منذ نشأتها، كانت السينما سترة النجاة على متن سفينة غارقة، تساعد الركاب على الطفو على سطح البحر الهائج، وتستعرض نماذج من البشر تمكنوا من تجاوز المآسي المالية من دون أن يتخلوا عن إنسانيتهم.
كرِّست بعض الأفلام للكوارث الاقتصادية العالمية، ولزلازل الأزمات التي ضربت المراكز المالية الأهمّ، كما في فيلم: “وول ستريت: النقود لا تنام”/Wall Street.. Money Never Sleeps (1978).
ركزت بعض الأفلام على إظهار أنّ الإنسان أهمّ بكثير من المال، وظهرت فيها الأزمات المالية كمجرد خلفية تبرز هذا المفهوم.
- الكساد العظيم
كانت الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت أسواق المال في ثلاثينيات القرن العشرين هي الأزمة الأبرز في تاريخ أزمات الرأسمالية. فعمّت البطالة، وشهدت المدن مسيرات الجوع، وأعلن أكثر من نصف البنوك الأميركية الإفلاس، وشهدت المجتمعات ارتفاع معدلات الجريمة، وانتشار التجارة السريّة، وتزايد أنصار الأحزاب القومية.
أصبح الكساد العظيم موضوع صناع السينما المفضّل، فكانت أفلام: “عناقيد الغضب/ The Grapes of Wrath” عام (1940)؛ “بوني وكلايد/ Bonnie Parker and Clyde Barrow”؛ “حدث ذات مرة في أميركا/ Once Upon a Time in America” عام (1984)؛ “أوه، أين أنت يا أخي؟/ O Brother, Where Art Thou?”، بمثابة توثيق لحياة أناس (صغار) في أثناء الكساد العظيم بكل تفاصيله.
غير أنّ أبرز وأعظم الأفلام التي تناولت الأزمة، كان فيلم “الأزمنة الحديثة/ Modern Times” لشارلي شابلن عام 1936، الذي ودّع من خلاله مرحلة السينما الصامتة:
بطل شارلي شابلن الكلاسيكي متشرد ضئيل الجسم لا يستطيع بشكلٍ من الأشكال دخول الأزمنة الحديثة. هو مجبر على أن يصبح جزءًا من ميكانيزما تسحق البشرية. إنه زمن الكساد العظيم، الزمن الذي لا تجد فيه ما يستحق الحياة، فالآلات تزيح العمال، ويمكن للسلطات أن تعتقل من تشاء، فقط لأنّه رفع علمًا سقط من شاحنة مرّت بجانبه.
“الأزمنة الحديثة” دليل إرشادات في أوقات الأزمات الاقتصادية، فهو يصرخ: لا تخشوا الظهور على رأس الجمهور، لا تخشوا السجون ولا…….. ولكن لا تسعوا إلى كلّ هذا بأرجلكم. المهمّ أن يكون بجانبكم مثل هذا “الرجل الصغير”، وليس رجلًا عاملًا على خط سلسلة الإنتاج.
شهدت سبعينيات القرن الماضي أحداثًا كبيرة، منها: التخلي عن المعيار الذهبي عام 1971، وأزمة النفط عام 1973، والتضخم، والإفلاس. كما بدأت أزمة سياسية غير مسبوقة، شكلت فضيحة “ووترغيت” بدايتها. وكما هو معروف، فقد شهدت الولايات المتحدة بداية السبعينيات أزمة لم تعرف أقسى منها منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين.
ارتفعت معدلات البطالة في الفترة (1980 ـ 1982) إلى مستوياتٍ قياسية فاقت 11%، كما سجّلت معدلات الجريمة أرقامًا قياسية غير مسبوقة، لتشكّل تلك الأزمة حافزًا قويًا دفع صناعة السينما إلى رصد تأثيرات الأزمة الاقتصادية على البشر، فكانت أفلام من قبيل: “فجر الأموات/ Dawn of the Dead”، للمخرجين جورج روميريو، داريو أرجنتو (1978) الذي يعد أحد أفضل أفلام رعب الزومبي في التاريخ.
يشنّ الزومبي هجومًا على سوبر ماركت، بينما تحاول صحافية تقود مروحية على متنها اثنان من القوات الخاصّة وحدهم التصدي لجحافل الزومبي (الأموات ـ الأحياء). الفيلم ليس مجرد سخريةٍ دامية من مجتمع الاستهلاك الأميركي، ولكنّه أيضًا قصّة تحكي الانحطاط السريع للمجتمع نفسه.
يعمل السوبر ماركت، وكأنّ العالم لا يعلم بالزومبي، ولا يعرف بوجود الجائحة، حيث يتضح أن السوبر ماركت هو فرودس من نوعٍ ما يسعى إليه زومبي الأحياء والأموات، باعتباره “المكان المهمّ في حياتهم السابقة”، يقارنه المحللون بالعامّة البروليتارية المحتشدة، وكذلك بالبرجوازية. كما أنّهم يرمزون إلى عمليات اقتصادية: أموال ميتة تدور في متاجر لامتناهية الأبعاد.
أحد الأفلام الرائعة التي رصدت فترة الثلاثينيات في أميركا فيلم “بلدة دوغفيل/ Dogville” للمخرج لارس فون تريير عام 2003.
الفيلم هو أحد أكثر أفلام السينما قسوة في القرن الواحد والعشرين. يتحدث عن الوضاعة البشرية، النفاق، عن الخطايا واستحالة غفرانها. وأخيرًا، عن أنّه كلما كانت مقاومتك أقّل، كلما كان تحولك إلى رمادٍ أسرع. البطلة غريس (مثال الكياسة) تجد نفسها عام 1930 في مدينة صغيرة.
ألقيت على عاتقها مهمة الحصول على مساندة سكان مدينة دوغفيل، وهم مجرد أناس عاديون بسطاء بعاداتهم الغريبة الصغيرة. يطرح الفيلم سؤالًا: لماذا يؤدي عدم التصدي للشر في الوقت المناسب إلى مزيدٍ من الشرّ؟ ولماذا يودّ المشاهد مع نهاية الفيلم، كما فعلت غريس، أن “يطلق النار على الجميع، وأن يضرم النار في المدينة كلّها”؟
- المعجزة الألمانية
كتب بعض الباحثين أن ألمانيا ما بعد الحرب كانت بلاد “أجهزة الجوع والخوف، ولكنّ عملية الإصلاح النقدي واعتماد اقتصاد السوق الحرة أدّت إلى ظهور ’المعجزة الاقتصادية الألمانية’”.
في فيلم “زواج ماريا براون/ Die Ehe der Maria Braun” للمخرج راينر فيرنر فاسبيندر (1979)، يطرح المخرج رأيًا مخالفًا: بطلة الفيلم، ماريا براون- زوجة من دون زوج: كان الزوج جنديًا في الحرب العالمية الثانية انقطعت أخباره تمامًا، ولكنّه يعود ليلقى عليه القبض ويزج في السجن لجريمة لم يرتكبها.
تستمر ماريا في حبّ زوجها، ولكنها تستسلم لأولئك الذين يعود الاستسلام لهم عليها بالمنفعة. في نهاية الأمر، تقتل المرأة إمّا عن طريق الصدفة، أو لأنّها نسيت عمدًا إغلاق الغاز. إنّه فيلم دراما عن امرأة قوية، في إشارةٍ إلى ألمانيا ما بعد الحرب، وهو تحليل لاذع لمصادر “الأعجوبة الاقتصادية” الألمانية.
كان راينر فيرنر فاسبيندر، اليساري الفظّ والعبقري، يتحدث دائمًا ليس عن الناس، بل عن الشغف، وليس عن العادات، بل عن “استغلال المشاعر، بغض النظر عمّن استغلّها”.
- السينما الآسيوية
عاشت دول آسيا عام 1997 أزمة اقتصادية خانقة، فأنتجت السينما عددًا من الأفلام المرتبطة بأزمة نهاية التسعينيات، منها: فيلم “Old Boy” عام 2003، للمخرج الكوري الجنوبي باك تشان أوك، الذي جاء دراما ـ كوميدية تكاد تكون تراجيديا شكسبيرية تفوح منها رائحة الدم والسخط. أمامنا رجل أعمالٍ تافه، ثرثار، سكّير، وسافل، يصبح فجأةً محتجزًا في غرفةٍ في فندق، حيث يقضي 15 عامًا بائسة، من دون أن يعرف لماذا سُلبت حريته.
بعد خروجه، يقرّر الانتقام، ولكنّه يجد نفسه وقد أصبح أداةً انتقام بيد الآخرين. عندما كان البطل يجلس وحيدًا في حجرته، كان يطلعونه على الأخبار، بما في ذلك كيف تجاوزت كوريا الجنوبية أزمتها الاقتصادية. ينفي المخرج باك تشان أوك أن الفيلم يتضمن نصًّا فرعيًا سياسيًا، بيد أنّ الباحثين على يقين أنّ بطل هذه الدراما الصامت، الذي يحب أن يلوح بالمطرقة، أو شاكوش المسامير، يرمز إلى صدمة ما بعد الأزمة.
- أميركا الجنوبية
في الأرجنتين، بدأ الكساد العظيم بعد الأزمة المالية التي ضربت روسيا والبرازيل عام 1998، واستمر حتى عام 2002. في تلك الفترة، كان نصف الأرجنتين يعيشون على حافة خط الفقر. هذه الفترة، وحياة الناس في أثنائها، رصدها فيلم “عالم عامل الرافعة/ Mundo grْa” للأرجنتيني بابلو ترابيرو/ Pablo Trapero (1999).
إنّه فيلم الواقعية الجديدة، إنّه دراما هادئة عن إنسانٍ عامل تمكن بشكلٍ ما من مواجهة الأزمة. البطل في الخمسين من عمره تقريبًا، يقبل العمل كعامل رافعة برجية في البناء، ضاربًا عرض الحائط بنصيحة الطبيب الذي نصحه بالتخلص من وزنه الزائد، وبالإقلاع عن التدخين، والذي لم يستطع إيجاد لغةٍ مشتركة مع ابنه، يستذكر سنوات شبابه العاصفة ضمن مجموعة موسيقية.
كلّ ما يجري في الفيلم لا يؤدي إلى مكان. فالبطل يحاول النجاة في العاصمة بوينس أيرس، أو يسافر إلى باتاغونيا، يعمل مع أصدقائه، أو مع آخرين لا يعرفهم، يحصل أحيانًا على أجره، وأحيانًا لا يدفع له مشغلوه. وفي كلّ الأحوال، كان ردّه على هذا العالم تفاؤل الخاضع المستكين. جاء الفيلم نسخة جديدة عن فيلم شارلي شابلن “الأزمنة الحديثة”. ومن هذا الفيلم تحديدًا، انطلقت السينما الأرجنتينية الجديدة.
- أزمة 2008
أدت الأزمات الاقتصادية إلى ظهور جائحة حقيقية من أمراض الكآبة أصابت كثيرًا من الناس، فرصدتها السينما في أفلام عدّة على غرار فيلم “ييلا”/ Yella (2007) للمخرج الألماني كريستيان بيتسولد/ Christian Petzold، ليكون في الوقت نفسه نذيرًا لأزمة 2008 الاقتصادية.
ترتحل البطلة إلى مدينةٍ كبيرة لتتوارى عن أنظار زوجها المضطرب نفسيًّا، فتتمكن من إيجاد عملٍ جيد. رئيس عملها رأسمالي مغامر. لم يكن مهمًّا إن كان يخدع زبائنه أم لا. المهمّ أنّ كلّ هذا كان حلم غيبوبة موت البطلة. يعتبر رائد “المدرسة البرلينية” كريستيان بيتسولد أنّ الرأسمالية تدمّر الشخصية الإنسانية.
في واقع الأمر، الفيلم طبعة جديدة من فيلم هيرك هارفي “كرنفال الروح”/ Carnival of Souls (1962) الذي تحدث عن أنّ الرأسمالية تعيش آخر سنوات عسلها، ثمّ حلّ عام 2008، لتفهم الرأسمالية أنّ كلّ ما جرى كان مجرد صراع.
- توحش الرأسمالية
آخر الأفلام التي تستحق الحديث عنها هو فيلم “أرض الرحّل/ Nomadland” المنتج عام (2020) للمخرجة الأميركية ـ الصينية الأصل كولي زهاو/ Chloé Zhao. حصد الفيلم ثلاث جوائز أوسكار، عن أفضل فيلم، وأفضل إخراج، وأفضل دور نسائي للممثلة فرانسيس ماكدورمان، بالإضافة إلى أكثر من 250 جائزة أُخرى من مختلف المهرجانات.
بعد موت زوجها، وبعد أن محيت بلدتها من الخارطة بعد الركود الاقتصادي، راحت البطلة تتنقل في جرارٍ عبر الولايات. في الطريق، تلتقي بأناسٍ رحّلٍ يخبرونها بحكاياتهم. رحّلٌ حقيقيون، وحكاياتهم أيضًا حقيقية، الدفء الإنساني، القلق ونفاد الصبر، روعة المناظر الطبيعية، توحّش الرأسمالية، كل هذا حقيقي أيضًا.
إنّه تجسيد سينمائي وثائقي لأبحاث جيسيكا برودر يقع على الحدّ الفاصل بين ما هو خيالي، وما هو غير خيالي، يعمل كقصيدة، وكعملية مساءلة اجتماعية ـ اقتصادية، ويرفع الصوت محذرًا: على الأبواب أزمة اقتصادية جديدة، ولن تكون الأخيرة.