هل تموت الثورات؟
كتب هنري كسينجر وزيرُ الخارجية الأمريكي أنه في حديث له مع شو إن لاي رئيس الوزراء الصيني، سأله عن تقديره لتأثير الثورة الفرنسية في التاريخ الحديث.
وبعد برهة من التأمل أجابه بأنَّ الوقت ما زال مبكراً للتقييم، لأن أفكار الثورة الفرنسية ما زالت تتفاعل مع مجريات الأحداث. وعلَّق كسينجر بأنَّ هذة الإجابة تعبير عن الحذر والحكمة الصينية وعدم التسرع في إبداء الرأي.
تردّدُ شو إن لاي في تقييم دور الثورة الفرنسية (عام 1789) بالرغم من مرور قرنين على نشوبها، يعود إلى فهمه العميق لمعنى ظاهرة الثورة. فالثورة هي حدث استثنائي، ذلك أنَّ سُنَّة الحياة هي التطور وإحداث التغيير تدريجياً وبصورةٍ تراكميّة.
وعندما تعجز المؤسسات الاجتماعية والسياسية عن الاستجابة للتغيير، وتنسدُّ قنوات اتصالها مع المطالب الجديدة للقوى الاجتماعية، وتفشل في التعبير عن توقعاتها، تنشأ البيئة الموضوعية لحدوث الثورة.
والثورة أعمق من مجرد تغيير شكل النظام السياسي أو الاقتصادي. وبالرغم من كثرة الوقائع والأحداث التي تلقِّبها وسائل الإعلام في البلدان العربية – وغيرها – بالثورات، وبالرغم من حرص شاغلي السلطة الجدد على وصف الأحداث التي أوصلتهم إلى الحكم بالثورات، فقليلة هي تلك الأحداث التي ينطبق عليها وصف الثورة بالمعنى العلمي والتاريخي.
وإذا كانت الثورات تجد مبرراتها في الظروف المتردية التي أدت إلى حدوثها، فإن شرعيتها تنبع من كونها تحولات مفصلية في مسارات مجتمعاتها، ومن مشاريعها لنهضتها الشاملة التي تشمل: القوانين والنظم والمؤسسات والقيم والثقافة.
كما تنبع شرعيتها من قبول المواطنين وتأييدهم لها في داخل الدول التي قامت فيها، وفي تأثيراتها الخارجية إقليمياً ودولياً، فالثورات هي علامات فارقة على التحوُّل من حال إلى آخر.
(2)
وأتوقف أمام البعد الخاص بالقيم والمبادئ والثقافة في فهم معنى الثورة، فمن الطبيعي أن تتغيير القوانين والنظم والمؤسسات التي أقامها النظام الثوري وذلك مع تغيير الظروف والحاجات، ولكن ما يبقى هو ما تمثله الثورة من قيم ومبادئ ترسخت في وجدان الشعوب، وأصبحت جزءاً من نسيجها الثقافي وضميرها الوطني والقومي.
وتندرج ثورة 23 تموز/يوليو 1952 ضمن نمط الثورات التي لم يقتصر تأثيرها على المجتمع الذي قامت فيه وإنما امتد ليشمل إطارها الإقليمي والدولي، فهي ثورة متعددة الجوانب والأبعاد:
– هي ثورة سياسية غيَّرت شكل نظام الحكم في مصر من الملكية إلى الجمهورية، وأكدت مبدأ المواطنة والمساواة بين المواطنين كأساس لبناء الدولة الوطنية الحديثة، وكان التعبير الأثير الذي خاطب به الرئيس جمال عبد الناصر الشعب هو «أيها الأخوة المواطنون».
– وهي ثورة اجتماعية نقلت سلطة الحكم من طبقة كبار ملّاك الأرض الزراعية والبرجوازية الكبيرة إلى الطبقة الوسطى، واتبعت سياسات تحقيق العدالة الاجتماعية وما سمي وقتذاك بتذويب الفوارق بين الطبقات.
– وهي ثورة وطنية ضد الاستعمار والاحتلال رفضت الانخراط في الأحلاف مع الدول الغربية الكبرى، ولم تقبل سياسات الإملاء من الخارج، وحرصت على امتلاك حرية القرار الوطني داخلياً وخارجياً، فكانت رائدة ومؤسسة لسياسات الحياد الإيجابي وعدم الانحياز.
– وهي ثورة قومية أدركت مبكراً حقيقة أن مصر جزء من وطن عربي أكبر، فأكدت عروبتها في الفكر والممارسة، ودعمت حركات النضال العربي ضد الاستعمار والنفوذ الأجنبي، واشتبكت في صراعات ممتدة مع القوى المهيمنة في العالم من جراء ذلك.
– وهي ثورة تحررية عالمثالثية امتد دورها وتأثيرها لدعم حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وأصبح اسم عبد الناصر رمزاً لمكافحة الاستعمار والنفوذ الأجنبي.
للاطلاع على باقي الدراسة من موقع؛ مركز دراسات الوحدة العربية.