هل المثقف العربي أمام خطر اندثاره ؟
من بضع سنوات، نظم التلفزيون المغربي مناظرة بين المفكر المعروف عبد الله العروي وشخص غير معروف إلا من القلة من الناس كناشط في المجتمع المدني هو نور الدين عيوش، عن التعليم واللغة العربية.
ظل العروي يدافع عن اللغة العربية باعتبارها لغة لن يتخلى عنها، لأنها لغة 300 مليون من بني البشر، فيما كان الرجل الآخر يتحدث الدارجة المغربية ويدافع عن اللغة الأم من أمازيغية ودارجة مغربية وينطلق من تجربته الميدانية.
بيد أن ما لاحظه الجمهور هو أن العروي لم يصمد في منازلته للناشط المدني وظل أحيانا يتلعثم ويدور حول الفكرة نفسها والمبدأ ذاته، بينما كان هذا الأخير يصول ويجول وكأنه يبني فكرًا جديدًا.
كانت هذه المناظرة فرصة لنا للتفكير في مصائر المثقف العربي، الذي بلور حتى الثمانينيات والتسعينيات نظريات كبرى عن التطور اللامتكافئ والتخلف التاريخي والاختلاف، وغير ذلك من التصورات التي غذت أذهاننا ونحن شباب مشدودون لواقع متسارع التحولات، يعيش احتضار عصر النضال والتحرر وولادة تواصلات سياسية وثقافية جديدة حملها معه عصر الصورة والإنترنت ثم شبكات التواصل الاجتماعي.
تذكرنا هذه المفارقة بتحول العوائد الثقافية بشكل جذري. فلقد كنا في ما مضى نرى الناس في المقاهي منكبة على قراءة الجرائد وتصفحها، وصرنا اليوم نراهم (ومن غير سماعات) يفتحون هواتفهم على ما تدره مواقع اليوتيوب والتيك توك وغيرها من حكايات وأخبار وتدخلات وآراء وغرائب وعجائب، هذا إن لم يأخذ الواحد منهم (ومن غير سماعات أيضًا) الوقت الكافي للتواصل المباشر مع أصدقائه وعائلته؛ وكأننا انتقلنا من بلبلة برج بابل اللغوية إلى صخب حرب الصور والتسجيلات البصرية.
- عتبات التحوّل الثقافي
لا زلنا نذكر أن أغلب المثقفين العرب لم يستسيغوا الوسائط الجديدة في بداياتها، بل ظلوا متشبثين بالقلم والكتاب والورقة، وأغلبهم لم ينتبه إلى الأهمية المتصاعدة للمواقع في الشبكة العنكبوتية ثم للانخراط في شبكات التواصل الاجتماعي.
والغريب أن “المثقفين” الذين انخرطوا في هذه الحركية الجديدة في بداياتها هم أولئك الذي لم تكن لهم شهرة أو كانوا بحاجة للعيانية وللجمهور ولبناء اسم ثقافي. وحين أضحى هذا العالم أكيدًا ومعتادًا ألفينا المثقفين العرب يلجونه بالكثير من التردد والخجل ويستعملونه استعمال الإقلال والحذر، بعد أن أدركوا أنه ليس عالم الناس العاديين فقط ولا عالم المتثاقفين والمتشاعرين وغيرهم من الكتبة.
وبعد أن فهموا أنه نافذة لهم لتأكيد الحضور وتمتين صلتهم بقرائهم، ونشر ما يعن لهم من أفكار أو الإعلان عن مؤلفاتهم ومحاضراتهم.
بيد أن الفترة التي سوف تؤكد انخراطهم الأعمق في عالم التواصل هذا كانت سنوات الجائحة الأخيرة، إذ رأينا بعضهم يحاضرون على أثير وسائط الاتصال، عن بعد، سيرًا على خطى التعليم عن بعد.
عبدالله العروي لم يصمد في منازلته للناشط المدني وظل أحيانًا يتلعثم ويدور حول الفكرة نفسها والمبدأ ذاته، بينما كان هذا الأخير يصول ويجول وكأنه يبني فكرًا جديدًا |
هذا التعامل يظل مع ذلك محتشمًا واستعماليًا لأنه يوظف تلك الوسائط من غير أن يتوغل في جوهرها المتعدد. الوسائط الجديدة للتواصل ليست وسيلة فقط نطل من خلالها على العالم. إنها تتحول إلى شاشة تحجب عنا العالم الواقعي وتقدم نفسها باعتبارها العالم الجديد.
إنها تقنيات نعيشها في الواقع باعتبارها واقعًا جديدًا لا يمكن إلا أن يغير نظرتنا لها وللعالم الذي نفكره من خلالها.
ولا أدل على ذلك من أن هذا العالم الجديد قد غيّر منظورنا للقراءة وللكتاب وللكتابة أيضًا. فقد تغيّر مفهوم الصحافة وكثرت المواقع الإخبارية والصحافية وولدت أجيال جديدة من الصحافيين أضحوا فاعلين اجتماعيين وسرقوا الأضواء من المثقف “التقليدي” في تدبير الرأي العام وخلق الحدث وتحليل المعطيات وتقديم التفسيرات لها.
يبدو واقع الحال وكأن المعالم التي كنا نعتبرها منارات قد اندثرت لنغوص في عالم كثرت نجومه وتعددت فلم نعد نهتدي بهديها. فالصورة عكس المكتوب، وهي تقوم على الفورية والمباشرة، تجعلنا نعيش الواقع (واقعنا وواقعها) بإيقاع متسارع لا يفتر عن السيلان. وهكذا أضحينا نعيش عالمنا في حاضر كبير لا ماضي ولا ذاكرة له، ومستقبله حابل بالمتوقع الغامض والضباب الكثيف.
- اندحار المثقف وصناعة المؤثر
إذا كانت وفرة الجامعات العربية قد سلبت من المثقف المعروف موقعه التقليدي كموجه للوعي بالواقع وأقامت بدله الخبير التقني المتخصص في شؤون معينة سياسية واقتصادية ودينية وغيرها، فإن الوسائط الجديدة صارت مرتعًا لجميع أنواع التدخل الاجتماعي والثقافي والسياسي.
ثمة شابة في مقتبل العمر تتابع السياسة المحلية في قناتها باليوتيوب، بجرأة غير معهودة، تعلق على الأحداث بشكل مستقل، وتتنطّع لنقد الشخصيات السياسية حتى أكثرها “قداسة” بلغة بسيطة مفهومة. وفي صفحتها بالفيسبوك قد تتحدث عن أشياء أخرى تهمهما شخصيا كأنوثتها أو تسريحة شعرها، أو مرضها وغيابها المؤقت عن “الساحة” أو رغبتها في التسجيل لنيل شهادة الماجستير…
وهنا وهناك قنوات اجتماعية يحلل صاحبها الأحداث اليومية والظواهر الاجتماعية، حتى لا نتحدث عن مواقع “نجوم” الموضة والتمثيل والعرافين وغيرهم… إنه عالم المؤثرين أو الفاعلين الثقافيين والسياسيين الجدد، الذين يحسبون مدى تأثيريتهم وفاعليتهم بالعدد الهائل من متابعيهم، خالقين أرخبيلات يعيش فيها المؤثر براحة تامة واطمئنان كامل، في جزيرته الخاصة، ومنها يخلق متخيله الخاص في تغيير العالم.
بل إنها أصبحت ماركات ثقافية جديدة مسجلة في الإنترنت، ينبغي التعامل معها من حيث هي كذلك. فالمثقف الجديد هو أسلوب جديد في الحياة والتواصل والتأثير والتفاعل بلغة جديدة وبمقاصد قد تكون غريبة غير أنها مستساغة في أرخبيلات الثقافة الجديدة.
وإذا كان قراء المثقفين “التقليديين” اليوم لا يتجاوز الألوف، وأغلبهم صار من الطلبة، فإن أساتذة الجامعات بات أغلبهم يفضل نشر كتب عبارة عن مقررات الدراسة على نشر كتب بحثية مستجدة لمعالجة قضايا تخصصهم في علم الاجتماع أو الفلسفة أو علم النفس أو الاقتصاد والقانون والعلاقات السياسية.
وهذه “المؤلفات” (وهي بمعظمها في الحقيقة تجميع وترجمة في أغلب الأحوال) صارت تحظى بتداول كبير بين الطلبة الذي أضحوا شريحة قراء مضمونة سلفا، مع تكاثر أعدادهم وتزايد الجامعات والمعاهد العليا. بل الأدهى من ذلك، ذلك التهافت على كتب خاصة في المنهجية وفي طريقة إعداد البحث الجامعي وكتابته التي غدت أشبه بكتاب دليل الخيرات أو ألفية ابن مالك.
إذا كان التلفزيون في ما مضى يسمى “صندوق العجب” فإن الهاتف الشخصي غدا عالمًا كاملًا ندخله متى شئنا ونرتاد متاهته (gettyimages) |
هكذا نعيش اندثار المثقف باحثًا ومفكرًا ومنورًا لصالح أشكال جديدة/ قديمة تستعيد صور ما يمكن تسميته بمثقف القرب. فالوسائط الجديدة تعيد بعث الفقيه والواعظ والمفتي في أشكال مبتكرة، لأن الصورة المعززة بالصوت، في حميمية المكان الشخصي، تجعل لكل فرد فقيهه وواعظه ومفتيه، يستمع إليه متى شاء وأراد، وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
فإذا كان التلفزيون في ما مضى يسمى “صندوق العجب” فإن الهاتف الشخصي غدا عالمًا كاملًا ندخله متى شئنا ونرتاد متاهته، وحين نغلقه نكون قد تشبعنا به وشحنّا نفسيتنا وذهننا بما يجعل ذلك مجالًا للمحادثات اليومية بين الأصدقاء والخلان والأقارب.
وهكذا صار المرء يعيش سحابة يومه منغمسًا في عالم هاتفه، وحين يخرج منه يجعله موضوعًا لتفكيره وتواصله فلا تسمع هنا وهناك سوى عبارات من قبيل: “شاهدته في اليوتيوب”، “تحدثت معها في الوتساب”، “ذكره فلان في الفيسبوك أو تويتر”، “يباع في الإنستغرام”.
حين تحدث ريجيس دوبريه عن دائرة الكتابة ودائرة الصورة، أكد على أن عوالم الصورة لن تقتل الكتاب ولن تكون بدلًا له. كان ذلك في بداية التسعينيات. ولم يكن العالم الجديد للتواصل قد صار شاسعًا وفعالًا ومتجذرًا كما هي عليه الحال اليوم بعد ربع قرن. فالصورة والرقمية قد مستا العملة الورقية والمعدنية التقليدية لتخلق العملة الرقمية الجديدة.
والفنانون التشكيليون أضحوا يصنعون لوحات فنية رقمية مشفّرة يبيعونها كما تباع اللوحات التقليدية. إن الصورة التي كانت نسخة فقط لا قيمة لها إلا بالعلاقة مع الأصل صارت أصلًا. وفي مجال الكتاب، يكفي الواحد منا أن يتحدث مع ناشره كي يلاحظ الأسى الذي يلاحظه في كلامه، والمقاومة التي يبذلها للحفاظ على موقعه في الوجود الثقافي.
ولا أدري لماذا لم يتبن الناشرون لحد اليوم بالموازاة مع الطبع الورقي تقنية الكتاب الرقمي، تاركين للعديد من الواقع الحرية في استنساخ كتبهم وطرحها مجانًا للقراء بقرصنة أضحت مشروعة.
لا يخفى أن أشكال المقاومة للتحولات الرقمية والبصرية تحتدّ كلما كانت التحولات جارفة. فنحن لم نعهد في العالم العربي هذا الدعم للكتاب والنشر والترجمة في السنوات الأخيرة، في العديد من بلدان العربي. بيد أن هذه الحركية تشكل مفارقة صارخة: فهي قد جاءت متأخرة زمنيا بكثير عن وقتها.
وهي جاءت في وقت غدا القراء فيه يستعملون الصورة والكتاب الرقمي بشكل أكبر، كما أنها إن هي أبطأت من احتضار الكتاب فإنها لن تحل مشكلات القراءة في زمن الشفهية الجديدة التي تنشرها بشكل واسع الوسائط الجديدة والرقمية للاتصال.
في هذا الخضم، قد يتحوّل البعض من مثقفينا إلى باحثين في الرقمي والافتراضي، وقد يعمل البعض على ولوج هذا العالم للحفاظ على وجودهم. لكن الهوة لا تزداد إلا اتساعًا بين أشكال صناعة “مثقفي العوالم الافتراضية” وابتكارهم وابتداع صورهم الجديدة، حتى إنا لنتكهن أن نصير بعض وقت ليس بالطويل أطلالًا أو هياكل لديناصورات آيلة للانقراض.