سينما ومسرح

«شبح الحرية» لبونويل: السيريالية في وجه البورجوازية

حين يُقال سينما سيريالية نجد معلماً واحداً هو لويس بونويل. وعن فيلمه هذا يمكن القول إنه الأكثر سيريالية، دون أن يعني ذلك أن لا حكاية فيه وأن بونويل لم يُحكِم الربط بين مفاصل هذه الحكاية، إنما التنقلات بين المَشاهد، والمَشاهد ذاتها، وتوصيف بونويل لما هو داخل إطار الكاميرا، كان سيريالياً، مفككاً في ظاهره ومتشبثة، مشاهدُه، ببعضها، في باطنه.


في الفيلم مَشاهد تَعلق طويلاً في ذهن المُشاهد، لغرابتها وإمكانية منحها دلالات متباينة، كأفراد يجتمعون جالسين إلى طاولة كراسيها هي مقاعد التواليت، يُنزل الرجال والنساء ملابسهم السفلية ويجلسون للبدء في النقاش الجاد، أما الاستراحة فكانت في التواليت ذاته، إنما يأكل أحدهم فيه ويشرب، يُطرق الباب فيجيب بأن المكان مشغول.

مشهد آخر تبحث فيه الشرطة مع والَدي طفلة ضائعة عن الطفلة، وهي أمامهم يحادثونها كأنها شخص آخر. ومَشاهد أخرى أقل سيريالية في شكلها، وذلك لتبيان نقد خاص ببونويل تجاه نمط الحياة البورجوازي والمؤسسة الرسمية، ما نجده كذلك في أفلام أخرى له منها «سحر البورجوازية الخفي» 1972، و«درب التبانة» 1969. يشكل الفيلمان، مع فيلمنا هذا «شبح الحرية» 1974، ثلاثية موضوعاتية لبونويل.

كعادته، يمزج بونويل بين الحلم والواقع لدى شخصياته، نشاهدها كأنها تعيش حلمها واقعاً. وفي ما يمكن أن يكون تعاقداً بين بونويل ومُشاهده، يطرح أحدنا سؤال إن كان ما يحصل على الشاشة حلماً أم واقعاً، أم مرحلةً ما بينهما. هذا الفصل البين بين العالمين لا مكان له في أسلوب بونويل السينمائي، وفيلمنا هنا أحد أبرز أمثلته.


يدخلنا «شبح الحرية» في هذه العوالم «البرزخية» من مَشاهده الأولى، في بدايات الفيلم حيث ساعي البريد يدخل بدراجته الهوائية إلى غرفة نوم أحدهم ليسلمه بريده، ثم نرى ديكاً ونعامةً يعبران الغرفة، في تَداخل لا بين الواقع والحلم حسب، بل بين الداخل والخارج، داخل البيت وخارجه وكذلك داخل الشخصية وخارجها، فبونويل هنا يطرح قوانينه على مشاهده من البداية، يرميها كحجر نرد لا منطق ولا قياس في ما سيأتي به، يطرح قوانينه في أقساها على ما يمكن أن يكون استيعاباً منطقياً لدى المُشاهد.

فإن مرّ أخدنا بسلام من المَشاهد الأولى (بسلام تعني تجاوز مُساءلة بونويل عن منطقية مَشاهده)، سلكَ إلى متن الفيلم وزاد احتمال استمراره، جالساً أمام العوالم المتداخلة هذه، حتى نهايته.

لا يكتفي الفيلم بنقد البورجوازية في تسفيه الحدود التي تحكمها في شتى مجالات الحياة، في اليوميات، في التوافه، بل يتمدد، من خلال التداخل الذي يحدثه كاسراً المنطق المُعرف مسبَقاً، في المكان إذ لا حدود بين ما أمام الجدار وما خلفه، وفي الذات إذ لا حدود بين ما داخل الشخصية وما خارجها.

كأن الواقع شبح يمر دون حدود وحواجز، دون تعريفات مسبقة مطمئنة تحرص البورجوازية، وفي إسقاطات ذلك اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، على إبقائه، حفاظاً منها على مكانتها الاجتماعية ومصالحها الاقتصادية وانحيازاتها السياسية، كأن الواقع شبح يخترق البورجوازية المتكلفة والمتخمة بقوانينها وحدودها. الفيلم يتخطى البورجوازية في نقده لها، سيريالياً، إلى رجال الدين ساخراً من النفاق الذي يمارسونه.

فالحدود الممحية في عوالم الفيلم، في أسلوب النقد والسخرية والتسفيه، هو كذلك في موضوع النقد، فإضافة إلى البورجوازية، كان لرجال الدين حصتهم، كطبقة موازية في المجتمع، تماهت مع شريكتها في المصالح.

الغرابة في الحوارات تعم الفيلم، وإن كانت المَشاهد، في نسبة منها، لحقيقية المصور، محتفظةً بحد أدنى من الانسجام الواقعي، سنجد في الحوارات انفتاحاً أكبر على توسل السيريالية لتسفيه مواضع النقد في الفيلم، فالكلمات تُصاغ بإمكانية غرابة قصوى لا تصلها الصور المعدة مسبقاً، مهما حاول المخرج قلبَ منطقها.

ينتهي الفيلم (The Phantom of Liberty) في حديقة الحيوانات، نسمع صيحات تنادي بالسقوط للحرية، أمام رجال شرطة وقد أمرهم رئيسهم بإطلاق النار على المتظاهرين، ثم تتثبت الكاميرا على رأس نعامة تتلفت حولها كأنها لا تفهم ما الذي يدور ولماذا يدور.

الفيلم المعروض حالياً على منصة «كانال بلُس» الفرنسية، هو ما قبل الأخير لبونويل، وفيه كما في غيره، لا يكف المخرج الإسباني عن اللعب مع مُشاهديه وإثبات عجزهم عن توقع ما قد يرونه، أو في الإدراك السريع والمباشر لما يرونه، أو في المحاولة اللحوحة لدى كل مُشاهد، في إقامة اتفاق مبدئي مسبق بينه وبين الفيلم، من بداياته، يحدد فيه منطق الفيلم وسياقه وعالمه. هذا كله يتهدم مع بونويل، من أول الفيلم لتُبنى أساساته، بتقدمه، على تهديم المتوقع والمسبَق والمستقر.

لا غرابة، بعد كل هذا الحديث عن التمرد الفني والإنساني الذي يجسده الفيلم، على البورجوازية من ناحية، والكنيسة من ناحية ثانية، أن يشير بونويل في مذكراته «أنفاسي الأخيرة»، إلى أن الفيلم وعنوانه، «تحيةٌ إلى كارل ماركس وشبحه الذي يجول في أوروبا».


سليم البيك: كاتب فلسطيني سوري.

سليم البيك

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى