعيد إذا ظل الوضع على ما هو عليه، فإن الولايات المتحدة سوف تنتهي بأن تجد مصالحها مهددة في المنطقة.

وهي كدولة عظمى لا تستطيع أن تضحي بمصالحها كلية لحساب دولة أياً كانت أهميتها العاطفية، كذلك فإن الجانب العربي في طريقه لأن يضع حداً للتخلف الذي يفصله عن “إسرائيل”. وقد أثبتت مصر قدرتها على ذلك، ومصر في الأمد البعيد سوف تعود إلى الصف العربي لأنها تعلم أن هذا هو انتماءها.

ومن ثم ولضمان أمنها ليس أمامها سوى تفجير العالم العربي وتحويله إلى العديد من الكيانات ذات الطابع الطائفي أو الديني، مثل هذا التفجير سوف يسمح “لإسرائيل” بتحقيق هدفين في آن واحد: من جانب سوف تجد تبريراً لها في عالم يسوده مفهوم الدولة الطائفية، “فإسرائيل” نفسها ليست دولة علمانية وهي من ثم سوف تخلق التجانس بين منطق وجودها والمنطق السياسي الذي سوف يسود المنطقة في تلك اللحظة، وهي من جانب آخر سوف تلهي القيادات لمدة خمسين عاماً في خلافات محلية حول الحدود والأطماع المتعلقة بالممرات المائية والثروات البترولية وما عداها.

وفي خلال ذلك تستطيع أن تؤمن لنفسها التطور الذي سوف يسمح لها بأن تحقق أهدافها البعيدة المدى والمتعلقة بالسيطرة الكاملة والتحكم في المنطقة الممتدة من المحيط الهندي حتى المحيط الأطلسي.

ولا يستثني هذا التصور مصر، رغم أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي ظلت ستة آلاف عام تمثل تماسكاً قومياً ثابتا ً. “فإسرائيل” تعلم أن المخاطر التي يتعرض لها الكيان الصهيوني إن ظلت مصر في تماسكها أولاً، وفي تضخمها الديموجرافي ثانياً، وفي تقدمها التكنولوجي ثالثا هي مخاطر قاتلة.

فمصر وحدها تستطيع، إذا قدرت لها القيادة الصالحة على تعبئة القدرات والاستخدام الأمثل للإمكانيات، أن تقضي على “إسرائيل”. وهي لذلك أكثر إلحاحاً في تطبيق مفهومها للتجزئة على مصر.

إن الفكر الاستراتيجي “الإسرائيلي” بهذا الخصوص واضح ولا يعرف أي غموض، ولكن التساؤل المطروح هو ترتيب تعامله مع المنطقة من هذا المنطق، كما أنه يحاول أن يطوع الإدراك الأمريكي ليجعل السياسة الأمريكية إن لم تقف موقف المساندة لمثل هذه الاستراتيجية فعلى الأقل أن تتجنب الرفض.

ومما لا شك فيه أن السياسة “الإسرائيلية” تسير بوعي حقيقي أساسه ألا تتسرع في خطواتها وألا تلهث وراء تحقيق أهدافها وأن تنتظر اللحظة المناسبة عندما يصير الموقف ناضجاً لتدفع عجلة التطور، وهي تعلم أن اقتطاف ثمرة سياستها في حاجة بدوره إلى حنكة معينة.

والواقع أن المتتبع للدبلوماسية الصهيونية –وليس السياسة “الإسرائيلية”- يلحظ أنها أعدت لدبلوماسية الدولة اليهودية بهذا الخصوص بكثير من بُعد النظر عندما عملت على تحويل النظام القومي العربي إلى نظم داخلية متعددة ولو في النطاق الاقتصادي.

إن مفهوم “إسرائيل” للسلم هو أنه وسيلة لأن تستوعب في النظام الإقليمي بحيث يصير الوجود الصهيوني بجانب الوجود العربي في كل ما له صلة بإدارة المرافق الإقليمية حقيقة قائمة وثابتة ودائمة، بحيث يتعود العالم العربي على التعامل المباشر مع العنصر “الإسرائيلي”. هذه هي المقدمة الأولى لإمكانية التغلغل في الاقتصاد الإقليمي وتوجيه خيرات المنطقة نحو المصالح الصهيونية.

ولعل هذه الناحية هي التي تفسر كيف تسير السياسة “الإسرائيلية” بهذا الخصوص بتدرج متتابع من مبدأ خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. والواقع أن “إسرائيل” تعلم بأن مستقبلها من حيث التقدم الاقتصادي يتوقف على فتح أبواب التعامل المباشر مع المنطقة العربية. فهي لذلك تسعى لخلق سوق مشتركة إقليمية تقوم على مبدأ التعاون المباشر بين التكنولوجيا “الإسرائيلية” والعمالة المصرية ورأس المال العربي.

هذه السياسة ستحقق ثلاثة أهداف في آن واحد:

1/ هي مقدمة لاستيعاب النظام الإقليمي العربي، ومن ثم فبدلاً من أن يبتلع الجسد العربي الكيان الصهيوني تستوعب “إسرائيل” الجسد العربي من خلال التحكم في شرايينه الحيوية.

2/ كذلك فإن هذه السياسة منطلق أساسي للسيطرة، فعقب السيطرة الوظيفية من خلال التحكم في الشرايين والمفاصل تأتي السيطرة الاقتصادية بفضل الاستجابة لمتطلبات الحياة اليومية من حيث الاستهلاك وتقديم الخدمات، وجميع هذه المداخل لابد أن تفرض التبعية السياسية.

3/ هذه السياسة لن تحدث نتائجها في التعامل مع الجسد العربي فقط، بل كذلك مع كل من يريد التعامل مع ذلك الجسد. ومن ثم تصير هذه السياسة، وقد أضحت قوة ضاغطة، لا في مواجهة أوروبا الغربية فقط بل كذلك في مواجهة الولايات المتحدة، وهو ما سوف يخلق وضعاً يفرض على أية قوة كبرى تريد أن تتعامل مع المنطقة أن تتعامل أولاً وأساساً من خلال الإرادة “الإسرائيلية”.

الاستراتيجية الصهيونية- “الإسرائيلية”:

تنبع الاستراتيجية “الإسرائيلية” من الصيغة الصهيونية الشاملة (شعب عضوي منبوذ لا نفع له، يتم نقله خارج أوروبا ليتحول إلى عنصر نافع يقوم على خدمة المصالح الغربية في إطار الدولة الوظيفية، نظير أن تقوم الدول الغربية بدعمه وضمان بقائه واستمراره).

ويتطلب تطبيق هذه الصيغة عمليتي نقل سكاني: نقْل بعض أعضاء الجماعات اليهودية من المنفى إلى فلسطين، ونقْل العرب من فلسطين إلى أي منفى.

وتترجم هذه الصيغة نفسها على مستوى الاستراتيجية إلى رؤية للذات (الوافد المستوطن) ورؤية للآخر (السكان الأصليين) وطبيعة العلاقة بينهما وكيفية حسم الصراع. فعلى مستوى الذات تنبع الرؤية الاستراتيجية الصهيونية- “الإسرائيلية” من الإيمان بأن اليهود شعب واحد، وأن المستوطنين الصهاينة هم طليعة هذا الشعب، وأن مركزه هو الدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة.

هذه الدولة ستُنصِّب نفسها الحامية والراعية للشعب اليهودي بأسره أينما كان، وهي ملجأ لهذا الشعب حينما يضيق عليه الخناق. ولكن الشعب اليهودي في المنفى هو مجرد هامش وجزء، فالكل والمركز هو المستوطن الصهيوني والمستوطنون الصهاينة، فهم الذين سيقومون بتخليص “الأرض القومية” من السكان الأصليين، ولابد أن تتم تنشئة أبنائهم تنشئة قومية صارمة تستند إلى وعي عميق بالمشروع الصهيوني، وبذلك تتبلور شخصيتهم القومية، ويتخلّصون من أدران المنفى ومن طفيلية الشخصية اليهودية الجيتوية، ويحققون قدراً كبيراً من التماسك الحضاري والعرقي، ويحافظون على سيادتهم كشعب يهودي مستقل.

ورغم أن أعضاء هذا الشعب اليهودي منتشرون في أنحاء الأرض وسيأتي كل واحد منهم حاملاً هوية حضارية مختلفة، فإنهم سيتم صهرهم في بوتقة واحدة ليصبحوا شعباً واحداً بحق (وهذا الجانب من الاستراتيجية الصهيونية هو مجرد ادعاءات أيديولوجية براقة تستخدم في الدعاية. وقد تم إسقاطها تماماً في الخطاب الصهيوني في السبعينيات ولم يَعُد لها من صدى إلا في كتابات بعض المتزمتين الهامشيين).

وبما أن المستوطنين الصهاينة سيعيشون في بيئة معادية لهم، فإنهم كجماعة بشرية لابد أن يحققوا تفوقاً اقتصادياً (صناعياً وزراعياً) وأن يؤسسوا قاعدة تكنولوجية عصرية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.

ولابد أن يتمتع المستوطنون بمستوى معيشي مرتفع لضمان بقائهم حسب الشروط الصهيونية ولضمان بقاء الدولة الصهيونية (داخل حدودها التي لم يتم تحديدها) وحتى يمكن إغراء المزيد من المهاجرين للقدوم إليها، ويتطلب المشروع الصهيوني توثيق العلاقة مع يهود العالم باعتبارهم مصدراً أساسياً من مصادر الدعم السياسي والمالي والمادة البشرية الاستيطانية.

هذه هي رؤية الذات، أما بالنسبة لرؤية الآخر، فالعالم بالنسبة للصهاينة يشكل دائرتين حضاريتين أساسيتين متعارضتين وإن تداخلتا جغرافياً. أما الدائرة الأولى فهي العالم الغربي الذي يضم غالبية يهود العالم. ورغم أن هذا العالم الغربي هو الذي اضطهد اليهود عبر تاريخهم، ونكّل بهم وبآبائهم، فإن الصهاينة يتناسون هذا تماماً (إلا في مجال زيادة ما يُسمّى “الوعي اليهودي” ومحاولة تعميق الإحساس بالذنب في الوجدان الغربي حتى يتسنى توظيفه في خدمة الصهاينة) ويحصرون عداءهم للغرب في ألمانيا النازية.

ويؤكد الصهاينة أن الدولة الصهيونية تنتمي للحضارة الغربية بكل قيمها وتوجهاتها ومصالحها. والتشكيل الإمبريالي الغربي هو الذي قام بتبني المشروع الصهيوني من البداية، فساعد على نقل الكتلة البشرية وقام بتغطية المستوطن الصهيوني، من الناحية العسكرية والاقتصادية، أثناء مرحلة التأسيس، أي قبل قيام الدولة.

ثم استمر في دعمه مالياً واقتصادياً وعسكرياً بعد قيامها. وهو لا يزال يضمن، من خلال هذا الدعم المستمر، بقاء الدولة الصهيونية واستمرارها ورخاءها. ولذا تحرص هذه الدولة على الإبقاء على علاقات وثيقة مع كل المجتمعات الغربية ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص. والدولة الصهيونية ترى مصالحها الاستراتيجية باعتبارها متفقة تماماً مع المصالح الاستراتيجية الغربية (إن لم تكن جزءاً عضوياً منها) ومن ثم فهي قادرة على خدمة أهداف الغرب الاستراتيجية.

ولذا تحدد “إسرائيل” أولوياتها الاستراتيجية في ضوء الأولويات الاستراتيجية الغربية. وهي دائماً مستعدة لتغيير وتبديل أولوياتها في ضوء ما قد يطرأ من تغيرات وتعديلات على الأولويات الغربية. فالدولة الوظيفية الصهيونية، إن لم تفعل ذلك، وجدت نفسها بلا وظيفة تؤديها ولا دور تلعبه.

وعلى سبيل المثال فإن العدو الأكبر للحضارة الغربية في الستينيات كان القومية العربية، فهي التي كانت تحمل لواء المقاومة ضد الإمبريالية الغربية، ومع انحسار التيار القومي العربي والتيار الماركسي نسبياً (وسقوط ثم اختفاء الكتلة الاشتراكية) وظهور الحركة الإسلامية، أصبح العدو الأول للغرب هو الإسلام والحركات الإسلامية.

ولذا كان عدو الدولة الصهيونية الأول آنذاك هو القومية العربية، أما في الوقت الراهن فقد أصبحت الأصولية الإسلامية هي الخطر الجديد الزاحف، الممتد من منطقة الشرق الأوسط إلى الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، باعتبار أن هذا هو الخطر الذي يتهدد الدول الغربية وروسيا، وأصبحت مواجهة الإرهاب تمثل الركيزة الأساسية في الاستراتيجية الصهيونية “الإسرائيلية”.

“وإسرائيل” بذلك تخلق لنفسها دوراً جديداً تقوم من خلاله بأداء وظيفتها تجاه الغرب والولايات المتحدة وهو يتفق مع دورها في إطار النظام العالمي الجديد، إذ يمكنها أن تبني الجسور لتتواصل من خلالها مع بعض النخب العربية التي تم تغريبها. وبذلك تعوّض الدولة الصهيونية ما فقدته من مكانة استراتيجية متميزة عقب انتهاء الحرب الباردة.

وتحرص الدولة الصهيونية على أن تبين مقدرتها على البقاء والعمل على أداء وظيفتها القتالية والاقتصادية دون أن يتحمل الراعي الإمبريالي تكلفة عالية. وهذا يتطلب وجود مؤسسة عسكرية ضخمة معبأة بشرياً ومادياً تشرف على كل النشاطات في المجتمع.

ثم نأتي للرؤية الصهيونية للآخر الذي يقع خارج العالم الغربي، أي “الشرق”، ويمكن تخيّل هذا الشرق باعتباره عدة دوائر متداخلة أوسعها دول آسيا وأفريقيا، وتتفاوت هذه الدول في أهميتها. ويهتم الفكر الاستراتيجي “الإسرائيلي” بالدول الواقعة على سواحل البحر الأحمر والمتوسط والدول التي توجد في أعالي النيل.

وتوجد داخل هذه الدول دول “صديقة” أو دول يمكن شراؤها تدور في فلك الغرب وتمثل مجالاً حيوياً “لإسرائيل” يمكن أن يساعدها على التغلغل في آسيا وأفريقيا والالتفاف حول العالم العربي وكسر طوق الحصار الذي يُفرض على “إسرائيل”، بل يمكن من خلالها الضغط عليه. كما توجد دول معادية إما لأن مصالحها مرتبطة بمصالح الدول العربية أو بسبب توجهها الأيديولوجي.

ولكن أشد الدول عداءً وأكثرها خطراً داخل هذه الدائرة الأولى هي الدول الإسلامية مثل باكستان وإيران التي تشكل بمكانتها وتوجهاتها الاستراتيجية خطراً على الأمن “الإسرائيلي”. ويوجد داخل هذه الدائرة العريضة دائرة الدول العربية الواقفة وراء دول المواجهة والتي تساند دول المواجهة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. كما يمكنها أن تشكل أداة ضغط على الصعيد العالمي لصالح دول المواجهة. ثم تأتي أخيراً دول المواجهة وهي مصر وسوريا والأردن، وفي مركز الدائرة توجد “إسرائيل”.

وتذهب الاستراتيجية “الإسرائيلية” إلى أن اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب هي لغة القوة (“وإسرائيل” على كل هي نتاج المنظومة الداروينية الغربية، ووجودها ثمرة القوة والعنف)، وأن صالح “إسرائيل” والعالم الغربي هو إبقاء العالم العربي في حالة تجزئة وفرقة (وهذا على كل، بُعد أساسي في الاستراتيجية الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر).

ويمكن تحقيق حالة التجزئة هذه من خلال اتفاقيات السلام المختلفة، وخلق مصالح اقتصادية متضاربة ومتناقضة بين الدول العربية، على أن تمسك “إسرائيل” بالخيوط الأساسية وأن تصبح النقطة التي تتفرع منها كل القنوات الاقتصادية، فتصب فيها التكنولوجيا الغربية ورأس المال الغربي، وتقوم هي بتوزيعها بما يتفق مع مصلحة الغرب الاستراتيجية.

ويُقسَّم العالم العربي، من المنظور الاستراتيجي الصهيوني “الإسرائيلي” إلى أربعة أقسام:

  1. دائرة الهلال الخصيب وتتناوب كل من سوريا والعراق قيادتها.
  2. دائرة وادي النيل وتمثل مصر الدولة الرائدة فيها.
  3. دائرة شبه الجزيرة العربية وتمثل السعودية الدولة القائدة فيها.
  4. دائرة المغرب العربي وعلى رأسها المغرب والجزائر.

وتتمثل الاستراتيجية “الإسرائيلية” للتعامل مع هذه الدوائر في العمل على منع التقائها أو تعاونها لما يشكله مثل هذا التعاون من خطورة على الأمن “الإسرائيلي”، نظراً للإمكانات الضخمة التي تملكها كل دائرة إذا ما تعاونت مع غيرها.

ولذا تصر “إسرائيل” على ضرورة مواجهة كل دولة عربية على حدة سواء في الحرب أم في السلم. ومن هنا تصوّر “إسرائيل” للعالم العربي باعتباره “المنطقة”، أي منطقة جغرافية لا يربطها رابط تاريخي تنقسم إلى دويلات صغيرة تتنازعها الانقسامات الطائفية بحيث تصبح هذه الدويلات الطائفية فاقدة لكل عناصر القوة وبشكل تقع فيه تحت السيطرة “الإسرائيلية”، والخطط “الإسرائيلية” المستقبلية بهذا الشأن.


1– التعامل مع الدائرة الأولى (الهلال الخصيب):

أ ) كانت الاستراتيجية “الإسرائيلية” في الماضي تهدف إلى احتلال الأردن وتجزئته ونقل السلطة فيه للفلسطينيين وتهجير عرب الضفة وغزة للسكن فيه للتخلص من الكثافة العربية في الأرض الفلسطينية.

ولكن الاستراتيجية الآن هي تحييد الأردن وكسبه لصف “إسرائيل” والتلويح بالمكاسب الاقتصادية حتى يشارك الأردن في عملية حصار الفلسطينيين واستيعابهم داخل أي إطار سياسي اقتصادي، ليتحولوا من قوة ذاتية داخل التشكيل الحضاري العربي إلى مجموعة بشرية مشتتة ذات توجهات اقتصادية ضيقة مباشرة.

ب) كانت الاستراتيجية “الإسرائيلية” في الماضي ترى ضرورة تجزئة لبنان إلى خمس مقاطعات: درزية في الشوف، ومارونية في كسروان، وشيعية في الجنوب والبقاع، وسنية في طرابلس، ودولة سنية أخرى في بيروت. وستكون هذه التجزئة كسابقة للعالم العربي وبداية المسيرة في هذا الاتجاه.

جـ ) كما كان التصور الاستراتيجي “الإسرائيلي” يذهب إلى ضرورة تقسيم سوريا والعراق في مرحلة لاحقة إلى مناطق عرقية أو دينية خالصة، فتُقسّم سوريا إلى دولة شيعية علوية على طول الساحل السوري، ودولة سنية في حلب، ودولة سنية معادية لها في دمشق، ودولة درزية في حوران والجولان.

أما العراق فإنه يمثل –بسبب الثروة النفطية- مصدر تهديد “لإسرائيل”، ولذا فيمكن تمزيقه إلى أجزاء تتمحور حول المدن الكبرى، دولة شيعية في الجنوب حول البصرة، ودولة سنية حول بغداد، ودولة كردية حول الموصل. ولكن لاعتبارات استراتيجية محلية وعالمية، ومع ظهور النظام العالمي الجديد، أصبحت الاستراتيجية “الإسرائيلية” لا تهدف إلى تقسيم هذه البلاد، وإنما الاستفادة من بعض الثغرات الموجودة في بعض البلدان العربية مثل النزاعات الطائفية في لبنان أو مصر والنزعات الانفصالية في العراق والسودان.

2– الدائرة الثانية (وادي النيل):

بالنسبة لمصر، تهدف الاستراتيجية “الإسرائيلية” إلى تحطيم فكرة أن مصر الزعيمة القوية للعالم العربي وإلى تشجيع الصراعات بين المسلمين والأقباط وإضعاف الدولة المركزية والسعي إلى قيام عدد من الدول الضعيفة ذات قوى محلية وبدون حكومة مركزية. وأما الدول المجاورة مثل السودان فمصيرها هو التقسيم، وعزل الجنوب، الذي يضم منابع النيل، ليشكل ذلك نقطة ضعف على مصر.

3– الدائرة الثالثة (الجزيرة العربية):

أما فيما يتعلق بشبه الجزيرة العربية فهي من وجهة نظر “إسرائيلية” يسهل اختراقها وترويضها وإغواؤها بالحديث عن مظلة “إسرائيل” الأمنية (ضد الجيران الفقراء المتربصين) وعن المكاسب الاقتصادية التي يحققها من يتحالف مع “إسرائيل” وعن توثيق العلاقة مع الولايات المتحدة من خلال الدولة الصهيونية.

4- الدائرة الرابعة (المغرب العربي):

أما فيما يتعلق بالمغرب العربي فهو من وجهة نظر “إسرائيلية” يمكن تحييده بسهولة عن طريق عزله عن بقية العالم العربي وعن طريق المكاسب الاقتصادية وربطه بالاتحاد الأوروبي.

وإذا كانت “إسرائيل” في وسط الدائرة، فالفلسطينيون يوجدون في نفس دائرتها وفي صميمها، يتحدون وجودها. ولذا إذا كانت الاستراتيجية الصهيونية تهدف إلى كسب بعض دول آسيا وأفريقيا إلى صفها وضرب البعض الآخر، وإذا كانت تهدف إلى كسر شوكة العرب وتفريقهم واستيعابهم داخل تنظيمات اقتصادية وسياسية مختلفة، فحينما يكون الأمر متصلاً بالفلسطينيين فإنه يتجاوز كل هذا، إذ أن الاستراتيجية الصهيونية تؤكد أن الوجود الفلسطيني في “إرتس يسرائيل”(أرض إسرائيل) أمر عرضي،

ولذا فمصير الفلسطينيين الوحيد هو التغييب التام، إما عن طريق الطرد أو الإبادة أو التفكيك والتذويب، وإن ظهروا إلى الوجود فلابد من تهميشهم وإخضاعهم واستعبادهم من خلال حكم ذاتي محدود وعقد صفقة تاريخية شاملة تزيل القضية الفلسطينية من جدول الأعمال السياسي الدولي في عصرنا وتحول الصراع إلى صراع فلسطيني فلسطيني أي إلى حرب أهلية فلسطينية لا علاقة لأحد بها، وبذا تصبح فلسطين أرضاً بلا شعب.

الهاجس الأمني وعقلية الحصار:

“الهاجس الأمني” و”عقلية الحصار” عبارتان تردان في الخطاب السياسي العربي لوصف إحدى جوانب الوجدان “الإسرائيلي”، وهو الانشغال المرضي بقضية الأمن. وقد وُصف هذا الانشغال بأنه “مرضي” لأنه لا يتناسب بأية حال مع عناصر التهديد الموضوعية (فالشعب الفلسطيني شعب موضوع تحت حكم عسكري قاسٍ، وموازين القوى العسكرية بين الدولة الصهيونية والدول العربية في صالح “إسرائيل”، كما أن أكبر قوة عسكرية في العالم، الولايات المتحدة، تقف بكل صرامة وراء الدولة الصهيونية).

وفي محاولة تفسير هذا الوضع، يذهب بعض الدارسين إلى أن تجربة الإبادة النازية قد تركت أثراً عميقاً في الوجدان اليهودي “والإسرائيلي” بحيث تجذّر الخوف من الإبادة في الوجدان وأصبح شيئاً من قبيل العقدة التاريخية أو العقدة النفسية الجماعية المتجذرة في العقل الجمعي اليهودي رغم زوال العناصر الموضوعية.

وقد يكون لهذا التفسير بعض المصداقية، وبخاصة أن الصهاينة والإعلام الغربي قد حوّلوا الإبادة النازية ليهود الغرب إلى ما يشبه الأيقونة التي لا علاقة لها بالزمان أو المكان وجعلوها مركز ما يسمى “التاريخ اليهودي”. ويرى البعض أن عقلية الحصار هي بعض بقايا ورواسب الوجود في الجيتو اليهودي في أوروبا، وأن يهود أوروبا (وبخاصة شرق أوروبا) عاشوا عبر تاريخهم لا سيادة لهم ولا يشاركون في أية سلطة، معرضين دائماً لهجوم الأغيار عليهم.

وبسبب هذا الهاجس الأمني وعقلية الحصار تؤكد “إسرائيل” دائماً أنها قلعة مسلحة لا يمكن اختراقها، قوة لا تقهر، قادرة على الدفاع عن نفسها وعلى البطش بأعدائها، ولكنها مع هذا مهددة طيلة الوقت بالفناء (ومن هنا أسطورة ماسدا وشمشون).

ونحن نرى أن كل هذه الأسباب قد تفسر حدة الهاجس الأمني وعقلية الحصار ولكنها لا تفسر سبب وجوده وتجذره. ونحن نذهب إلى أن الهاجس الأمني قد يكون حالة مرضية ولكنه في نهاية الأمر ثمرة إدراك عميق وواقعي (واع أو غير واعٍ) من جانب المستوطنين الصهاينة لواقعهم.

لقد أدرك هؤلاء المستوطنون أن الأرض التي يسيرون عليها ويدّعون ملكيتها منذ آلاف السنين هي في واقع الأمر ليست أرضهم وليست أرضاً بلا شعب كما كان الزعم، وأن أهلها لم يستسلموا كما كان متوقعاً منهم، ولم تتم إبادتهم كما كان المفروض أن يحدث.

بل إنهم يقاومون وينتفضون ويتزايدون في العدد والكفاءات ولم يكفوا عن المطالبة بشكل صريح بالضفة والقطاع، وبشكل خفي بكل فلسطين وبحق العودة لها. وقرارات هيئة الأمم المتحدة الخاصة بحق العودة لا تزال سارية المفعول، ولم تُقبل “إسرائيل” عضواً في المنظمة الدولية إلا بعد تعهدها بتنفيذ هذه القرارات، ويساندهم في هذا كل الشعب العربي، ومسألة العجز العسكري العربي والتفوق العسكري “الإسرائيلي” ليسا مسألة أزلية، وقد أثبتت حرب 1973 ثم المقاومة في لبنان، وبعدها الانتفاضة أن العرب قادرون على أن يعيدوا تنظيم أنفسهم ويهاجموا المستعمر ويلحقوا به خسائر فادحة.

ثمة إحساس عميق بأن العربي الغائب لم يغب، وهو أساس في جوهره صادق، فالكيان الصهيوني مُحاصر بالفعل ومهدد دائماً، والعرب في واقع الأمر لا يمكن “الثقة بهم”، لأن الجماهير العربية لن تقبل حالة الظلم باعتبارها حالة نهائية رغم توقيع معاهدات السلام الكثيرة ! وأقصى ما يطمح إليه المستوطنون الصهاينة هدنة مؤقتة تنتهي عادة بمواجهات عسكرية.

فالصراع مع الكيان الصهيوني صراع شامل على الوجود، لأن وجود الشعب الفلسطيني لا يهدد حدود الدولة الصهيونية أو سيطرتها على أجزاء من الأرض الفلسطينية، وإنما يهدد وجودها كله. كل هذا يعمق إحساس المستوطنين الصهاينة بأن دولتهم كيان مشلول، فُرض فرضاً على المنطقة بقوة السلاح، وهم أول من يعرف أن ما أسس بالسيف يمكن أن يسقط به. ومما يعمق مخاوفهم إحجام يهود العالم عن الهجرة والتكلفة المتزايدة للتكنولوجيا العسكرية، كل هذا يولّد الهاجس الأمني المرضي وعقلية الحصار المرضية وهي حالة لا علاج لها داخل الإطار الصهيوني.

والهاجس الأمني وعقلية الحصار يحددان كثيراً من جوانب السلوك “الإسرائيلي”، فبسبب هذا الهاجس لابد من زيادة القوة العسكرية والدعم الاقتصادي والتفوق التكنولوجي والمزيد من السيطرة على الأراضي. وبسبب حجة الأمن يطالب “الإسرائيليون” بالاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة وإنكار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

وباسم هذا الهاجس الأمني يحق “للإسرائيليين” اللجوء للإغلاق الأمني للقرى الفلسطينية وحصارها وتجويعها. وفي أية مفاوضات مع العرب يطرح “الإسرائيليون” دوماً بند الأمن والأخطار التي تهددهم وضرورة وجود محطات إنذار مبكر ومناطق فصل.

وعندما تعقد أية اتفاقية مع العرب يصر “الإسرائيليون” على ضرورة امتحانهم للتأكد من نيتهم خوفاً من الخديعة دون أن يكون من حق الفلسطيني أو العربي أن يفعل المثل. في هذا الإطار يتم التمييز بين المستوطنات السياسية التي يمكن التخلي عنها والمستوطنات الأمنية التي يجب الاحتفاظ بها (وبالتالي بقسم كبير من أراضي الضفة والقطاع).

وتمت عملية غزو لبنان باسم “السلام من أجل الجليل”. وتنعقد المفاوضات مع سوريا بسبب أمن “إسرائيل”، بل إن الدولة الصهيونية بسبب الهاجس الأمني تسمح وبشكل قانوني بدرجة من الإجبار والضغط البدنيين للحصول على معلومات من الفلسطينيين (أما ممارسة الإجبار والضغط البدنيين بشكل غير قانوني فهذا أمر مفروغ منه).

والهاجس الأمني يقف أيضاً عقبة كأداء في المجال الاقتصادي إذ يضع “الإسرائيليون” الاعتبارات الأمنية قبل اعتبارات الجدوى الاقتصادية ومن ثم فهو يعوق عمليات الخصخصة التي تتطلب جواً منفتحاً يسمح بتدفق رؤوس الأموال والخبرات والعمالة والسلع.

بل إنه يمكننا القول بأن الهاجس الأمني يشكل عائقاً ضخماً في مجال التطبيع، إذ أن “الإسرائيليين” حينما تتدفق عليهم العمالة العربية والبضائع تبدأ مخاوفهم الأمنية في التهيج فيخضعون كل شيء للاعتبارات الأمنية بما يحول دون تدفق العمالة والبضائع.

البُعْد الصهيوني لنظرية الأمن القومي في إسرائيل:

تُعَد نظرية الأمن القومي في “إسرائيل” ذات مركزية خاصة بالنسبة للكيان الصهيوني. فالمشروع الصهيوني مشروع استيطاني مبني على نقل كتلة بشرية لتحل محل الفلسطينيين وتغيبهم (فيما نسميه بمقولة “العربي الغائب”) وتلغي تاريخهم وتستولي على أرضهم، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال العنف والقوة العسكرية وخلق الحقائق الاقتصادية والسياسية والاستيطانية، وهذا هو الإطار الحقيقي الذي تدور داخله نظرية الأمن “الإسرائيلي”. وما عقلية الحصار سوى نتاج لهذا الوضع البنيوي، أي أن نظرية الأمن”الإسرائيلي” والهاجس الأمني يفترض أن الصراع حالة دائمة ,

هذا الإدراك يعبّر عن نفسه عبر مفاهيم التي تشكل ركائز نظرية الأمن في “إسرائيل” التي تدور جميعها حول فكرة إلغاء الزمان والارتباط بالمكان. فهناك فكرة الأمن السرمدي، أي أن أمن “إسرائيل” مهدد دائماً، وأن حالة الحرب مع العرب حالة شبه أزلية.

وقد عبّر حاييم أرونسون عن هذه الرؤية في إحدى دراساته بالإشارة إلى ما سماه “حرب المائة عام” (1882-1982)، أي الحرب الدائمة بين العرب والصهاينة. وهو يذهب إلى أن هذه الحرب لا تزال مستمرة، ويُفسّر هذا الاستمرار على أساس أن “إسرائيل” بلد غربي حديث يعيش في وسط عربي لا يزال يخوض عملية التحديث، ومن ثم فهو معرّض للقلاقل ولا يمكن عقد سلام معه.

ويتوقع أرونسون أن تستمر الحرب لفترة أخرى إلى حين الانتهاء من تحديث العالم العربي. وقد تحدّث موشيه ديان عن إين بريرا “لا خيار”، فعلى المستوطنين أن يستمروا في الصراع إلى ما لا نهاية (وأسطورة ماساداه الشمشونية تعبير عن هذه الرؤية المظلمة).

وقد استخدم إسحق رابين تعبير “الحرب الراقدة” لوصف العلاقة القائمة بين “إسرائيل” والمحيط العربي، كما استخدم الكثير من القيادات “الإسرائيلية” تعبيرات مشابهة مثل تعبير “الحرب منخفضة الحدة”، حيث تشير كلها إلى غياب الحدود الواضحة بين الحرب وحالة السلم في علاقة الدولة الصهيونية بمحيطها.

ويرى كثيرون من أعضاء المؤسسة العسكرية “الإسرائيلية” أن التوجه نحو السلام مجرد مرحلة انتقالية يلتقط العرب فيها أنفاسهم ليعاودوا القتال (وهو ما أثبته تاريخ الصراع عبر الأعوام المائة السابقة). ومن ثم يصبح من الضروري محاصرة العنصر الإنساني الفلسطيني وقمعه بضراوة (كما حدث أثناء الانتفاضة، وكما يتبدّى من المفهوم “الإسرائيلي” للحكم الذاتي).

أما بالنسبة للعرب فلابد من ضربهم باستمرار لبث روح اليأس فيهم وإقناعهم بأن الاستمرار في تبنّي الصراع العسكري كوسيلة لاستعادة الحقوق غير مجدٍ.

وإذا كان الزمان تكراراً رتيباً لا يأتي بالسلام أو بالتحولات الجذرية، لا يبقى سوى المكان الثابت الذي لا يعرف الزمان. وبالفعل نجد أن الأرض تشكل حجر الزاوية في الأيديولوجية الصهيونية وفي نظرية الأمن الإسرائيلية، فالأرض الخالية من العرب (بالألمانية: أراب راين Arabrein)، أي من الزمان العربي، هي المجال الحيوي الذي يمكن توطين الشعب اليهودي فيه وتحويله إلى عنصر استيطاني يقوم على خدمة المصالح الغربية في إطار الدولة الوظيفية.

وبدون الأرض سيظل الشعب اليهودي شعباً شريداً طريداً، بلا سيادة سياسية أو اقتصادية. والأرض التي يستولي عليها الصهاينة لابد أن تُعقَّم من زمانها التاريخي العربي، لكي تصبح أرضاً بلا زمان، أي أرضاً بلا شعب.

لكل هذا نجد أن نظرية الأمن “الإسرائيلية” تؤكد البعد المكاني (الجغرافي-اللاتاريخي-اللازماني) بشكل مبالغ فيه وتمهل البعد التاريخي (الزماني-الإنساني) وإن قبلته فإنها تفعل ذلك صاغرة وتحاول الالتفاف حوله تماماً مثلما تلتف الطرق الالتفافية الصهيونية حول القرى العربية.

ولذا فنظرية الأمن “الإسرائيلي” تدور داخل فكرة الحدود الجغرافية الآمنة (ذات الطابع الغيتوي) التي تستند إلى معطيات جغرافية مثل الحدود الطبيعية (نهر الأردن، هضبة الجولان، قناة السويس). وقد اقترح حاييم أرونسون ما سماه “الحائط النووي”، أي أن تقبع “إسرائيل” داخل حزام مسلح تحميه الأسلحة النووية.

وهي فكرة بسيطة مجنونة، تتجاهل العنصر الإنساني الملتحم بالجسد الصهيوني نفسه، ولا تختلف فكرة المستوطنات/ القلاع المحصنة كثيراً عن الحائط النووي، وهي سلسلة من المستوطنات التي تحيط بحدود “إسرائيل” في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والنقب،

وهي مستوطنات أمنية مختلفة عن تلك التي أقيمت لأسباب دينية أو اقتصادية (وهذه المستوطنات تذكّر المرء تماماً بالشتتلات التي أقامها النبلاء البولنديون [شلاختا] للملتزمين [أرنداتور] اليهود كي يحتموا بها ضد هجمات الفلاحين الأوكرانيين).

وتحافظ هذه المستوطنات على العمق الاستراتيجي للمراكز البشرية والاقتصادية وتحول دون تعرّض “إسرائيل” للهجمات العربية، كما أنها تحقق النصر في حالة الهجوم بأقل قدر ممكن من الخسائر في الجانب “الإسرائيلي”، وتوفر الفرصة للقوات “الإسرائيلية” للقيام بأعمالها الانتقامية والتوسعية في الدول العربية المجاورة.

وتأكيد عنصر الأرض يظهر في انشغال التفكير العسكري “الإسرائيلي” بمحدودية العمق الاستراتيجي للدولة الصهيونية، “فإسرائيل” في التصور الصهيوني كلها منطقة حدودية، ومن ثم لا يمكن السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض “إسرائيل”.

ولذا لا يوجد مكان لعقيدة دفاعية في الفكر العسكري “الإسرائيلي”، نظراً لأن أي فشل في العقيدة الدفاعية سيؤدي حتماً إلى اختراق “إسرائيل” نفسها. ومما عمّق هذا الإحساس إدراك القيادة “الإسرائيلية” ضعف القاعدة السكانية “الإسرائيلية” بالنسبة للقوة البشرية العربية، ومن هنا ضرورة تفادي الحرب الفجائية وضرورة تحصين الحدود بعدد من المستوطنات (كما أسلفنا) وضرورة السبق لتوجيه الضربة الأولى من خلال حرب خاطفة لتجنب الحرب الطويلة والحرب الاستنزافية (لأن “إسرائيل” لا تتحمل التعبئة العسكرية الشاملة لفترة طويلة)، وضرورة إلحاق خسارة فادحة سريعة بالطرف العربي المهاجم لئلا تُجبر “إسرائيل” على تقديم تنازلات سياسية أو إقليمية.

وإزاء مشكلة غياب العمق الاستراتيجي للكيان الصهيوني يُحدّد الفكر العسكري “الإسرائيلي” ما يُسمّى “ذرائع الحرب” على نحو فريد. فالدولة الصهيونية تعتبر كل دولة عربية مسئولة عن أي نشاط فدائي ينطلق من أراضيها، وازدياد هذا النشاط يُعدّ ذريعة من ذرائع الحرب. ويضاف إلى هذا الذرائع التالية:

  1. قيام حشود عسكرية عربية على أي جانب من حدود “إسرائيل”.
  2. تغيير ميزان القوى العسكرية على حدود “إسرائيل” الشرقية نتيجة دخول قوات دولة أخرى إلى الأردن، أو قيام وحدة سورية الطبيعية أو إنشاء أو قيام دولة فلسطينية معادية على حدود “إسرائيل”.
  3. تهديد الأمن”الإسرائيلي” بسبب حصول الأطراف العربية على أفضلية نوعية في سباق التسلح (مثل التسلح النووي).
  4. إغلاق المضائق أو الممرات المائية، أو أية خطوط بحرية أو جوية.
  5. تحويل مصادر المياه في لبنان أو في الجولان أو الأردن بطريقة ترى “إسرائيل” أنها تهدد الأمن “الإسرائيلي”.

لقد حددت الحركة الصهيونية فكرة الأمن بشكل جغرافي وأسقطت العنصر التاريخي، وتصوّرت أنه عن طريق الاستيلاء على قطعة ما من الأرض أو على هذا الجزء من العالم العربي أو ذاك وعن طريق التحالف مع الولايات المتحدة والقوة العسكرية فإنها تحل مشكلة الأمن وتصل إلى الحدود الآمنة، ولكن الانتصارات “الإسرائيلية” التي كانت ترمي لتحقيق الأمن كانت تؤدي إلى نتيجة عكسية على طول الخط، حتى وصلت التناقضات إلى قمتها مع انتصار 1967، وكان لابد أن تُحسم هذه التناقضات، وهو الأمر الذي أنجزت القوات المصرية والسورية يوم 6 أكتوبر 1973 جزءاً منه، ثم اندلعت الانتفاضة لتبين العجز الصهيوني.

ومع هذا تجدر الإشارة إلى أنه ثمة اختلافات داخل المعسكر الصهيوني في مدى هيمنة مقولة الأرض، ويمكن القول بأن صهيونية الأراضي (الليكودية) تعبير عن هذا التمركز الشرس حول الأرض وإهمال الزمان والتاريخ.

أما الصهيونية الديموغرافية أو السكانية (العمالية) فهي تعبير عن إدراك الوجود العربي والزمان العربي وربما استعداد للتعامل معه، وإن كان التعامل يظل في إطار المطلقات الصهيونية، وهي أن أرض فلسطين، أي (إرتس يسرائيل) في المصطلح الصهيوني، هي ملك خالص”للشعب اليهودي” وحده (كما تنص على ذلك لوائح الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي).

ولكن إن اختلف الصهاينة بشأن بعض التفاصيل فثمة إجماع صهيوني راسخ بأن أمن “إسرائيل” يتوقف على الدعم الغربي لها، وبخاصة الدعم الأمريكي، ولذا لا يوجد أي اختلاف بشأن هذه النقطة.

والحقيقة التي فاتت الزعامات الصهيونية أن أمن “إسرائيل” يمثل مشكلة كيانية لأن “إسرائيل” كيان مزروع بلا جذور، ممول من الخارج من قبل يهود الغرب والدول الإمبريالية الغربية، لا يتفاعل مع الواقع التاريخي العربي المحيط به، ولكي تُدافع “إسرائيل” عن أمنها، أي كيانها، يضطر الكيان الاستيطاني الشاذ إلى أن يعسكر نفسه عسكرة تامة ليتحول إلى المجتمع/ القلعة الذي تجري العسكرية في عروقه والذي لا توجد فيه أية فواصل بين الشعب والجيش.

وما تنساه الزعامات الصهيونية أنه بغض النظر عن مقدار الأمن الذي سيصل إليه هذا المجتمع وبغض النظر عن حجم انتصاراته، فإن عليه أن يخوض الحرب تلو الحرب ليدافع عن أمنه “المهدد” وذلك بسبب الحركة الطاردة في المنطقة. لقد بدأ الاستيطان الصهيوني مستنداً إلى أسلوب المستوطنات ذات السور والبرج وعاش المستوطنون داخل هذا الأمن المؤقت يحلمون بالأمن النهائي،

وقد صعّدت المؤسسة الصهيونية آمالهم بأن “السلام سيحل عن قريب” وخاض المستوطنون، ومن بعدهم الدولة الصهيونية، عدة حروب ليصلوا إلى الأمن النهائية والحدود الآمنة إلى أن وصل يوم 6 أكتوبر 1973 وكانوا لا يزالون واقفين وراء قناة السويس خلف سور وبرج كانا يعرفان باسم “خط بارليف” الذي كان يحيط بالحدود الآمنة المفترضة. ثم تحولت “إسرائيل” بأسرها إلى أسوار وأبراج وطرق التفافية يحيط بها حزام أمني في لبنان وسلسلة من المستوطنات في الجولان، ومعابر مسلحة مع السلطة الفلسطينية.

وعبور القوات المصرية والسورية في أكتوبر وانتفاضة الفلسطينيين التي استمرت بشكل حاد حوالي ستة أعوام (ولا تزال مستمرة في صور أخرى في المجتمعات وبعض النقاط الساخنة) واستمرار المقاومة اللبنانية بدرجات متفاوتة من الحدة أثبت أن نظرية الأمن “الإسرائيلي”، كما حددتها المؤسسة العسكرية، لا أساس لها ولا سند، فسقطت أجزاء كبيرة من العقيدة الصهيونية وانكشف الغطاء عنها.

إن التعريف الصهيوني للأمن شجرة عقيمة، فالحدود الجغرافية الآمنة لا يمكنها أن تهزم التاريخ، والأمن لا يتحقّق داخل المكان وحسب، عن طريق الآلات والردع التكنولوجي، وإنما يتحقق داخل الزمان، فالأمن الدائم والنهائي والحقيقي علاقة بين مجموعات إنسانية تعيش داخل الزمان وليس أسطورة لا تاريخية تُفْرَض عن طريق الردع التكنولوجي، والدولة الصهيونية غير قادرة على تحقيق الأمن لشعبها أو للآخرين.

ومع هذا نجحت في إقناع المؤسسة الحاكمة الجماهير “الإسرائيلية” أنها لا يمكن أن تتعايش إلا داخل الكيان الصهيوني الشاذ، وعلينا أن نثبت أن العكس هو الصحيح، فصهيونية هذا الكيان هي السبب في انعدام أمنه وهي السبب في الزج بالجماهير “الإسرائيلية” في حروب متتالية، فلا أمن إلا من خلال إطار ينتظم كل سكان المنطقة ولا يستبعد “الإسرائيليي”ن أو الفلسطينيين. أما الأمن الذي يتجاهل الواقع فهو أمن مسلح مؤقت، هو سلام مبني على الحرب يهدف إلى فرض الشروط الصهيونية.

إن الصهيونية تصدر عن رؤية تفرض انفصال اليهودي عن (الأغيار) ووحدته مع كل يهود العالم، وتحاول الدولة الصهيونية أن تترجم هذا الافتراض إلى حقيقة. “فإسرائيل” تحاول أن تظل بمعزل عن حركة التاريخ في منطقة الشرق العربي وتتحرك في إطار فكرة وحدة “التاريخ اليهودي”، ولذلك فهي تمنع الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم ولكنها في الوقت نفسه تقوم بالحملات المسعورة لتهجير يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، ثم تبحث عن “الأمن” بعد هذا.

وعلى العرب أن يثبتوا “للإسرائيليين” أن السير عكس الاتجاه الصهيوني هو المخرج الوحيد، إن أي دولة تعبّر عن حركة التاريخ في المنطقة وتنتظم كل سكان فلسطين بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي، دولة منفصلة عن ديناميات “التاريخ اليهودي” الوهمية متحررة من التصورات الخاصة بـ”وحدة الشعب اليهودي” في كل زمان ومكان.

وقد شبّه أحد الكتّاب “الإسرائيليين” نظرية الأمن بأنها عبادة وثنية للعجل الذهبي (الشيء-المكان) الذي رقص حوله “الإسرائيليون” والعبرانيون مهملين عبادة الله الحق، المتجاوز للطبيعة والمادة والمكان.

تطور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي:

ينطلق الأمن القومي “الإسرائيلي” من مقولة في غاية البساطة والسذاجة وهي أن فلسطين أو (إرتس يسرائيل) هي أرض بلا شعب، ومن ثم إن وجد مثل هذا الشعب فلابد أن يغيب، أي أن مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي” ينطلق من إنكار الزمان العربي والوجود العربي، والفلسطيني على وجه التحديد. وهذا يعني ضرورة فرض الوجود الصهيوني والشروط الصهيونية بكل الوسائل المتاحة، أي أن ردع العرب وإضعافهم هو هدف أساسي للأمن القومي”الإسرائيلي”، وأن على الجيش الإسرائيلي أن يحتفظ بقدرته العسكرية، وأن على الدولة الصهيونية أن تحتفظ بعلاقاتها المتينة بالعالم الغربي الذي يدعمها ويمولها ويضمن تفوقها العسكري الدائم.

ومع هذا طرأ على مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي” بعض التعديلات نتيجة الحروب العربية-“الإسرائيلية”، والمتغيرات والمعطيات الجغرافية والسياسية الناجمة عنها، وما تغيّر عبر هذه السنوات فقط أدوات تحقيق هذا الأمن ولكنها ليس بمعنى التغيُّر الكامل أو الإحلال. وقد تطور مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي” عبر عدة مراحل:

قام مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي” في مرحلته الأولى على مفهوم “الضربة المضادة الاستباقية”، الذي كان يرتبط بانعدام العمق الاستراتيجي “لإسرائيل”. وينطلق هذا المفهوم من مقولة مفادها أن من الحيوي عدم السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض “إسرائيل”، بل يجب نقلها وبسرعة إلى أراضي العدو، وطوّرت مفهوماً للردع ثم استبدلته بمفهوم لذرائع الحرب الاستباقية يقوم على شن حرب استباقية إذا حاول العدو (العربي) التصرف في أرضه على نحو يقلقل “إسرائيل” مثل المساس بحرية العبور أو حشد قوات على الحدود “الإسرائيلية” أو حرمانها من مصادر المياه. ولذا كانت عملية تأميم قناة السويس تستدعي عملاً عسكرياً تمثّل في عملية قادش أو ما نسميه “العدوان الثلاثي”.

تطوّر مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي” لتظهر نظرية “الحدود الآمنة”، وهي نظرية وضعت أسسها قبل 1967 لكنها تبلورت بعد حرب 1967، وقد شرحها آبا إيبان وزير الخارجية آنذاك بأنها نظرية تقوم على حدود يمكن الدفاع عنها دون اللجوء إلى حرب وقائية، ويلاحظ في هذه النظرية غلبة المكان على الزمان بشكل تام، إذ يُنظر للشعب العربي باعتبار أنه يجب القضاء عليه تماماً أو تهميشه، فنظرية الحدود الآمنة إعلان عن نهاية التاريخ (العربي).

أكدت حرب 1973 فشل معظم نظريات الأمن “الإسرائيلي” المكانية وهو ما استدعى تكوين نظرية جديدة هي نظرية “ذرائعية الحرب”، وتذهب هذه النظرية إلى أن “إسرائيل” لن تتمكن بأي شكل من الأشكال من الامتناع عن تبنّي استراتيجية الحرب الوقائية وتوجيه الضربات المسبقة في حال تَعرُّضها لتهديد عربي.

وأضافت “إسرائيل” إلى هذا التصور مفهوم حرب (الاختيار)، ومفهوم ذريعة الحرب كمبررات لشن حرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو أمنية مزدوجة المعايير. كما تم تطوير استراتيجية الردع النووي. لذا شهدت هذه الفترة عَقْد اتفاق التعاون الاستراتيجي بين “إسرائيل” والولايات المتحدة عام 1981 من ناحية والذي توافَق من ناحية أخرى مع صعود اليمين الأمريكي الذي كان يسعى إلى تصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، وقد شن في تلك الفترة الهجوم على العراق ثم لبنان ثم تونس، في حين أوكلت باقي المهام الأمنية لجهاز السياسة الخارجية وجهاز الاستخبارات “الإسرائيلية” اللذين قاما بجهودهما لإجهاض الكفاءات العسكرية العربية كما قاما بأنشطة مشبوهة في أعالي النيل والقرن الأفريقي وغيرها.

وقد حوّلت الانتفاضة (والمقاومة في الجنوب اللبناني) الأنظار عن مفهوم الحرب الخاطفة إذ طرحت إمكانية “حرب طويلة” تعتمد على الاحتكاك المباشر على الأرض التي يُفترض أنها لا شعب لها ولا تاريخ، ولذا فقد نظر الصهاينة إلى الانتفاضة باعتبارها حرب عصابات شعبية غير مسلحة تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية معادية “لإسرائيل”، هي فك الجيب الاستيطاني الصهيوني، الأمر الذي يعني طرح قضية شرعية الوجود وبحدة، بل إن الانتفاضة هددت البُعد الوظيفي.

إذ أنّ الجيش الصهيوني فقد هيمنته وأثبت عجزه عن خوض الحرب الطويلة وهي نقطة قد تكون فاصلة في حالة نشوب صراع مع العرب، وإذا كانت الدولة الوظيفية قد فقدت مقدرتها على قمع المواطنين الأصليين داخلها، فكيف سيمكنها أن تضطلع بوظائفها القتالية الأخرى ؟

  • الأمن القومي الإسرائيلي في التسعينيات:

تضافرت مجموعة من العوامل تاركة آثاراً مهمةً على مجمل الأوضاع في المنطقة العربية وعلى مقومات مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي”، حيث شهد عقد التسعينيات تحولات وتطورات غيّرت مفاهيم كثيرة كانت راسخة، وقلبت موازين كانت مستقرة، فقد اختفت الدولة السوفيتية من الخريطة السياسية العالمية، وأدى انتهاء الحرب الباردة إلى فقدان العديد من الدول العربية الفاعلة حليفها الاستراتيجي القديم، وإلى انعدام هامش المناورة أمامها.

الأمر الذي قلّص إلى حد بعيد قدرتها على شن حرب ضد “إسرائيل”، ولكنها أدت إلى تقوية الموقف “الإسرائيلي” في الميزان الاستراتيجي، فضلاً عن اتساع نطاق هجرة اليهود السوفييت وبخاصة من العلماء وذوي الكفاءات والخبرات، وتنامت العلاقات الروسية “الإسرائيلية” حتى توّجت بتوقيع اتفاق للتعاون الدفاعي والأمني في ديسمبر 1995. وفي ظل انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة في الساحة العالمية، تم توطيد التحالف الاستراتيجي الأمريكي- “الإسرائيلي”، وامتد إلى مجال أنظمة التسلح الكبرى التي تعتمد في الأساس على الثورة التكنولوجية.

كما أبرزت تلك التطورات العالمية علو شأن الاقتصاد والاتجاه نحو التكتلات الاقتصادية. ورغم ذلك فلم تعد الخيارات السياسة أمام “إسرائيل” بالاتساع الذي كانت عليه سابقاً، وهذا ما يفسر مقولة جيمس بيكر: “إن “إسرائيل” الكبرى فكرة ليست واقعية وليست ممكنة”، لأن تحقيق ذلك الهدف يتطلب أن يكون لدى “إسرائيل” قوة تمكنها من فرض سيطرتها على المنطقة دون دعم خارجي تتحمل الولايات المتحدة تكلفته السياسية والمالية وتتحمل معها مزيداً من العداء من قبل الشعوب العربية.

وعلى صعيد البيئة الإقليمية، أثبتت خبرة الحروب العربية- “الإسرائيلية” فشل الحرب في تأمين السلام “لإسرائيل” وعجزها عن توفير الأمن لها، في حين رأى عدد كبير من أعضاء المؤسسة الصهيونية أن التفاوض مع العرب بضمانات دولية قد يلبي الحاجة إلى الأمن وخصوصاً في ظل تزايد إدراكها أنها رغم تفوّقها العسكري لم تتمكن من فرض استسلام غير مشروط على العرب، بل على العكس فقد تمكّن العرب من تجاوز العديد من مضاعفات وآثار هذا التفوق، وأثبتت حرب 1973 وغزو لبنان 1982 محدودية القوة “الإسرائيلية” وعجزها.

ثم جاءت الانتفاضة، ويمكن القول بأن أقوى ضربة وجهت لنظرية الأمن “الإسرائيلي” هي الانتفاضة التي أصبح بعدها إنكار وجود الشعب الفلسطيني غير ممكن. ومن هنا كان الاعتراف بهم بوصفهم “الفلسطينيين”، كما في صيغة مدريد واتفاقية أوسلو. وبذلك لم تعد نظرية الأمن “الإسرائيلي” تختص بالأمن الخارجي.

إذ أصبح الداخل هو الآخر مصدر تهديد، وهو ما لا تستطيع “إسرائيل” حياله شيئاً فهي لا تستطيع أن تحرك جيوشها لقمع الانتفاضة. وبذلك أسقطت الانتفاضة الدور الوظيفي للجيش “الإسرائيلي”، ولو مؤقتاً، كما أنها غيّرت مفهوم الأمن لديها من كونه تهديداً خارجياً إلى كونه هاجساً أمنياً داخلياً لا يمكن السيطرة عليه مهما بلغت قوة “إسرائيل” العسكرية من بأس وشدة. ولعل هذا هو الذي دفع “الإسرائيليين” بالمطالبة بأن يتزامن توقيع اتفاق أوسلو مع إعلان الفلسطينيين وقف الانتفاضة، وهو ما لم ينجح أبداً.


وأدت حرب الخليج الثانية إلى إبراز عدد من الفجوات في مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي”، حيث أوضحت أولاً أن الجيش “الإسرائيلي” لا يمتلك قدرة ملائمة مضادة للتهديدات الصاروخية لاسيما التهديدات القادمة من بُعد. وأدى القصف الصاروخي العراقي – رغم محدودية تأثيره المادي- للعمق “الإسرائيلي” إلى انكشاف المؤخرة “الإسرائيلية” بما فيها من تجمعات سكانية كثيفة،

وازداد إدراك الخطر الصاروخي في ظل سعي دول المنطقة إلى امتلاك قدرة صاروخية بإمكانها إصابة أهداف استراتيجية “إسرائيلية”. كما أن حرب الخليج من ناحية ثانية أظهرت استحالة قيام الجيش “الإسرائيلي” بتنفيذ مفهومه الأمني التقليدي القائم على نقل الحرب بسرعة إلى أرض الخصم، وخصوصاً أن عنصر البُعْد الجغرافي قلّل كثيراً قدرة السلاح الجوي “الإسرائيلي” على توجيه ضربات عنيفة إلى العراق.

يُضاف إلى ذلك أن عملية تسوية الصراع العربي “الإسرائيلي” سوف تكون لها انعكاسات استراتيجية بارزة، حيث يفترض أن تقضي هذه العملية إلى قيام “إسرائيل” بتقديم تنازلات جغرافية إقليمية وهو ما يعني تآكل العمق الاستراتيجي، والتخلي عن مفهوم الحدود الآمنة بالمعنى الجغرافي، وإقامة تعاون اقتصادي يكفل إقامة شبكة علاقات اقتصادية متداخلة بين جميع دول المنطقة.

لقد أثبتت حرب الخليج انعدام جدوى دور “إسرائيل” القتالي. ثم مع سقوط الاتحاد السوفيتي وظهور النظام العالمي الجديد بدأ مفهوم الأمن القومي “الإسرائيلي” يتشكل حسب ألوان جديدة، هي مجرد تنويعات جديدة على النغمة الأساسية القديمة. فالثوابت ستظل كما هي (البقاء حسب الشروط الصهيونية وتوظيف الدولة في خدمة المصالح الغربية)، ولكنها ستكتسب أشكالاً جديدة مثل التعاون العسكري مع بعض الدول العربية والمحيطة بالعالم العربي. والعدو هنا لم يعُد النظم العربية الحاكمة ولا جيوشها، وإنما أشكال المقاومة الشعبية المختلفة.

والتقديرات الاستراتيجية “الإسرائيلية” بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتدمير القوة العسكرية العراقية تخلُص إلى التهوين من احتمال نشوب حرب عربية شاملة ضد “إسرائيل” على المستويين القصير والمتوسط (معد عدم استبعادها على المدى الطويل)، مع تحوّل الدول العربية نحو الشكل السلمي للصراع، وفي ظل التحالف الاستراتيجي الأمريكي “الإسرائيلي”.

ورغم انكماش التهديدات الفعلية واسعة النطاق الماثلة أمام “إسرائيل”، فإن هناك طائفة واسعة من التهديدات المحتملة والكامنة والمقصورة، فمن ناحية أولى طرأت نوعيات جديدة من التهديد العسكري ليس من اليسير إيجاد حلول عسكرية واضحة لها، بل أصبح من الصعب تشخيصها وما إذا كانت ذات طبيعة دفاعية أم هجومية. وأبرز مثال على ذلك، الانتفاضة الفلسطينية، وانتشار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية ووسائل إيصالها وبخاصة الصواريخ البالستية.

ومن ناحية ثانية أدى تطور العملية السلمية وانكماش التهديدات الخارجية واسعة النطاق إلى بدء تبلور “التهديد الداخلي” الناتج عن ضعف التماسك الاجتماعي والتكامل القومي فتفاقمت التناقضات الداخلية الناتجة عن طبيعة التركيب الاجتماعي/السياسي للدولة الصهيونية، وهو ما بلغ أخطر مراحله باغتيال رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين.

مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي وعملية التسوية السلمية:

تسود رؤية “إسرائيلية” أمنية لأبعاد السلام مع المحيط العربي، فحاجة “إسرائيل” للسلام ترتبط بالخوف متعدد المصادر (الهاجس الأمني)، لذلك توضح الترتيبات والمقترحات الأمنية التي تطرحها “إسرائيل” في المفاوضات والاتفاقات مع الدول العربية المحيطة أنها تعتمد استراتيجية تهدف إلى مواصلة أوسع قدر من السيطرة العسكرية على محيطها،

وهذا ما تعكسه بدقة المقولة “الإسرائيلية” “السلم “الإسرائيلي” العربي سيكون سلاماً مسلحاً”، وحديث نيتنياهو عن “السلام القائم على الأمن”، أي على قوة “إسرائيل” العسكرية، وهي تكشف عن تأثير الأيديولوجية الصهيونية وهيمنة الشأن الأمني على الشأن السياسي وأبعاد التسوية السياسية التي تتطلبها، وضمن ذلك رؤيتها للترتيبات المتعلقة بشؤون المياه والسكان والحدود والعلاقات الاقتصادية، ولذا فإن نظرة أحادية الجانب وصيغاً لترتيبات غير متكافئة تسيطر على أطروحات “إسرائيل” مع جوارها العرب كجزء من تنظيم شروط “اندماجها” الإقليمي في مرحلة ما بعد التسوية، وهو ما يتمثل في:

  1. احتلال الترتيبات الأمنية والعسكرية حيزاً مهماً من اتفاق أوسلو واتفاقات القاهرة اللاحقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، والإصرار على تضمين الاتفاقات مع الدول العربية بنوداً تفرض على الجانب العربي مناطق منزوعة السلاح واسعة نسبياً، وإدخال تعديلات على الحدود لمصلحة توسيع “إسرائيل”، وإعادة النظر في بنية الجيوش العربية وتخفيض أحجامها، وتقليص قدراتها الهجومية.
  2. وجود توجّه واضح لإقامة نظام أمني “إسرائيلي”/أردني/فلسطيني يرتبط لاحقاً،عبر “إسرائيل”بنظام أمني.
  3. “إسرائيلي”/سوري/لبناني وذلك لتحويل أي انسحاب تقوم به “إسرائيل” من أية أراضي عربية محتلة إلى رصيد أمني لها.
  4. تحويل مرحلة الحكم الذاتي الفلسطيني المنصوص عليها في اتفاق أوسلو إلى مرحلة اختبارية لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، يكون مقياسها أمن مستوطنات “إسرائيل” وجيشها داخل مناطق الحكم الذاتي والمناطق المحتلة.
  5. النظر إلى التجمعات الفلسطينية في الدول العربية وفي “إسرائيل” نفسها من منظور أمني، وتشترط أن تقبل الدول العربية التي تستضيفهم الموافقة على مبدأ توطينهم.
  6. النظر إلى الأردن من زاوية الوظائف الأمنية التي يمكن أن يؤديها كعازل بين “إسرائيل” وبين الدول العربية المجاورة للأردن.
  7. اعتماد مفهوم الأمن اللامتكافئ في:

 اعتماد مقولة أن التفوق العسكري “الإسرائيلي” ومقدرة “إسرائيل” على الردع هو الذي أرغم الدول العربية على التفاوض معها، وأن الحفاظ على هذا التفوق أحد ضمانات السلام.

 استخدام العلاقات المتميزة التي تربط “إسرائيل” بالولايات المتحدة كدعامة من دعائم أمنها، أي قوة ردع مساندة لها في مواجهة محيطها العربي.

 اعتبار أن احتفاظ “إسرائيل” بتفوقها العسكري النوعي في مجال الأسلحة التقليدية والأسلحة غير التقليدية لفترة مفتوحة زمنياً أمر لا بديل عنه، وبالتالي البقاء خارج أية معاهدات قد تضع قيوداً على تسلّحها، وضمن ذلك معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.

 اعتبار أن وجود حالة عدم استقرار في الشرق الأوسط (والتي يجري توسيع حدودها لتشمل، إضافة للدول العربية، كلاً من إيران ودول آسيا الوسطى، وباكستان) يشكل تهديداً ممكناً لأمن دولة “إسرائيل” ومناقضاً لأية إجراءات يمكن أن تُتخذ للحد من الأسلحة.

 بناء الثقة بين الطرفين العربي “والإسرائيلي”، يعني الإجراءات التي يقوم به الطرف العربي لكبح جماح المقاومة الفلسطينية، بل والقضاء عليها.

مفهوم المنطقة العازل منزوعة السلاح أو شبه المنزوعة:

تبلور هذا المفهوم كنتيجة لحرب 1973، وعلى أساسه تمت ترتيبات فصل القوات المصرية “الإسرائيلية” ثم اتفاق السلام سنة 1979. لكن مفهوم “المنطقة العازلة منزوعة السلاح” كبديل عن مفهوم العمق الاستراتيجي بقي – من منظور الأمن “الإسرائيلي”- قابلاً للتطبيق على أوضاع الجبهة المصرية- “الإسرائيلية” فقط، وغير قابل للتطبيق على الجبهات الأخرى بدون إدخال ترتيبات إضافية. وإزاء موضوع العمق الاستراتيجي برزت في “إسرائيل” مدرستان:

تعتبر المدرسة الأولى – التي تسود أوساط حزب العمل واليسار الصهيوني- أن نزع سلاح الضفة الغربية وقطاع غزة أمر حيوي في أية تسوية سياسية، وتُميّز بين مفهوم الحدود السياسية (حدود “دولة إسرائيل”) والحدود الأمنية. على العكس تصر المدرسة الثانية، التي تسود أوساط الليكود وأحزاب اليمين، على أن إبقاء السيطرة العسكرية (المباشرة) على عموم المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 لا بديل عنه، وترفض الفصل بين مفهومي السيادة والسيطرة العسكرية. وتفترض المدرستان كلتاهما مواصلة سيطرة “إسرائيل” على السفوح الجبلية للضفة الغربية وغور الأردن، وتفترض المدرسة الأولى أن نزع سلاح الضفة الفلسطينية يفترض استمرار سيطرة “إسرائيل” على المعابر والطرق.

تأكيد مفهوم الحرب الاختيارية كبديل للحرب الدفاعية أو الإجهاضية، ويُقصد بها تلك الحرب التي تخوضها “إسرائيل” بمحض اختيارها وبدافع من رغبتها في تحقيق مصالحها القومية كما تراها وتحددها، وهي حرب تستجيب لتطور دور “إسرائيل” في الشرق الأوسط، من دولة تبحث عن الاعتراف والقبول إلى دولة تؤكد دورها السياسي والاستراتيجي في المنطقة.

 10- يمثل البُعد النووي في الأمن “الإسرائيلي” أحد المظاهر المهمة لسيطرة هاجس الأمن السرمدي الذي فرض ضرورة انفراد “إسرائيل” بامتلاك مقدرتها الخاصة بصرف النظر عن الارتباط العميق بدولة عظمى توفّر له المساندة السياسية والعسكرية.

والبعد النووي احتل موقعاً خاصاً في الفكر الاستراتيجي الشامل للساسة “الإسرائيليين” انطلاقاً من اعتباره مظلة أمنية مستقلة لا تعتمد على محددات وعوامل حاكمة خارجية. ومن هنا ظهور ما يُسمّى “عقيدة بيغين” التي تعني منع دول الشرق الأوسط من التسلح بأسلحة نووية ومن امتلاك التكنولوجيا النووية. وكانت عملية قصف المفاعل النووي العراقي 1981 فاتحة تطبيقات تلك العقيدة.

وموقع الخيار النووي في المنظومة الأمنية لم يكن مرتبطاً بركيزة إضعاف الخصوم، وإنما المحافظة على البقاء، الأمر الذي يتضح من كونه ذخيرة استراتيجية غير مطروحة للاستخدام المباشر الفعلي إلا في حالات خاصة جداً هي على وجه الحصر تعرّض الدولة لتهديد حقيقي بالفناء، فاستخدامه الفعلي لن يكون إلا بعد اختلال الميزان التقليدي لصالح العرب ونشوب حرب شاملة تتعرض فيه الدولة لتهديد فعلي بإنهاء وجودها أو ضرب مواقع حيوية فيها، فالسلاح النووي هو الملاذ الأخير.

أما الاستخدام الفعلي للبُعْد النووي فكان الاستخدام السياسي سواء من خلال الضغط النفسي على الدول العربية بفرْض ستار من الغموض حول حدود طبيعة الخيار النووي يؤدي إلى تحسين وضع “إسرائيل” التفاوضي أو من خلال عملية الابتزاز التي تقوم بها مع الولايات المتحدة لتقديم مساعدات اقتصادية وسياسية وعسكرية ضخمة تغنيها عن اللجوء للقوة النووية.


المصدر

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى