المسرح وسؤال المصير: جدلية «الوجود والعدم» في ظل متغيرات العصر
مسرح ما بعد الأنسانية - Le theatre posthumans
نحن في عصر انهارت فيه قدرة الإنسان وبدأت في الاضمحلال، ليغيب فعل الإرادة؟ حينها لن يكون للإنسانية قيمة واعتبار وجودي.
إنه عصر السرعة والتكنولوجيا الحديثة والهواتف الذكية والسيارات الناطقة، سوف يعيش فيه الإنسان موته الزمني تدريجيا، يفقد دوره الاجتماعي، يعيش معدّلا لا قدرة له للتفكير، مسيّرا ومبرمجا بأسلوب أشبه بتجربة “بافلوف” المسماة بالارتباط الشرطي، إنه زمن استهلاك التكنولوجيا بشراهة، أو بالأحرى زمن نفاذ قوة الإنسان.
يقول غاستون باشلار “إن الولادة والولادة من جديد والبداية والبداية من جديد هي بالنسبة للجوهر الفردي دائما نفس العمل الذي وقع القيام به، إلا أن المناسبات ليست دائما واحدة وجميع الإعادات ليست متزامنة وجميع اللحظات ليست مستعملة وموصولة بنفس الإيقاعات، وبما أن المناسبات ليست سوى ظلال الظروف فإن كل قوة تبقى داخل اللحظات التي تولّد من جديد الكائن وتعيد نفس المهمة التي إبتدأت فيها وفي هذه الإعادات يبرز أمر جديد هام يتشكل في مظهر الحرية وهكذا تستطيع العادة بفضل تجدد الزمن المنقطع أن تصبح تقدما بالمعنى الكامل للكلمة”[1].
من خلال القول السابق لفيلسوف الصورة غاستون باشلار نلحظ أنه أراد القول أن الحركة في الزمن ماهي إلا إعادات لما كان وأن الحاضر هو ضلال للماضي بشكل جديد ، لهذا كان باشلار من أكثر المناصرين لفكرة الربط بين العلم والفن أو بالاحرى دعوة صريحة للتقارب بينهما الفن بما هو صورة تعتمد الخيال والعلم بماهو تصوّر يعتمد العقل غير أنه في ذات الوقت يؤكد على ضرورة “التمايز بينهما على أساس أن تلاقيهما معا لا يعني التطابق فلا يتنحى أحدهما عن ماهيته الخاصة ليتطابق مع الآخر”[2].
هذه العلاقة الجدلية بين الفن والعقل والزمن كانت بابا مفتوحا للبحث عن ظواهر جديدة للفن، أو لنقل أشكالا وأنماط فنية قد تكون مختلفة عمّا سبقها، وهذه الانماط الجديدة أصبحت تعبّر عن واقع زمني ومكاني جديد يتأثر بكل ما يحيط به من عوامل خارجية، خاصة الحراك السياسي والمتغيرات الاقتصادية، ولكل مرحلة جديدة أنماطها الفنية.
لهذا تعرّض الفن الى تغييرات عديدة منذ نشأته بسبب هذه الحركة الزمنية، وهي تغيّرات لامست كل مظاهر الوجود، وفي اطار هذه الجدلية بالذات يرى فرنان برودال “أن الزمن الاجتماعي، اي زمن البشر يقسّم الى أزمنة متعددة متنافرة ومكدّسة يمكن تصنيفها بالاجمال ضمن فئات ثلاث: الفترة القصيرة يقاس بالساعات أو بالأيام، والفترة المتوسطة التي تقاس بعشرات السنين، والفترة الطويلة التي تقاس بمئات أو بآلاف السنين”[3].
من هنا بدأ إستعمال البادئة “مابعد” حتى بات شائعا في عدة مجالات، ولم يعد استعمالها حكرا على المجالين الفلسفي والعلمي، فهي تعبير عن كل نظرية فكرية تظهر على أنقاض فكرة أخرى، أو أنها إمتداد لنظرية أو علم ما، فمنذ أكثر من قرن تواترت وتوالت مصطلحات من قبيل مابعد الحداثة، ما بعد الكوليانية، مابعد الإستعمار، ما بعد الدولة، ما بعد الفلسفة، ما بعد الأخلاق، ما بعد النسوية…إلخ.
فكرة المابعديات إذا ما بحثنا عن معناها الإصطلاحي فهي تدل على الانتقال والتجاوز وقد يكون هذا التجاوز زمنيا أو مكانيا كما يمكن أن يكون تجاوز فكري، دلالة التجاوز والإنتقال تحدث بفعل الانسان نفسه، أي أن الإنسان هو الذي يحدّد كيفية الانتقال وزمن وقوعه، غير أننا قد نقع في حيرة أمام بعض المصطلحات المابعدية التي يتشابك فيها المعنى والدلالة اللغوية للمصطلح، فمن أكثر المصطلحات المابعدية تعقيدا أو لنقل بتحفظ من أكثرها “قساوة وخطورة” مصطلح مابعد الانسانية.
قد يبدو هذا المصطلح معقدا بعض الشيء فهو محدث من حيث الممارسة قديم من حيث الأفكار، رغم أن الحديث عنه ظهر لأول مرة سنة 1999 حين أطلقه الفيلسوف الألماني بيتر سلوتيردايك على تيار فكري يدرس علاقة الإنسان بالتطور التكنولوجي ومدى قدرة البشرية على مجارات التكنولوجيا الحديثة بما يسمح الى إعادة النظر في تركيبة الانسان وعاداته، وهذا ما جعل سلوتيردايك يتحدث عن مصطلح الإنسانية الانتقالية Transhumanism وهي المرحلة التي تمهد لمرحلة مابعد الانسانية Posthumanism.
إلا أن تاريخ ظهور مصطلح ما بعد الإنسانية Posthumans على ساحة النقاش له ارتباط وثيق بالابحاث العلمية التي ظهرت في خمسينات القرن الماضي عندما اكتشف جيمس واتسون وفرنسيس كريك البنية الجزيئية للحمض النووي {DNA}، وأصبحت هناك دعوات تقول أن فرصة إيجاد التحوير الجيني للبشرية بات في المتناول وأن الإنسانية عليها أن تتغير، بعد هذه الدعوات المتكررة وجدت البشرية نفسها أمام عدة مصطلحات تتطابق في المعنى والدلالة مع مصطلح ما بعد الانسانية أبرزها، بعد مابعد الحداثة والانسانية الرقمية والتي بدورها مهدت لظهور اشهر المصطلحات العلمية “الذكاء الإصطناعي، ومن هنا تتشكل أول حلقات الإنسانية الانتقالية.
مصطلح مابعد الانسانية أو ما يطلق عليه في بعض الدراسات بـ H+ هو تعبير عن إيجاد بديل للانسان هذا الكائن الذي خرّت قدراته وقد لا تتجاوب قواه مع متطلبات العصر القادم، لهذا إكتسحت هذه الفكرة المابعدية كافة الميادين الصناعية والتربوية وحتى الفنية.
إن إكتمال هذا المصطلح على ارض الواقع في شكله النهائي لم يتم بعد، فهو أشبه بقنبلة موقوتة تنتظر لحظة الإنفجار حتى تكتسح كل الميادين والمجالات، ليغيب الإنسان لحظات أو سنوات وحتى عقود، أو أن يغيب الإنسان نهائيا، فهل هي ظاهرة كلامية عابرة أم نظام علمي متكامل ؟ فإذا كان الانسان محورا للوجود والكون فمن سيعوّض الانسان عندما يغيب نهائيا ؟ هل نحن أمام مصطلح فلسفي أم إجتماعي أم فني أم أنه مصطلح علمي بحت؟ وأي معنى يحمله هذا المصطلح الغريب ؟
- أولا : مفهوم الانسانية بين الفلسفة والعلم
تعددت التفسيرات والمفاهيم المتعلقة بتعريف الإنسان، وهذا الاختلاف يظهر بتعدد مجالات البحث فالإنسان في الأنتروبولوجيا يختلف عن الانسان في علم الاجتماع والفلسفة وغيرهما من المجالات الاخرى، كما أن البحث في مفهوم الانسان يطرح إشكالا في كيفية البحث هل يتجلى تعريف الانسان من خلال وجوده كفرد أم من خلال تشكيله للمجموعة وهنا يُفتح باب ثان حول مفهوم المجتمع، وقد نظر هيدجير في كتابه الوجود والزمان أن الإنسان موجود في عالم يحتوي عناصر بشرية أخرى هي التي تكوّن النسيج الإجتماعي، ولا يمكن النظر الى الانسان الا في علاقته بذلك النسيج.
لهذا فإن البحث في مفهوم الانسان قديم قدم الانسانية ذاتها، فإيجاد تعريف للإنسانية أدى بالضرورة الى البحث في الانسان ضمن جملة من العلاقات والتفاعلات التي ينشئها مع محيطه الخارجي وأيضا ضمن جملة من المقارنات بينه وبين العناصر الأخرى التي تشكّل هذا المحيط، ومن هنا تأسّس علم متكامل المعالم لدراسة الإنسان هو “الانتروبولوجيا أو ما يسمى بعلم الإنسان”.
تكمن صعوبة تحديد تفسير نهائي للانسان كونه موضوعا قديم قدم التاريخ ومتجذّر في الحاضر ومتجاوز للمستقبل “لأن كل تفكير بشأن الانسان يخلُص حتما الى التزام عملي، سواء على الصعيد الفردي أم الإجتماعي، ولذا فهو بالغ الأهمية والصعوبة لكون الانسان كائنا تاريخيا، لا تحدّه أية من تبدياته الآنية والمكانية، ولكونه في الوقت ذاته وجودا أصيلا مبدعا، ويقتضي من الانسان الفرد، الذي يبحث عن حقيقته أن يُلّم بجذوره التاريخية وبأبعاده الاجتماعية”[4].
إن إيجاد تعريف متكامل للإنسان هو امر ليس بالهين ولا بالسهل فهو مبحث للفلاسفة والعلماء منذ الأزل، يرى أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي أن الإنسانية هي “الحياة والنطق والموت” ويقارنها بالملائكية “الحياة والنطق” والبهيمية* “الحياة والموت”[5]، في حين يعرّفه إخوان الصفا بانها “مجموع من جوهرين، أحدهما هذا الجسد الجسماني، والآخر هو النفس الروحانية”[6]، وهذا التعريف للإنسان نظر اليه أفلاطون من قبل، وفي نفس مسار هذه التعريفات يرى أرسطو أن “الانسان هو حيوان عاقل” فالانسان يتميز عن الحيوان بعقلانيته وهي الصفة الوحيدة التي تميّز الإنسان.
رغم ان ماهية الانسان قديمة قدم الانسان نفسه فإن التصور العلمي للانسان لم يظهر سوى في القرن التاسع عشر “يتناول هذا التصور الظواهر البيولوجية، العاطفية، العقلية، الإجتماعية، والخلقية، في إطار نظرية التطور الارتقائي، حيث يحتل الانسان المرتبة العليا لبروز الروح فيه الى جانب امكاناته المحدودة بتنظيمه العصبي”[7]،
إن تعريف الانسان علميا تأسس على الاختلاف بينه وبين الكائنات الحية الأخرى، هذه التساؤلات المتكرّرة عن الانسان وعن طبيعته المادية والروحية وفي علاقته بالموجودات وبكل ما يحيط به وفي جدليته المستمرة مع الزمن والتاريخ أدت بصفة عفوية الى ظهور مصطلح “ما بعد الإنسانية”.
- ثانيا : المسرح وسؤال المصير
من أكثر الأسئلة حول المسرح طرحا عبر العصور «لماذا المسرح؟» لكن دائما ما كانت الأجوبة حاضرة لأن المسرح “كان يلعب دوره في قلب المجتمع لحفظ سلامته الأخلاقية، والشد بالمجتمع نحو المثل السامية والآفاق المستمرة الانفتاح جماليا وانسانيا وكان أول تعبير كلامي يجمع حشدا للتأمل في موضوع يهمهم حاضرا ومستقبلا هكذا كان دوره في الماضي البعيد”[8]، ولكن اليوم تغيرت الظروف وتراجع المسرح الى الوراء قليلا فلم يعد مؤثرا كما السابق فقد إحتلت وسائل الاتصال الجماهيري مكانته بسرعة.
- «علاقة المتفرج بالممثل عند أخلبكوﭫ»
«المسرح في منتصف الطريق الى السقوط» هي عبارة قالها المخرج المسرحي البولندي ليون شيللر ولم يقصد بها نظرة سلبية لمستقبل المسرح بقدر ما كان يحُثّ بها اقرانه من المسرحيين الى البحث والتجديد في روح المسرح، هذا الفن القديم الذي شهد تغييرات جذرية في مسيرته منذ الإغريق الأوائل حين كان المسرح مرتبطا بروح الفلسفة في اليونان القديمة مرورا بأهواء القياصرة في روما ونرجسية الكنيسة في القرون الوسطى وابدعات شكسبير وغيرها من المحطّات،
حين كان الممثل يحاول تلبية مطامع المشاهد وشهواته المتكرّرة، المشاهد الذي يبتغي مشاهدة ممثل “تفترسه الشخصية التي يمثلها، عليه أن يبدو ملتهبا في حريق فعلي من الانفعال، ويجب عليه أن يغلي مهما كلّفه ذلك، عليه أن يحترق وينتشر في آن معا”[9].
وهذا ما أسماه رولان بارت بالممثل البرجوازي، الذي لا يمكن أن يرضى عنه المشاهد إن لم يراه يتعذب على الركح جسديا ونفسيا، ينتفض على الارضية، يجوب الركح يمينا ويسارا، يصيح وينفعل ويبكي حتى يشاهده يلهث ويتصبب عرقا وكأنه يشاهد مصارعا أو عداءا في الالعاب الاولمبية، حينها فقط يقف المشاهد ليصفق بحرارة.
هذه المسيرة الجدلية للفن المسرحي أوصلته الى فترة زمنية أجبرت النقاد والمؤرخين وكل من له علاقة بالفن المسرحي على طرح مسألة “المصير”، خصوصا مع بروز منافسة جديدة على جذب المشاهدين حينما أكتشفت السينما مع اواخر القرن التاسع عشر كفن حديث قوامه الفعل والحركة يقدّم ما يقدّمه المسرح مع إظافات أخرى أستثمرت فيها الآلة ومن ثم التكنولوجيا في صناعة الصورة الفنية.
ظهرت السينما، التي باتت تختلف تمام الاختلاف عن المسرح رغم أن هذا الاخير كان عاملا أساسيا لظهور السينما فمقاييس التمثيل في السينما لم تعد نفسها في المسرح إن التحكم في الحركة والانفعال إظافة الى بعض المقاييس التي يجب أن تتوفر في الممثل من الطول ولون البشرة ولون الشعر وما الى ذلك من المقاييس الاخرى التي تؤثث للصورة، كل هذه الاختلافات بين المسرح والسينما حاولت ترسيخ القطيعة بينهما رغم أنّ الخبرة المسرحية كانت شرطا أساسيا للنجاح في السينما.
كانت السينما في بداياتها مجردة صناعة لقوالب جاهزة تمثيل ساذج وباهت، لم يعتمدوا في تشكيل الصورة سوى على الجانب الجسماني فقد “بالغ كثير من الممثلين ـ للأسف ـ في تكنيكهم الجسدي أكثر مما قاربوا تجاربهم العاطفية لدقيقة واحدة خلال تحضيرهم لأدوارهم”[10]،
عكس صنّاع الفن المسرحي الذي كان إعتمادهم على الجانب النفسي مع مراعاة الجانب الجسماني، غير أن مع تطور السينما وبداية الكشف عن عدة مغالطات تقدّمها السينما جعلتها بعيدة كل البعد عن الواقع فقد إكتشف القائمون على الفعل السينمائي “أن مجموعة التعبيرات الجاهزة لمواقف وأوضاع أمر يحدّ الابداع. كانت النتيجة النصيحة التي توجّه للممثلين كي يجسدوا الشخصية، أن يفكروا، ولكن ألا يؤدوا عواطفهم. ولكن عين الكاميرا يمكن ان تكون أسوأ ناقد، إذ تكشف كل ضعف للذين يؤدون أمامها. إن الكاميرا تقدم بموضوعية، وبلا رحمة، أفضل وأسوأ ما يمكن أن يمنحه الممثل”[11].
تطورت السينما جماليا وتقنيا وبدأ السعي لإستقطاب جمهور أوسع وأضخم، في حين أن المسرح كان تطوره والبحث عن رؤى فنية جديدة لا يتعدى بضع المحاولات منذ القرن الماضي، هذا التقدم البطيء جدا للفن المسرحي رافقه تطور سريع ونظرات استشرافية للفن السينمائي حيث تقول الكاتبة بنيلوبي جيلات في كتابها “البهاليل غير المقدسين” “إن الثقل الذي تمنحه السينما للتفصيل الحسي واحد من أعظم قدراتها، بحيث يميّزها بقوة عن المسرح”.
أغلب المحاولات المسرحية كانت أبرزها على الاطلاق نظرية المخرج والكاتب المسرحي الالماني برتولد برشت الذي أراد القطع ما المسرح الكلاسيكي شكلا ومضمونا وأصبح يقدم مسرحا أشبه بالتقطيع السينمائي حتى أن بعضا من أعماله المسرحية كانت في شكل لوحات وأخرى في فصل واحد، نذكر أيضا عدة محاولات أخرى إنبت رؤاها على علاقة الممثل بالمتفرج .
حيث كانت الغاية منها تقريب المشاهد للممثل فكانت بدايات هذه الرؤية الفنية مع الممثل والمخرج الروسي «نيكولاي بافلوفيتش أخلبكوف» (1900/1967) الذي يعتبر أن المسرح هو صورة بصرية بالأساس “واعتبر أخلبكوف الذاتية هي المصدر لكل الصور والنماذج والشخصيات الفنية في العرض المسرحي. فالمسرحية حية ليست صورة كربونية ممسوخة من الحياة وليست تفسير الحياة أو توضيحها”[12].
لهذا توصل أخلبكوف الى ما أسماه الإتحادية “إتحاد كل من المشاهد والممثل عند نقطة نفسية معينة، تضم وتحوي كل معاني الفهم والإدراك والاستمتاع والاقتناع، تعتبر نقطة الاتحادية هي لحظة الالتقاء الحسي والوجداني بين مشاهد وممثل”[13].
يبدو أن التفكير في علاقة الممثل بالمشاهد عند أخلبكوف لم يكن اعتباطيا بل على الأرجح هي محاولة لإحياء العلاقة بينها فالتفكير في هذا الموضوع بالذات مع بداية القرن العشرين ومع تزامن ظهور السينما هو دليل على أن أخلبكوف كان يفكر ويحاول دراسة الروابط النفسية بين الممثل والمشاهد الذي سرقته السينما أو بمعنى آخر افتكته من المسرح.
السينما التي كانت تحرّك المشاهد وتنقله من مكان إلى آخر عبر عدسة الكاميرا وهو لا يشعر بتدخلها، لهذا كان هدف اخلبكوف “إبعاد أحاسيس الجماهير بأنها تشاهد عرضا مسرحيا وتمثيلا وممثلين، ليتعرفوا ـ أثناء العرض ــ على أناس مثلهم تماما، يتحدثون ويتحركون ويأملون ويضجرون”[14] وبعد دراسات وبحث وتجربة عملية ونظرية قدم أخلبكوف تجربته «الجمهور فوق الركح».
حيث وضع على الركح مجموعة من صفوف المتفرجين ليتابعوا عن قرب العرض المسرحي “يمر هذا المشاهد على المسرح بين المناظر التي أُعدّت قبلا فيشعر بأنه ممثل هو الآخر، ويدخل نفسيا، ومنطقيا الى عالم المسرح الخفي الساحر”[15].
تنتهي تجربة الجمهور فوق الركح مع بداية أحداث المسرحية حينها يشعر المتفرج بأنه ضيف على الأحداث حيث سيعمل عقله لتحليل الأحداث والديكور والإضاءة ولنجاح هذه العلاقة ارتأى اخلبكوف الأسلوب الواقعي في التمثيل البعيد كل البعد عن الكليشيات المعهودة في المسرح وبهذا كان اقرب الدراسات النظرية لأخلبكوف هي نظرية مواطنه ستانسلافسكي.
- الكتابة المسرحية «أزمة نص أم أزمة إخراج»
العرض المسرحي هو كم هائل من العلامات البصرية “الضوئية واللونية والحركية والإيمائية وأخرى لغوية لفضية سمعية وموسيقية، كلها تأتي من أجل إمتاع وإقناع المتفرج ومن ثم التأثير فيه، لهذا لا يمكن الإستغناء عن أي عنصر من العناصر المسرحية إلا إذا كان العرض يتطلب ذلك، من هنا تأتي أهمية النص في الفن المسرحي للإبلاغ عن أفكار العرض،
لكن للأسف الشديد اغلب العروض الحديثة انبت على افكار سابقة ولا تزال النصوص تقارع الزمن الفائت حتى أن جان بيار رنجير في كتابه قراءة المسرح المعاصر قال “لا يزال المسرح المعاصر موسوما بطليعة الخمسينات لما لهذه الحركة من تأثير جذري” في إشارة الى مسرح العبث الذي تطوّر على يد أدموف وبيكيت ويونسكو.
عند المتابعة والبحث بعمق في الواقع المسرحي، خصوصا في العقد الأخير نلاحظ بشدة أننا أمام أزمة حقيقية تشكلت في عدة نقاط إلا أن أبرزها على الإطلاق غياب التجديد من حيث النصوص المسرحية، ففي الغرب الاوروبي أو في الشرق الاسوي باتت أغلب العروض عروضا راقصة وأخرى تكتسحها الموسيقى إكتساحا وأخرى يغلب عليها طابع الميم والبانتوميم، أما في مسرحنا العربي
فأغلب العروض تعتمد نصوصا هي إجترار للسابق إن لم يكن اعادة حرفية لنصوص يونانية وأخرى رومانية أو نصوص من المسرح الانجليزي أو الفرنسي وأحيانا إقتباسات أدبية ودبلجات حرفية باللهجات المحلية، مخرج عربي يأتي بنص عالمي في مسرح العبث أو في الكوميديا السوداء يغير في العنوان بضع حروف مع دبلجة النص باللهجة العامية، هذا دون أن ننسى أن الغالبية ممن يقدمون تجاربهم المسرحية لا يخرجون عن بوتقة التجارب الغربية لقبل.
وبعد خمسينات القرن الماضي خصوصا مسرح العبث ومسرح برشت التي إمتزج فيها الجانب الأدبي بروح المسرح وأنجبت كتاب مسرحيين من أمثال سعد الله ونوس، عزالدين المدني، وتوفيق الحكيم، هذه التجارب وإن كانت ناضجة في بعدها الأدبي فإنها على النقيض من ذلك في بعدها الفني، فقلة هي النصوص التي ترجمت على الركح فكأنها كتبت لتقرأ إلا بعضا من المحاولات.
يبدو أن هذه الأزمة الحقيقية من حيث النصوص المسرحية ترتكز أساسا على عاملين إثنين:
أولهما : تتجلى في الجدلية القائمة بين الكاتب والمخرج والتي ظهرت معالمها مع بداية التساؤل هل أن المؤلف المسرحي قبل أو بعد المخرج؟ هذه الجدلية كانت سببا لإندثار المعنى الحقيقي لكلمة مؤلف مسرحي حتى أن جان فرنسوا مارمونتيل الصحفي والكاتب المسرحي الفرنسي يقول أن الأنموذج الأمثل في الكتاب المسرحيين هو شكسبير، فالكاتب المسرحي قديما لم يكن “سوى مورد بسيط للنصوص. ولم يصبح بحق شخصا معروفا صاحب دور أساسي في إعداد العرض إلا مع ب.كورناي”[16]
ولكن رغم هذه النقاط السلبية لا نستثني محاولات جادة في الكتابة الدرامية والمسرحية ولكنها للأسف قليلة جدا.
يبدو أيضا أننا أمام شح في التجارب المسرحية الفعلية، حتى أن المهرجانات التي يطلق عليها بمهرجانات المسرح التجريبي لم تعد تقدم مسرحا تجريبيا بقدر ما تقدم لنا عروضا مسرحية لإقتباسات ومحاكاة لتجارب ونظريات سابقة
- ثالثا : المسرح ومتغيرات العصر
قد يُلاحظُ أننا تعمدنا ربط المسرح بالسينما أو المقارنة بينهما في بعض الأحيان، حاولنا القيام بذلك نظرا للعلاقة التي تجمع المسرح بالسينما كونهما متشابهين في المضمون ومختلفين في الشكل، فالمسرح قد إكتسب علاقة حديثة الزمن بالسينما، في حين أن علاقته بفنون العرض الأخرى هي علاقة متجذرة في التاريخ، وهنا نشير أن المسرح منذ البدايات كان جامعا للفنون البصرية والسمعية جمعاء وسوف نتحدث عن هذه العلاقة لاحقا.
في البداية لابد وأن نشير الى الإنسان قد تغير بعد إختراع الآلة البخارية منذ قرنين تقريبا أو أكثر، يعيش مع وسائل إنتاج جديدة بصفة إلزامية فقدرته لمجاراة السرعة في الإنتاج لم تعد كافية لذلك أصبح ملزما عليه الإلتجاء الى قدرة خارجية ليتوازن الانتاج مقابل الطلب، لكن مع بداية ظهور الأساسيات الاولى للانترنت في خمسينات القرن الماضي.
ومن ثم الانتشار أكثر فأكثر في التسعينات من القرن العشرين بدأت تظهر علامات التغيير في التركيبة الاجتماعية للأفراد ولكن مع بداية الألفية الثانية وهي المحطة الأكبر في علم الأنترنت عندما إكتسحت هذه الذبذبات اللامرئية كافة دول العالم لتصبح وسيلة للاتصال الجماهيري، أصبح الانسان حينها أكثر إرتباطا بعضه البعض واصبح نقل المعلومات والبيانات أكثر يسرا وأسرع من ذي قبل.
المتتبع الآن للسينما بعد الالفية الثانية تقريبا يلاحظ عدة تغيّرات طرأت على مجريات الانتاج السينمائي، لقد تطورت وسائل الإنتاج بصفة رهيبة، وأصبحت الصناعة السينمائية والتلفزية أكثر يسرا، فتصوير المشاهد التي كانت تتطلب الانتقال من المكان الى مكان، لم تعد كذلك فقد وجدت استديوهات للانتاج توفر فضاءات للتصوير، يمكن لأي انتاج سينمائي أو تلفزي أن يصور كل مشاهده في مكان واحد دون الحاجة الى الانتقال الى فضاءات واقعية.
وكل هذا بفضل التكنولوجيا المعتمدة، كما أن السينما باتت في متناول المشاهد أين ما كان وبكل يسر وفي كل وقت عبر التلفاز وعبر الهاتف، كما أن هذه الثورة التكنولوجية ألهمت صناع السينما مجالا واسع النطاق للإنتاج بغزارة وفي حيز زمني محدود، في مقابل ذلك فإن الانتاج المسرحي لم تخدمه التكنولوجيا بقدر ما جعلته يصارعها من أجل البقاء خصوصا.
إن الدارس للفن المسرحي والسينمائي على حد السواء قد يلاحظ جيدا ان السينما قد تأثرت بتطور وسائل الإنتاج أو بالأحرى أن تطور وسائل الانتاج هو سبب رئيسي في ظهور السينما، ولكن مع مرور الوقت أصبحت وسيلة رأسمالية بإمتياز تُدعم من كبرى الشركات العالمية، كما لا نستثني أنها كانت وسيلة للتسويق السياسي، وبالتالي أصبح من الضرورة تطوير السينما لأجل مواكبة العصر،
فالسينما في ارتباط وثيق بمن يملكون الرؤية المستقبلية للتكنولوجيا، فرؤوس الاموال التي تدعم الفن السينمائي هي نفسها تستثمر في تكنولوجيا المستقبل وبالتالي فإن أول القطاعات التي من الاقرب أن تشهد طفرة سريعة في عالم الذكاء الاصطناعي هي قطاعات السينما والاعلام خصوصا وأنها وسيلة للتسويق.
- مستقبل المسرح (1) : من التناسج الثقافي الى مسرح مابعد الدراما
سوف نسوق مقولتين إثنين وهما على النقيض من بعضهما البعض وكلاهما سيق خلال مهرجان أفينيون للمسرح في فرنسا، «يبدو أن المسرح لا يستطيع أن يموت لأنه إذا مات يدفن معه كل الفنون البديلة المعاصرة التي انبثقت منه وكيف يمتلئ البحر إذا جف الينبوع»، قالها مدير المهرجان برنار دارسييه Bernard Faivre D’Arcier في إفتتاح الدورة خمسون من المهرجان.
أما المقولة الثانية فقد قيلت على لسان أحد الحاضرين عندما انعقدت الندوة الفكرية والتي ناقشت موضوع “مستقبل المسرح” قيلت في إشارة الى هذا الفن الذي بلغ من الإكتشاف ومن ثم الممارسة عشرات القرون «بل صار يبدو كأنه في طريق الانقراض أو في أحسن تقدير، في طريقه الى المتحف»*.
لقد ايقنوا حينها وفي تسعينات القرن الماضي أن المسرح قد إزداد بعدا عن مركز الاهتمام، ولم يعد كما في السابق، وأوضح دليل على القيمة التي تحسب للمسرح حين كان يتعرض للرقابة السياسية إلا أنها ألغيت في فترة ما ليس لفتح أجنحة الحرية أمام المسرحيين بل تم توجيهها نحو وسائل الاتصال البديلة (السينما، الراديو، ثم التلفزيون)، حينها استشعر المسرحيين أن المسرح تراجع من حيث التأثير، لقد بات من الضروري إسترجاع المشاهدين الذي تناقصوا وتوجهوا للسينما والتلفزيون، ظهرت العديد من الدعوات لايجاد الحلول والبحث عن بدائل تعيد للمسرح توهّجه.
منذ الوعي بتلك الازمة الحقيقية تغيرت طبيعة العروض المسرحية ولم يعد الغرب مصدّرا للفن بل ظهرت دعوات الى الانفتاح على تجارب فنية وموروث ثقافي مخالف فتوجهت الانظار الى الشرق الاسوي وبدؤوا في انفتاح حضاري، وهو ما اسمته الباحثة الألمانية اريكا ليشر فيشته بتناسج ثقافات الفرجة الذي يلغي مفهوم الخصوصية الثقافية لصالح ثقافة كونية واحدة مشتركة.
أولى التجارب وأكثرها شهرة العرض المسرحي المستوحى من ملحمة المهابهارتا الهندية التي رسم خطوطها المخرج الانجليزي بيتر بروك والذي بدأ رحلته العالمية في ايران “وتوغل مع تلاميذه في القرى النائية لإفريقيا السوداء، واستوحى أعمالا من مذهب الزن ومن كل المذاهب الصوفية في العالم، وطلع بنظرية ضمنها كتابه «المساحة الفارغة»”[17]، لكنّه في الأخير إستوحى عرضا مسرحيا ضخما هو الأطول في تاريخ المسرح ويسرد ملحمة تاريخية هي الأشهر في شرق آسيا، “قسّمه بروك الى ثلاثة أقسام أو ثلاثة سهرات كل سهرة ثلاث ساعات، وكل سهرة عنوان جزء من المسرحية. بحسب التجزئة التي إرتآها بروك للملحمة «لعبة النرد» و«المنفى في الغابة» و«الحرب»”[18]،
لم تكن تجربة بيتر البروك هي الوحيدة بل لحقتها تجارب أخرى بدورها كانت منفتحة على الشرق الاسوي وظهر تناسج ثقافي بين الغرب والشرق من حيث الأشكال الفرجوية التقليدية ونذكر على سبيل المثال اعتماد المخرجة المسرحية الفرنسية اريان موشكين تقنيات المسرح الياباني في عروضها المستوحاة من نصوص شكسبير، بل ان اوجينيو باربا هو ايضا استوحى من مسرح النو والكابوكي اليابانيين ما يخدم اعماله المسرحية.
بين مسرح الكابوكي العاطفي الذي تكون اللغة فيه رقصا يابانيا والنو الذي يعتمد الأقنعة ذات الطراز الياباني التقليدي والسينوغرافيا الفريدة، وبين المسرح الغربي الذي يتضح فيه الصراع بين الشخصيات من خلال غلبة للنص والمقروء السمعي، أي بين صورة آسيوية ومسموع غربي إمتزجت ثقافات الفرجة العالمية، وللعلم فإن هذا التناسج الثقافي لم يكن ذو مسار واحد غربٌ يقتبس ويحاكي الشرق بل الشرق نفسه إحتك بنصوص الغرب “فقد استعمل مسرح الكاتاكالي تقاليده الفرجوية الخاصة لتقديم قصة Dr Faustus التي اقتبسها المسرحي الهندي Girish Karnad”[19]
وأعتقد أنها ساهمت في ظهور احد المصطلحات المعقدة وهو مصطلح مابعد الدرما، والرغم أن الحديث عنه كان في تسعينات القرن الماضي إلا أنه لا يزال يشغل الباحثين الى الآن، أطلقه لأول مرة المنظر المسرحي الألماني هانز تيز ليمان عندما أصدر كتابه مسرح مابعد الدراما سنة 1999، حيث أقر بأن سلطة النص في العرض المسرحي بدأت تتلاشى.
- مستقبل المسرح (2) : مسرح مابعد الإنسانية
تتضح قساوة مصطلح ما بعد الانسانية كونه ينبئنا بالمرحلة التي سوف تتجاوز فيها قدرة الإنسان هذا الكائن الذي عمّر الأرض لملايين السنين، ويمكن القول أن مرحلة مابعد الإنسانية هي مرحلة تستمد شرعيتها من نظام العولمة.
علاقة الانسان بالفن هي علاقة قديمة قدم الانسان، فالانسان إخترع الفن بأشكاله المتعددة بناء على عدة اعتبارات “إرضاء لدافع آخر، قد يكون دافعا دينيا، أو رمزيا أو عقليا وقد يكون دافعا لا شعوريا فقط”[20]، كان الانسان البدائي فنانا دون أن يعي بذلك فقد كان يتمرس ويتعلم الحياة وهو يحاكي الطبيعة، لقد كان الانسان البدائي يمارس الفن ولكنها ممارسة لا شعورية.
واذا كان المسرح بدأ بطقوس دينية عند اليونان أي أنها ممارسة لابد منها ومن ثم تغيرت القاعدة ليدخل المسرح معركته مع الزمن لأكثر من ألفي سنة ويصمد أمام كل الازمات على مر التاريخ إلا أنه اليوم يتعرض الى تراجع بسبب تغيّرات العصر السريعة التي غيّرت معها التركيبة الديمغرافية المجتمع.
إن المسرح اليوم في مرحلة حساسة وإذا كان في فترة زمنية ما، يتنافس مع السينما والتلفاز على استقطاب المشاهد فإن اليوم ثلاثتهم يعيشون نفس الأزمة، فالتطور التكنولوجي الحديث وظهور وسائل اتصال جماهري أحدث وأسرع أسهم في تراجع هذه الوسائل لحساب السوشيال ميديا والمنصات الالكترونية وتطبيقات الهاتف.
غير أن السينما والتلفاز هي الأقرب لأن تجد حلولا لكونها وُلدت في خضم التطور التكنولوجي، وجدت السينما حلا حيث أصبحت العروض تعرض للمتفرجين ليس في قاعات السينما كما في السابق بل هناك تطبيقات تشترى إلكترونيا ويمكن ولوج لها عبر الهاتف، أيضا القنوات التلفزية هي الاخرى وجدت حلا بإنشاء تطبيقات خاصة بالقناة يمكن متابعتها عبر الهاتف، أما المسرح ولأنّ تشكله الأول وتطوره كان في دائرة الأدب الكبرى وفي خضم العلوم الإنسانية، فإن الحلول لا تزال مفقودة مثله مثل الآداب والصحافة المكتوبة، وبأوضح معنى فإن كل المجالات التي تدعوا الى الابداع قد تأثرت بهذا التطور التكنولوجي.
نقولها وبصريح العبارة لقد تغيرت كل المعادلات الزمنية والمكانية الفنية ولكنها تغيرت لفائدة ثقافة الاستهلاك وعلى حساب ثقافة الابداع، حتى أصبح الفن يقدّم لفائدة المشاهد المستهلك بعد أن كان يقدّم لفائدة المشاهد المواطن، إن الانسان الحديث يستهلك الفن كما يستهلك الغذاء، الفن الذي وُجد لخدمة الإنسان وايقاظ الفكر البشري أمام بشاعة الواقع لم يعد كذلك.
تحدثنا سابقا على أن ظهور مفهوم مابعد الإنسانية لم يكن من فراغ بل كان يبحث في علاقة الانسان بالتطور التكنولوجي السريع وعلى قدرة الانسانية على مجاراة عصر الذكاء الاصطناعي، ولنكون أكثر وضوحا في هذا الشأن علينا أن نشير إلى نقطة مهمة وهو الحديث عن المنصات الإلكترونية المسماة “منصات التواصل الاجتماعي” والتي لم تساهم سوى في إنفصال الإنسان عن واقعه الأصلي، يعيش فراغ إجتماعي ملموس داخل فضاء إفتراضي وهمي، وهذا الانفصال قد أثّر سلبا على كل الميادين، فالإنسان المتقبل أصبح من السهل عليه إمضاء ساعات طوال لوحده واقعيا والتواصل مع افراد آخرين إفتراضيا، هنا قد نعود للسؤال المطروح أيّ تأثير قد تتركه هذه المنصات الالكترونية الافتراضية على علاقة الانسان المتفرج بالمسرح كونها تقام في فضاء واقعي ملموس، وهذا التأثير شهدناه حين تناقصت أعداد المشاهدين للمسرح وأصبحت القاعات تمتلئ سوى بالمتفرج الفنان الذي يمارس مهنة الفن.
رائد خضراوي : أستاذ تعليم ثانوي باحث متحصل على الدكتوراه في المسرح وفنون العرض – تونس
وهذا ما يحتّم علينا إعادة النظر في مفهوم المسرح في عصر الذكاء الاصطناعي، فالمسرح بالمعنى الدرامي للكلمة هو علاقة لثلاثة أطراف “المتفرج، الممثل ،الفعل”، فإذا غاب طرف من هذه الأطراف غاب معه المعنى الدرامي للمسرح، إلا أن المتغيرات الحديثة تجاوزت معنى الانسانية، فالقراءات الحديثة للمجتمعات القادمة تنبئنا بعالم إفتراضي لكل المجالات في المستقبل، وهو إشارة الى العالم الإفتراضي المسمى ميتافيرس Metaverse وهي مساحات عبارة عن رقعة أرض إفتراضية.
أي أنها سوق عقارية إفتراضية تتشكل داخلها مبانٍ ومؤسسات ويتسابق المستثمرين من كل المجالات للإستثمار فيها، وعندما يتشكل هذا العالم بمؤسساته ومحلاّته وشركاته وأسواقه الوهمية في المستقبل حينها يستطيع الإنسان المستهلك الولوج لهذا العالم عبر الحواسيب والهواتف وقضاء شؤونه دون ان يخطو واحدة خارج منزله والاستغناء عن واقعه الملموس، حينها سوف يصبح هذا الانسان المستهلك مجرّد ممثل داخل هذا العالم الوهمي.
حينها هل يمكن أن يكون مسرح بكافة تفاصيله التي نعرفها اليوم ؟ فنحن قد نكون أمام مسرح مابعد الإنسانية.
[1] غاستون باشلار، حدس اللحظة، تعريب رضا عزوز وعبد العزيز زمزم، دار الشؤون الثقافية العامة آفاق عربية ، العراق بغداد، طبعة ص 77
[2] غادة إمام ، عاستون باشلار جماليات الصورة ، التنوير للطباعة والنشر بيروت لبنان ، طبعة أولى 2010 ص 29
[3] إثنولوجيا انتروبولوجيا، فيليب لابورت/ تولرا جان / بيار فارنييه ترجمة مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع طبعة اولى 2004 بيروت لبنان ص 52/51
[4] الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الانماء العربي، المجلد الأول، الطبعة الأولى 1976 ص 131-130
* يقصد هنا بالبهيمية أي الحيوانات.
[5] أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق محمد ابو الهادي ابو ريدة، دار الفكر العربي، 1950 ص 179
[6] رسائل إخوان الصفا وخلاّن الوفاء، المجلد الثالث، مركز النشر- مكتب الاعلام الاسلامي ، طهران ص 31
[7] الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الاول )الاصطلاحات والمفاهيم( ، معهد الانماء العربي، ص 131
[8] مسرح القرن العشرين ، اختيار وتقديم عصام محفوظ، الجزء الثاني (العروض) دار الفارابي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2002 ص 360
[9] رولان بارت ، أسطوريات، أسطرة الحياة اليومية، ترجمة قاسم مقداد، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سورية دمشق 2012 ص 129
[10] التمثيل السينمائي، ماري ايلين اوبراين، ترجمة رياض عصمت، منشورات وزارة الثقافة ـ المؤسسة العامة للسينما دمشق 2001 ص 19
[11] نفس المرجع السابق ص 20
[12] مناهج عالمية في الاخراج المسرحي، كمال الدين عيد، الجزء الاول، سان بيتر للطباعة 2002 ص 217
[13] نفس المرجع السابق ص 219
[14] نفس المرجع ص 230
[15] نفس المرجع ص 223
[16] معجم المسرح باتريس بافيس ص 95
* المقولتين أخذ من كتاب مسرح القرن العشرين الجزء الثاني (مرجع سابق)
[17] مسرح القرن العشرين، اختيار وتقديم، عصام محفوظ، الجزء الثاني (العروض) ص 144/145
[18] المرجع السابق ص 145
[19] من مسرح المثافة الى تناسج ثقافات الفرجة، ايريكا فيشر ليشته، ترجمة خالد امين منشورات المركز الدولي لدرسات الفرجة طبعة أولى 2016 ص 60
[20] هربرت ريد، الفن والمجتمع، ترجمة فتح الباب عبد الحليم، مطبعة شباب محمد صل الله عليه وسلم، ص 23
- المراجع
- الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الانماء العربي، المجلد الأول، الطبعة الأولى 1976
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق محمد ابو الهادي
ابو ريدة، دار الفكر العربي، 1950
- ماري ايلين اوبراين ، التمثيل السينمائي، ترجمة رياض عصمت، منشورات وزارة الثقافة ـ المؤسسة العامة للسينما دمشق 2001
- رسائل إخوان الصفا وخلاّن الوفاء، المجلد الثالث، مركز النشر- مكتب الاعلام الاسلامي، طهران
- رولان بارت ، أسطوريات، أسطرة الحياة اليومية، ترجمة قاسم مقداد، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سورية دمشق 2012
- غادة إمام ، عاستون باشلار جماليات الصورة ، التنوير للطباعة والنشر بيروت لبنان ، طبعة أولى 2010
- غاستون باشلار، حدس اللحظة، تعريب رضا عزوز وعبد العزيز زمزم، دار الشؤون الثقافية العامة آفاق عربية ، العراق بغداد
- فيليب لابورت/ تولرا جان / بيار فارنييه، إثنولوجيا انتروبولوجيا، ترجمة مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع طبعة اولى 2004 بيروت لبنان
- مسرح القرن العشرين ، اختيار وتقديم عصام محفوظ، الجزء الثاني (العروض) دار الفارابي بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2002
- معجم المسرح باتريس بافيس ، ترجمة ميشال ف. خطّار، المنظمة العربية للترجمة، بيروت لبنان طبعة اولى 2015
- من مسرح المثاقفة الى تناسج ثقافات الفرجة، ايريكا فيشر ليشته، ترجمة خالد امين منشورات المركز الدولي لدرسات الفرجة طبعة أولى 2016
- مناهج عالمية في الاخراج المسرحي، كمال الدين عيد، الجزء الاول، سان بيتر للطباعة 2002
- الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الاول )الاصطلاحات والمفاهيم( ، معهد الانماء العربي
- هربرت ريد، الفن والمجتمع، ترجمة فتح الباب عبد الحليم، مطبعة شباب محمد صل الله عليه وسلم.